story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

جسر القنيطرة تل أبيب

ص ص

أصعب ما يواجهه المغاربة في الفترة الحالية ليس هو الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المركبة، ولا التهديدات الإقليمية والدولية المتصاعدة. الأصعب في يومياتنا الحالية، هو تلك الكتلة الضخمة من الضباب التي تخيّم على أجوائنا، وتحول دون الرؤية الواضحة الضرورية لفهم ما يجري من حولنا.
باستثناء القلة القليلة التي تحتفظ بانتماء سياسي أو اصطفاف أيديولوجي، يواجه المواطن المغربي اليوم صعوبة كبيرة في إدراك حقيقة ما يجري من حوله، وصعوبة أكبر في منحه دلالة ومعنى، في ظل انسحاب أصحاب الرأي والمختصين، لصالح حضور مفرط حد التخمة، للمبررين، والمطبّلين للشيء ونقيضه.
اختلطت الأوراق وتداخلت الألوان، لدرجة بات تشكيل رأي أو اتخاذ موقف أشبه بالمهمة المستحيلة. ويغذي ذلك أكثر نزعات الانسحاب والانكفاء على الذات والاستقالة من الخوض في الشأن العام. وهو ما يؤدي بالضرورة إلى تركيز القرارات أكثر بين أيدي فئة قليلة، ومتنفذة، وغير عابئة بالصالح العام.
ما يجري حاليا في موضوع القضية الفلسطينية والعدوان الإسرائيلي على غزة، زاد الضباب كثافة، والرؤية غموضا. أين تبدأ المصلحة الوطنية وأين تنتهي؟ وهل المصلحة الفورية المباشرة هي كل ما ينبغي أن نسعى إليه؟ وهل علاقاتنا الرسمية مع إسرائيل شرّ كلّه أم يمكن أن تصبح “فرصة” لإيصال مساعدات طبية وإنسانية عاجلة إلى مرضى وجوعى غزة؟
تزامن أحداث صادمة ومتناقضة يعقّد الأمر أكثر: سفينة عسكرية إسرائيلية ترسو في ميناء طنجة لتحصل على الإمدادات اللازمة وتكمل طريقها نحو فلسطين، حيث يجري العدوان على الفلسطينيين.. ومسيرات وتظاهرات شعبية تطالب يوميا بقطع العلاقات مع إسرائيل، وترفض تنظيم مهرجان “موازين”.. وطلبة جامعة ليست كباقي الجامعات، وهي جامعة محمد السادس متعددة التخصصات، يقتبسون من المناهج الأمريكية أسلوب التفاعل مع القضايا وليس العلوم والمعارف وحدها، ويوجهون لإدارة المؤسسة عريضة تطالب بقطع العلاقات مع الجامعات العبرية.. وبعد كل ذلك، جسر جوي يربط مطار القنيطرة العسكري بمطار تل أبيب، ل… نقل شحنات كبيرة من المساعدات الطبية الحيوية، الموجهة لفلسطينيين قطاع غزة.
“كبة مخبّلة” يزيدها تعقيدا تهافت البعض، وانتهازية البعض الآخر، للبحث عن موقع داخل قلب السلطة. تعالوا نجرّب الاقتراب منها واستلال بعض خيوطها بإعادة الأمور إلى أساسها:
أولا، علينا أن نعي بوضوح أننا نعيش وضعا شديد التعقيد ومرتفع المخاطر. إننا أمام لغم لا تقوى أي من أمم وقوى العالم على تفكيكه أو حسمه لصالحها. بل أمام حرب شاملة يحوضها رجل لا نجازف إذا وصفناه بالأقوى بين بني البشر في اللحظة الراهنة، وهو ينيامين نتانياهو، الذي يقتّل الفلسطينيين بيد ويبتزّ حكّام واشنطن بأخرى، وبين مجزرة وأخرى، يلوّح لنا بخريطتنا مبتورة من نصفها الجنوبي. إنها ليست نزهة ولا حفلة تنكرية، بل عاصفة حقيقية سيكون لها ما قبلها وما بعدها، وسينقسم البشر إلى قسم في عداد ضحاياها وآخرون في سفينة الناجين منها.
ثانيا، الموقف الإنساني والأخلاقي والمبدئي واضح ولا غبار عليه ولا تغيّره أحداث ولا تطورات ولا مبادرات: الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين مظلمة كبيرة، المقصود بها ليس الفلسطينيون وحدهم، بل هو مجرد تفصيل لتوافقات استعمارية شاملة سلّمت المغرب لفرنسا مقابل تخلي هذه الأخيرة عن مصر لبريطانيا ووزّعت الغنيمة العثمانية في المشرق بالطريقة نفسها، والغاية منع قيام كيان سياسي قوي ومتماسك في هذا المجال الذي يقال له العالم العربي. وبالتالي لا مجال لأي تيه أو تردد أو مراجعة للموقف السليم إنسانيا والمنطقي سياسيا: منع السرطان الذين تم زرعه في جسم المنطقة من الفتك بها، لا تهم الطريقة، لكن الغاية الاستراتيجية واضحة.
