انتفاضة 20 يونيو 1981.. ذكرى “شهداء كوميرا”
تحل اليوم، 20 يونيو 2024، الذكرى 43 لانتفاضة شعبية هزّت المغرب في مثل هذا التاريخ من سنة 1981، وحوّلها ردّ فعل السلطة إلى مجزرة دموية.
يتعلّق الأمر بما بات يعرف بـ”شهداء كوميرا”، وهم مئات من المغاربة الذين قتلوا بنيران الجيش والأجهزة الأمنية، بكل برودة وبشاعة في شوارع العاصمة الاقتصادية، الدار البيضاء، بعد خروجهم للاحتجاج في الشارع رفضا لزيادات كبيرة في أسعار المواد الغذائية، أعلنتها حكومة المعطي بوعبيد تحت إشراف الملك الحسن الثاني.
زيادات صدمت الفقراء
في أصل القصة، كان المشهد النقابي المغربي قد عرف ظهور ملامح مركزية نقابية جديدة يقودها المعارضون الاتحاديون، تتشكل من أهم النقابات الوطنية المستقلة عن الاتحاد المغربي للشغل.
توّجت هذه التطورات بتأسيس الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، كمركزية نقابية تجمع أهم القطاعات الاقتصادية، وعقد مؤتمرها التأسيسي يومي 25 و 26 نونبر 1978 بقاعة للأفراح بشارع الجيش الملكي بالدار البيضاء.
مباشرة بعد تأسيس المركزية النقابية الجديدة، انطلق الحوار شهر فبراير 1979، لكنه حوار رافقته حملة اعتقالات في صفوف القادة النقابيين. لترفع الكنفدرالية شهر مارس من السنة نفسها، مذكرة إلى الوزير الأول ضمنتها مطالبها الأساسية، وهي احترام الحريات النقابية، وتطبيق السلم المتحرك للأجور والأسعار، والزيادة في الأجور، ورفع الحد الأدنى للأجور إلى ألف درهم.
بدل الاستجابة لتك المذكرة المطلبية، تم في ماي من نفس السنة، الرفع من الأجور بنسبة ضعيفة لم تشمل الجميع، كما تم الرفع من الحد الأدنى دون أن يشمل القطاع الخاص والمؤسسات شبه العمومية.
هذا الإجراء الأحادي الجانب كان بدوره مسبوقا بحملة اعتقالات وطرد المئات ممن شاركوا في إضراب في قطاعي التعليم والصحة يومي 10 و 11 أبريل 1979.
وخلال سنتي 1979 و1980، بدأ مسلسل الرفع من أسعار المواد الأساسية، وارتفع مؤشر كلفة المعيشة ب38 بالمائة، ما حدا بالكونفدرالية إلى مطالبة الحكومة بالرفع من الأجور وفتح الحوار المجمد. لترفع مذكرة جديدة إلى الوزير الأول في 25 أبريل 1981، مطالبة إياه بفتح الحوار واحترام الحريات النقابية.
لم تكتف حكومة المعطي بوعبيد هذه المرة بعدم الاستجابة، أو التزام الصمت، بل بادرت إلى إصدار بيان بثته وكالة الأنباء الرسمية في 28 ماي 1981، و الذي جاء حاملا لنبأ الزيادة في سعر المواد الأساسية، بمعدلات قياسية إذا أضيفت إلى الزيادات التي سجلت في السنتين السابقتين، حيث تقررت مضاعفة سعر كل من السكر والزيت، وزياة 200 في المائة في سعر الحليب، وأكثر من ذلك في سعر الزبدة، ونسبة 185 في المائة في سعر الدقيق…
معارضة قوية
أول رد فعل على هذا الاستفزاز الحكومي جاء من حزب الاتحاد الاشتراكي، حيث سارعت اللجنة المركزية للحزب إلى إصدار بيان يوم 31 ماي، اعتبر أن الوضع بالمغرب بلغ مستوى غير من مسبوق من الأزمة، وطالب الحكومة بالتراجع عن هذه الزيادات، محملا إياها مسؤولية ما قد يترتب عنها.
