story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

استرجاع ميلونشون

ص ص

تفرّجنا مساء أول أمس السبت 06 يوليوز 2024، على مباراتين جميلتين برسم ربع نهائي كأس الأمم الأوربية في كرة القدم. ومساء أمس الأحد تفرّجنا على الدور النهائي في انتخابات برلمانية شيّقة عاشتها فرنسا، وحقّق فيها اليسار ريمونتادا تاريخية على يمين التجمع الوطني المتطرّف.
لقد راكمنا في السنوات القليلة الماضية الكثير من الأحاديث السيئة عن فرنسا، وشجّعنا على ذلك ما قدّمه لنا البعض على أنه خصومة سياسية بيننا وبين مستعمرنا السابق. لكن سرعان ما تبيّن أن واقع الحال لم يشهد خصومة ولا “هم يحزنون”، وتابعنا بكل الذهول الممكن، تلك الريمونتادا التي حققتها فرنسا في ميداننا وأمام جمهورنا.
راقبنا صامتين كيف أقبرت الحكومة الحالية بوزيرها الميراوي، كل تلك المشاريع والبرامج التبشيرية التي خلّقها الوزير السابق، سعيد أمزازي، في أدراج مكتبه، والتي جعلتنا نحلم واهمين بالانفتاح أخيرا على العالم الأنغلوساكسوني، من نافذة الجامعة والبحث العلمي.
لهذا، من المهم والمفيد جدا أن نتابع ما يجري في فرنسا، لأنها ما زالت قدرنا الذي لا نستطيع الفكاك منه. إذا لم يكن للاستفادة والاستلهام والاقتباس في كثير من المجالات التي ما زالت فرنسا، رغم تخلّفها وانحطاطها، تسبقنا فيها بسنوات ضوئية، فعلى الأقل من باب “اعرف خصمك”، كي لا نقول عدوّك.
كنت خلال الأسبوع الماضي في تواصل ونقاش مع أصدقاء يتوفّرون على نوافذ كبيرة تطل على كواليس تدبير بعض الملفات الحيوية والاستراتيجية للمغرب. وكان أحدهم يُطق بين الحين والآخر، في ما يشبه تنهيدة تفريغ شحنة ضغط: فقط لو نتخلّص من سطوة فرنسا، لهانت كل المشاكل الأخرى!
يقال إن اثنين لا يتعلّمان أبدا: مستحي ومتكبّر. وأمامنا في الفرجة السياسية الفرنسية المشوّقة، دروس وعبر كثيرة يمكننا توثيقها، على أمل العودة إليها لمحاولة تحقيقها في عصر من عصور المستقبل. وأول ما يجدر بنا تسجيله من هذه الفرجة التعليمية المجانية، هو سقوط تلك الذريعة التي كان البعض هنا ينتظرها للارتداد عن كل وعد سابق بالسعي إلى الديمقراطية واحترام إرادة الشعب والاحتكام للانتخابات وقرار المؤسسات.
لا يا سادة، تابعوا الفرجة الفرنسية أو البريطانية أو حتى الأمريكية على ضحالة عرضها الحالي، لتعرفوا أن السياسة ما زالت حية بمبادئها، وأن الشعوب لم تنسحب من ميدان الدفاع عن حقوقها وحرياتها، وأن لغة المصالح والصفقات مهما سادت وسيطرت، لها سقف منخفض سرعان ما تحطّمه رؤوس المتطلّعين إلى المدينة الفاضلة التي مثلما لن تتحقق يوما، فإنها لن تغادر الضمير الإنساني المتعطش للعدالة والمساواة.
ها هو ذا اليسار الذي أقام له البعض نصبا تذكارية وزيّنها بأكاليل من زهور الجنازات، يقلب الطاولة على يمين المجتمع ويمين الدولة، ويفرض نفسه متصدّرا لمشهد سياسي حدّثنا الكثير من المستغربين (على وزن المستشرقين)، عن انسلاخه عن قيم النهضة الأوروبية وفلسفة الأنوار، وانقياده لحكم الامبراطوريات المالية.