ثالثا، لقد حكمت علينا أحداث الفترة الأخيرة، كمغاربة، بموقف صعب ومرّ للغاية. موقفنا يختلف عن مواقف جل الشعوب والدول العربية والإسلامية، لأننا لا نشعر بالضعف والعجز فقط، بل حلّت بنا الأحداث الراهنة، وفي مقدمتها حرب الإبادة في غزة، ونحن في حالة علاقات دبلوماسية رسمية مع إسرائيل. علاقات لم تستقرّ بعد على حالة نهائية، بل وجدت من الانتهازيين والمندسّين من يستغلها لإغراق المغرب في بركة تطبيع أقرب إلى الخضوع والتبعية. وأكبر خطر يحب الانتباه إليه في حالة كهذه، هو نسيان الأساسيات والانسياق للاستفزازات والدخول في انقسامات أو توترات داخلية. نحن في دولة وطنية متماسكة وتعرف من أين أتت وتحاول أن تتبيّن إلى أين تسير، والحفاظ على هذا المشترك هو أولى الأولويات، مهما اختلفنا حول التفاصيل والتكتيكات.
رابعا، الدولة المغربية وعلى الرغم من الضغط الخارجي الرهيب، والمناورات الداخلية الخسيسة، تقاوم وترفض أن تسلّم نفسها. نعم لا يرضينا بتاتا موقعنا كدولة مرتبطة بعلاقات رسمية مع كيان ظالم، في لحظة فرز كونية غير مسبوقة، لكن علينا ألا ننسى أن ما كان مطلوبا منا في بدايات العدوان الحالي على غزة، كان هو الوقوف إلى جانب المحتل ضد الشعب المحاصر، وإدانة المقاومة. ولا ننسى أيضا أن خطوة التطبيع نفسها جاءت بعد مقاومة كبيرة، وإثر حدث فارق واستثنائي هو احتلال معبر الكركرات من طرف الخصوم، ثم تمكننا بفضل حنكة وقوة جيشنا أولا، ثم بفضل تغطية وتنسيق دوليين، من تحريره… وبالتالي علينا ألا ننسى، ونحن نطالب محقين بموقف رسمي أكثر تشريفا، ويردّ على الأقل الإهانات الصهيونية بسحب البعثة الدبلوماسية من طرف واحد واعتبار بلادنا منطقة غير آمنة والتلويح بخريطتنا مبتورة… أننا لسنا أمام موقف رسمي داعم للاحتلال أو مُدين للمقاومة.
خامسا، شحنات المساعدات الإنسانية التي يوجهها المغرب إلى غزة، عبر جسر جوي نشأ بين القنيطرة وتل أبيب، تعبّر في أحد جوانبها عن خط “المقاومة” هذا. نعم، قد يعني ذلك عجز الدولة المغربية عن مطابقة قراراتها مع المطالب الشعبية وموقف رأيها العام، لكنها تنجح رغم ذلك في الحصول على موقع يحفظ لها ماء الوجه ويبقي أمامها خط الرجعة، وقد يجد فيه بعضنا قدرا من المواساة وسببا للصبر على الموقف الأخلاقي الصعب. فأن تصل حبة دواء أو قنينة ماء واحدة إلى فلسطيني يتعرض للتجويع ومحاولة الإبادة، أهم وأثقل وزنا من أية مواقف أو خطابات أو عبارات إنشائية لا تعالج مريضا ولا تسمن من جوع.
وأخيرا، وفي ظل هذا الوضع البئيس والأليم، لابد أن ننتبه إلى أن وضعنا اليوم أفضل بكثير مما كنا عليه قبل أربع سنوات، حين تم التوقيع على الاتفاق الثلاثي المغربي الأمريكي الإسرائيلي. وضعنا اليوم أفضل لأننا نعبّر، ونختلف، ونناقش، بعدما كنا نخاف ونصمت. لا شك أن دولتنا اليوم وهي تخرج لمواجهة ابتزاز إسرائيل وضغوط أمريكا، تجد نفسها أقوى مما كانت عليه في السابق، لأن خلفها رأي عام وشارع ينبض بالحياة، ويمكنها أن تقول “لا” بين نعم وأخرى… ولا ينقصنا سوى تعبير أقوى وأوضح عن مراعاة الدولة لمطالب ومشاعر المغاربة، ووقف عاجل غير آجل للعدوان والتقتيل في غزة وفي غيرها من بؤر الظلم والطغيان.