لم تتأخر الكونفدرالية الديمقراطية للشغل بدورها في التحرك، وبثت نداء إلى الشغيلة المغربية يوم 2 يونيو، داعية إياها إلى التعبئة الشاملة لحمل الحكومة على التراجع عن تلك الزيادات. بينما كان الفريق الاتحادي في البرلمان يحاول الضغط على الحكومة ومساءلتها عما أقدمت عليه، فكان الرد تحت قبة البرلمان، أن حكومة صاحب الجلالة تعتزم إعلان زيادات أخرى، لأن صناديق الدولة في أزمة.
بناء على تلك التطورات، انعقد اجتماع المجلس الوطني للكونفدرالية يوم 7 يونيو، وأصدر بيانا بمطالب واضحة: إلغاء الزيادات الأخيرة في أجل سبعة أيام، وفتح حوار فوري حول الملف النقابي، مع التعبير عن الاستعداد “لاتخاذ الإجراءات اللازمة في حال تشبت الحكومة بقراراتها” وتحملها كامل المسؤولية عما يمكن أن يترتب عن ذلك.
في اليوم الموالي، عقد الكاتب العام للنقابة، الراحل نوبير الأموي، ندوة صحفية تناول فيها الأوضاع الاجتماعية المتأزمة. مهلة الأسبوع التي حددتها الكونفدرالية انصرمت دون تلقي أي رد حكومي، فدعت المركزية التابعة لحزب الاتحاد الاشتراكي باقي المركزيات إلى التحرك المشترك فلم تلقى تجاوبا. لتعلن في 15 من يونيو، اعتزامها خوض إضراب عام لمدة أربع وعشرين ساعة، في الـ20 من ذلك الشهر.
أربعة أيام قبل حلول الموعد، أعلن الاتحاد الجهوي للدار البيضاء، التابع للاتحاد المغربي للشغل، إضرابا بمدينة الدار البيضاء يوم 18 يونيو، مبادرة تلقفتها الكونفدرالية بإعلانها إضرابا مماثلا يشل مدينة الدار البيضاء، كخطوة تعبوية للإضراب العام المرتقب يوم السبت 20 يونيو.
فيما كانت المعركة حامية داخل البرلمان، حيث وضع الفريق الاتحادي مشروع قانون يقضي بإلغاء الزيادات الأخيرة في الأسعار، ويتخذ إجراءات استعجالية لدرء خطر الانفجار الاجتماعي، دون أن تلقى المبادرة صدى من نواب الأحزاب الأخرى.
حصار شامل
أياما قبل موعد الإضراب، ومنذ انعقاد المجلس الوطني للكونفدرالية الديمقراطية للشغل، تمت محاصرة المقر المركزي للنقابة، وأصبحت مقراتها الجهوية تحت المراقبة الصارمة.
تضمن عدد يوم التاسع من يونيو لجريدة “المحرر” الناطقة باسم حزب الاتحاد الاشتراكي صورا تظهر الحصار الأمني حول مقر المركزية، وكيف أصبح وصول أعضاء الكونفدرالية إلى مقرها المركزي شبه محظور.
فيما بدأت حملة الاعتقالات في العاشر من يونيو في مناطق مختلفة (سيدي بنور، تازة، قلعة السراغنة، الدار البيضاء…) وبعض المركزيات الأخرى خضعت بدورها لضغط الدولة وشنت حملة مضادة للحث على العمل، وهو ما أعلنه رسميا وبكل افتخار وزير الداخلية حينها، إدريس البصري، داخل البرلمان.
في يوم الجمعة 19 يونيو، كانت أمواج الإذاعة الوطنية تبث بيانا للوزير الأول المعطي بوعبيد، كتب بلغة التهديد والوعيد، وحاملا لائحة عقوبات تنتظر المشاركين في الإضراب من طرد وتوقيف… بينما رجال وزير الداخلية إدريس البصري من أعوان كالمقدمين والشيوخ ومعهم رجال السلطة، يتجولون في الدروب والأزقة، وأمر واحد يوجه للجميع: ضرورة الالتحاق بالعمل يوم غد، ما يعني أن المتاجر أن يجب أن تكون مفتوحة ومحطات البنزين في نشاطها العادي تحت طائلة السجن ستة أشهر وسحب رخصة توزيع المحرقات…
كان حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، بدوره في مرمى الأجهزة الرسمية، فهذه الأخيرة لم تستسغ إعلان الحزب دعمه الكامل لتحرك النقابة، وانخراطه في حملة مهاجمة وشجب زيادات 28 ماي.
