الدولة العميقة نعمة؟
خيط ناظم في قناعات الوزير السابق وقيادي العدالة والتنمية “المُعْتزل” المصطفى الرميد هو التمسّك بالنظام السياسي لأنه أفضل المتاح، وفي غياب القدرة على استيعاب بديل آخر يبدو أن لا استعداد لتحمّل تكاليفه ومجاهيله. ومن داخل هذه الرؤية يؤسس لأفكار تروم تجويد النظام لا إزالته، وتقليص هوامش المعارضين دون إلغائهم. وبين حدّيْ هذه الرؤية يميل أكثر إلى الاستثمار في النظام القائم لانتزاع مكاسب يُقَدِّر أنها تتطور ضمن “تراكم إصلاحي متذبذب”، لكنه لا يتجاوز حدّ تسجيل الملاحظات في تعايش مع نزوع سلطوية يسلّم بضرورتها.
كان حوار الزميل يونس مسكين مع الرميد ثرياً، وهو بحكم الشهادة الوثيقة، ورواية لتاريخ قريب من منظور شخصي. الحوار يضيء على جوانب تعني قطاعات واسعة من الفاعلين، وخاصة ممن شاركوه المسار، وسيردّون على نتوءات في سردياته. تحدث وفق قناعاته السابقة المتراكمة، وأيضا الخلاصات المُتَحَصَّلة من تجربة الاستوزار.
تحدث كأنه لا يزال وزيرا: غادر الوزارة ويبدو أنها لم تغادره. خرج من الحكومة ولم يترك عقل الدولة، أو لم يتركه عقل الدولة. حكى عن تجربة عاشت تقلّبات من الشبيبة الإسلامية إلى أن ظهر مدافعا عن الاختيارات الكليّة للدولة وقراراتها، وفي الطريق إلى هذه الوضعية كثيرٌ من مياه الاستدراكات والانعطافات جرت تحت جِسْر الإسلامي الجَسُور يوماً، المحافظ سياسيا اليوم.
الرميد يجسّد حالةً بنتُ هذا النظام المحافظ المشبع بالاحترازات. الرميد تعبير سياسيٌ صلبٌ عن كيفيات اشتغال “المؤسسة”/البنية العميقة لـ”تليين الرؤوس” وتطويع المسارات. الرميد تعبير دالٌّ عن المراوحة بين نزوع الانطلاق إلى الدمقرطة والتعثر، في ظل أنصاف القفزات وأرباع الخطوات، بتثاقل سياسي هو نفسه يراه “بطيئا” لكنه يُرافع بأنه “مضمون”. ولعلّ الرميد الآن نسخة أكثر “واقعية” في ميزان السياسة وإدراك ما يمكن تغييره وما يسْتَصْعبه على نفسه وعلى المجتمع بشأن ممكنات الاختراق نحو الديمقراطية. الرميد نسخة تعبّر عن نفسها بطريقة أكثر فصاحة وترتيباً من نماذج عجزت عن تحصيل مكاسب من داخل البنية القائمة ضمن استراتيجية “التغيير من الداخل”.
الحوار مفيد، لكنه في اعتقادي يجسّد سقفاً منخفضا لدى من يطمحون للديمقراطية، أو على الأقل ديمقراطية “في طريق النمو”. وقد أثار تعبير “الدولة العميقة نعمة” في الحوار جدلا كبيرا. وهنا أوضّح ما أعتقد أنه واجب التوضيح: الرميد أتى على التعبير حين تعرَّض بالكلام إلى سياق إقليمي طوّح بتجارب إسلاميين في الحكم، حتى انتهى من انتهى إلى السجن وفظاعات معلومة في أكثر من بلد. على أساس هذه الخلفية يذكر “نعمة الدولة العميقة”، مادامت كانت رحيمة بحزبه في ظروف مساعدة على اقتراف أبعدَ من البلوكاج الحكومي وإعفاء بنكيران، ثم الخسارة الانتخابية.
من حق الرميد أن ينتهي إلى هذه القناعة مسنودةً بهذا الامتنان الشخصي للدولة العميقة. لكن ما يعنينا كمنشغلين بديمقراطية بلدنا هو الدفع إلى تفكير وممارسة أكثر إنتاجا للتطور نحو دولة القانون والمؤسسات، بدل التسليم بمقولة “الدولة العميقة نعمة”. الدولة العميقة التي يقصد الرميد لربما تعني مرات في ألسنة السياسيين التحكّم، كما روّجت قيادات في حزبه، وتعني المخزن تاريخياً، وكانت تتمثّل في سياقات في أمّ الوزارات، وغيرها من المسمّيات، لكنها في مجملها لا تكاد تنزاح أو تبتعد كثيرا عن البنية الأهم في النظام السياسي: أي الملكية، المُمَأْسسة دستوريا.
وإذا جاز التسليم بهذا، فإننا نتحدث عن بنية فوق سياسية، وفوق انتخابية، يمكن أن تتحرك وتسيطر على مفاصل الدولة دون أن تكون مرئية أو خاضعة للمساءلة، وتملك أدوات تأثير تتجاوز الهياكل التي تفرزها صناديق الاقتراع. وإن كثيرين، وأنا منهم، كما الرميد، يسلّمون بأن الدولة العميقة حقيقة، لكن تقييم أدائها يبقى مثار نقاش. الرميد يراها صمام أمان لحفظ الدولة والمجتمع من الانزلاقات، وصيانة النظام من العُطْل، وتدبير مساحات المختلف بشأنه في المجتمع وفق توازنات تحمي من انهيار الكيان الجامع. الرميد يرى الدولة العميقة نعمة باعتبار الشرط الذاتي المتمثل في تجربة العدالة والتنمية، لكن بعد استدراك الصحافي عليه اشترط تخلّصها من “شوائب الفساد والاستبداد، وأن تكون ضمانة للمغاربة”. هنا يصير لزاما التصريح بأنه لا يوجد من ضمانة أن هذه البينة العميقة المترسخّة ليست عائقا أمام تطوّر الديمقراطية، وألا تتحول إلى مركبات مصالح وامتيازات، لا تخدم المجتمع، الذي “يستحق” دولة ديمقراطية.
بهذا، يكون من لزوم ما يلزم التشديد على وجوب وضع بلدنا في طريق الديمقراطية، باعتبارها الضمانة الوحيدة للسلم المجتمعي، ولاستمرارية الدولة بحيوية وفي كنف شرعية شعبية ضرورية وواجبة. ليس من رجاحة العقل لبناء الأوطان الرهان، بكل تسليم وبحسن نوايا، على كيانات مستترة تتحرك في مفاصل النظام السياسي والمجتمع كشُرْطِي مرور غير ظاهر، لا ضمانة أنه لن يمنح مخالفات ويعاقب وفق الهوى لا القانون. دولة المواطنين، كل المواطنين، دولة ديمقراطية ودولة مؤسسات، حيث تقابل المسؤولية بالمحاسبة، مع الأخذ بعين الاعتبارات الاحترازات التي يعبّر عنها أمثال الرميد دون التسليم بها، نحو مغرب مستقرٍ وقادر ويستطيع. والمغرب قادر ويستطيع.