اليسار هو أجمل ما أنتجته الديمقراطية الغربية الحديثة، لأنه في تقديري يسمو بالتطلعات والأحلام والقيم والمثل الاجتماعية، إلى مستوى دائرة الصراع حول السلطة التي تضم الكبار والنافذين والمتمكّنين، في مقابل المرجعيات السياسية اليمينية التي تعبّر عن حركة مضادة، أي هبوط رغبات ونزوات وأطماع الرأسماليين والأثرياء والإقطاعيين، إلى الدائرة نفسها، بحثا منهم عن آلية سلمية لإدارة الصراع، وإن كانوا يدخلون الحلبة بنية الالتفاف والاستحواذ على السلطة بالطرق النظيفة وغير النظيفة.
هذا اليسار بما يعنيه من خوض لغمار السياسة عبر القيم والمبادئ والمثل، هو الذي يهمّنا في الفرجة السياسية التي حظينا بها مساء أمس، خاصة أن التيار السياسي الذي فاز بالصدارة، خاض إحدى معاركنا، حين كان يدافع عن الحق الفلسطيني في الاستقلال بدولة كاملة السيادة، وناهض العدوان الإسرائيلي المستر في غزة.
هذا التيار بزعامة جون لوك ميلونشون، وقف في وجه الأخطبوط اليميني الصهيوني المسيطر على أوساط واسعة من عوالم المال والإعلام وصناعة القرار في فرنسا، وها هو اليوم بعد فوزه، يواجه محاولات الالتفاف على فوزه، عبر تصويره كوجه ثان لعملة التطرّف، تمهيدا لإقصائه من المشاركة في الحكومة، مثله في ذلك مثل اليمين المتطرّف.
ولغريب الصدف، كان ميلونشون، وهو ابن مدينة طنجة، يحقق نصره السياسي والانتخابي الباهر، بشكل شبه متزامن مع مسيرات شعبية ضخمة جابت شوارع مسقط رأسه، مدينة طنجة، تضامنا مع الفلسطينيين وتنديدا بجرائم الإسرائيليين ورفضا لجميع أشكال التنسيق والتعاون معهم.
هناك روح جديدة سكنت العالم منذ سابع أكتوبر الماضي، وهي ماضية في إعادة تشكيل العالم من حولنا، غير عابئة بحساباتنا وتكتيكاتنا.
لقد تابعت في بلاطو إحدى القنوات الفرنسية في سهرة التعليق على نتائج الانتخابية، المناضلة اليسارية مغربية الأصل، نجاة بلقاسم، وهي تصارع ضيفين يمينيين، فقال لها أحدهما إن ميلونشون الذي قاد تشكيل التحالف اليساري الواسع الذي فاز بالانتخابات، معاد للسامية، فردّت عليه نجاة بلقاسم: لقد تلقّيتم ردّ الفرنسيين على هذا الخطاب!
كم شعرت حينها بالغبطة تجاه نجاة التي حققت هذا العبور نحو ضفة الشعوب التي تقول كلمتها بالفعل، ولا تفرح بمجرد السماح بصراخها في الشوارع.
تساءلت وأنا أتابع هذه البروفايلات، مثل نجاة بلقاسم وباقي الفرنسيين من أصول مغربية الذين قالت التقارير عقب الدور الأول من الانتخابات إنهم ساهموا في ترجيح كفة حزب فرنسا الأبية وحلفائه من اليسار… بل حتى وأنا أتابع جون لوك ميلونشون نفسه، ذلك “العايل” الذي أبصر النور في مدينة طنجة وأحبها وتعلّق بها وعاد إليها مؤخرا زائرا: متى نسترجع حلمنا الوطني القديم، بإقامة دولة ديمقراطية تسع الجميع؟ متى نسترجع يسارنا الذي وُلد وتربى على يد اليسار الفرنسي بمختلف فروعه؟ متى نسترجع (رمزيا) ميلونشون الذي وُلد بيننا واختطفته منا فرنسا لحظة اختطاف زعيم يساري اسمه المهدي بنبركة؟