بدا مفعول الغضب الرسمي جليا في تعامل السلطات مع صحافة الحزب، والتي باتت تحت رقابة صارمة ثلاثة أيام قبل الإضراب. فجريدة المحرر التي كانت تبدأ السحب عادة في السادسة مساء، لم تعد تتلقى الإذن بالطبع إلا بعد الثانية صباحا، ما يعني توزيعا فاشلا عمليا.
نقابة فتية تتحدى الدولة
صباح يوم السبت 20 يونيو 1981، خيّم على مدينة الدار البيضاء في سكون شبيه بذاك الذي يسبق العاصفة، فالحاضرة المزدحمة دؤوبة الحركة، بدأت يومها كما لو كانت مدينة شبح: المعامل خالية من العمال، المتاجر مغلقة، ووسائل النقل العمومي توقفت عن التجول في شوارع المدينة، والسبب: إضراب عام دعت إليه نقابة الكونفدرالية الديمقراطية للشغل.
صدرت الدعوة إلى هذا الإضراب عن نقابة “فتية” بهدف إجبار الدولة على إلغاء الزيادات في أسعار المواد الأساسية التي أعلن عنها رسميا يوم 28 ماي من نفس السنة.
كانت خيبة أجهزة الدولة كبيرة عندما أشرقت شمس يوم السبت 20 يونيو 1981 على مغرب الأشباح. المعامل مغلقة، سائقو وجباة يرفضون إخراج الحافلات من مرائبها، التجار متنازلون عن مداخيل هذا اليوم، والقطاعان العمومي وشبه العمومي في عطلة غير رسمية…
في المقابل كانت إجراءات إفشال الإضراب بحجم كبرياء دولة لا يقبل الانكسار، فتم البدء من حركة السير، المؤشر الرئيس على نبض الحياة الحضرية. أوامر شديدة اللهجة لسائقي الحافلات باستئناف العمل، هؤلاء يرفضون الامتثال، فتبدأ الآلة القمعية في كسر الهدوء الحذر.
تم اعتقال أعضاء المكتب النقابي للوكالة المستقلة للنقل الحضري بالبيضاء، وأجبر السائقون على أخذ أماكانهم خلف المقود تحت تهديد شرطي مسلح على متن كل حافلة. أعوان السلطة يطرقون أبواب التجار ويخرجونهم من بيوتهم نحو محلاتهم، فلا يترددون في فتح أبوابها بأنفسهم، وعربات بمظهر عسكري تقل آلاف الرجال المسلحين يجوبون الشوارع ويستعرضون القوة تحت إشراف مروحيتين عسكريتين تحلقان في سماء البيضاء.
عند الساعة 11 صباحا تقريبا كانت نتيجة توتر الأوضاع، هجوم بعض الشبان على إحدى الحافلات، ما أدى إلى توقف الحركة من جديد، ليغادر رجال الأمن المسلحين حافلاتهم استعدادا للمواجهة. المحلات التجارية التي فتحت أبوابها تحت الضغط سرعان ما أقفلت، وفي محاولة منها لكبح احتجاجات المواطنين، كانت قوات الأمن تعتقل كل من يوجد خارج بيته.
في كبريات المدن مثل فاس والرباط ومكناس وطنجة… كانت مسيرات المتظاهرين تتزايد، لكن أكبرها هي تلك التي كانت تنظم في الدار البيضاء، خاصة في أحياء شعبية مثل الحي المحمدي وسباتة وسيدي البرنوصي… مسيرات تعلن الغضب من محاصرة المدينة وتركز شعاراتها على زيادات 28 ماي.
غضب لم يحمل السلطات على تخفيف وطأة الحصار، خاصة مع وصول اللواء الخفيف للتدخل، التابع للدرك الملكي، وأخذ سيارات حاملة لأسلحة رشاشة في التجول داخل المدينة، فيما العربات المصفحة شرعت في توجيه فوهات مدافعها نحو المتظاهرين.
ترهيب ثم قتل
بين الساعة 11 صباحا و 14 زوالا، كانت تلك القوات تكتفي بترهيب السكان واستعراض قوة الدولة. لكن ذلك لم يمنع تزايد أعداد الخارجين إلى الشوارع والمنضمين إلى المتظاهرين. في الساعة الثانية بعد الزوال، بدأت مستشفيات البيضاء تتلقى تعليمات باستنفار الأطباء والممرضين والدخول في حالة تأهب، ليبدأ إطلاق النار في الساعة الثالثة بعد الزوال، حيث كانت الأوامر تقضي بإطلاق مكثف للنيران على جموع المحتجين، وعلى الرصاص أن يستقر بين الأعين وعلى الجانب الأيسر من الصدر، أي إيقاع القتلى لإخافة الجموع.
عصر ذلك اليوم الدامي، كانت أولى وحدات القوات المسلحة تصل إلى المدينة، وتنطلق في عمليات تمشيط واسعة داخلها. مع إطلاق ممنهج للنيران تجاه المواطنين. كان الجرحى ينزفون في الشارع دون أن يتلقوا الإسعاف، فيما الاعتقالات لا تميز بين طفل وشاب وامرأة، ليسدل الليل ظلامه وسط حظر للتجول ومواصلة لعمليات التمشيط والاعتقال. في نهاية اليوم كان قرابة 10000 شخص محتجزين بفضاء معرض الدار البيضاء، بعد أن امتلأت مراكز الاعتقال ودوائر الشرطة.
صباح يوم الأحد الموالي، كانت وحدات عسكرية مصفحة مرابطة أمام المؤسسات العمومية بالمدينة، وأخرى تجوب الشوارع كما لو كان المغرب في حرب. احتجاجات السكان لم تهدأ و لم تتراجع معها عمليات القمع والاعتقال، خاصة في الأحياء الشعبية. بعض المعتقلين أخذوا إلى الثكنة العسكرية عين حرودة، حوالي عشر كيلومترات شمال المدينة، وظروف الاحتجاز تذكر بالمعتقلات الكبرى الشهيرة في “سنوات الرصاص”.
جهود القوات العمومية سوف تتركز بعد إخماد المظاهرات على إخفاء معالم المجزرة. فالجثث كانت تجمع من الشوارع وتنتزع من الأسر لكي لا تعاود رؤيتها، المصابون برصاص الجيش والدرك والشرطة “محتجزون” في غرف خاصة بالمستشفيات حتى تختفي آثار ذلك، والعمليات الجراحية تتم بحضور رجال الأمن. وحدات من الجيش تتمركز أمام مستودع الأموات المركزي ومستودع ابن رشد. ومهمة المقدمين والشيوخ أصبحت تتجسد في ترهيب أسر الضحايا و حثها على عدم القول بمقتل أبنائها، وإن كان ذلك لا يمنع إقامة الجنازات وأداء صلواتها في المساجد.
إخفاء الجريمة
قبيل منتصف ليلة السبت إلى الأحد، 20-21 يونيو 1981، صدر بيان لوزارة الداخلية يتهم كلا من الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية و الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، بالتحريض على العنف، وبالعجز عن تأطير الإضراب.
اتهام تضيفه المعارضة الاتحادية السابقة إلى لائحة تناقضات أطروحة الدولة، و تستدل على ذلك بكون الكونفدرالية الديمقراطية للشغل لم تصدر أي نداء للتظاهر، ومسؤولوها الوطنيون والمحليون مكثوا في مقراتها إلى أن تم اعتقالهم هناك، كما لم يتم اعتقال أو توقيف أي من مناضلي الحزب أو النقابة في المظاهرات.
أما النقابة فقد تم شل عن الحركة باعتقال كاتبها العام نوبير الأموي على الساعة الثالثة بعد الزوال من يوم الإضراب، رفقة أعضاء مكتبها التنفيذي، وتمت محاصرة واحتلال مقراتها من طرف قوات الأمن، ما جعلها عاجزة عن أداء مهمتها النقابية.
أما الحزب، فقد تم منع صحافته عمليا صباح يوم الأحد الذي تلا اليوم الدامي، باحتلال مقر جريدة المحرر واعتقال رئيس تحريرها، وقبل كل ذلك فإن أعلى سلطات البلاد متمثلة في الملك، اعترفت بتقصيرها ومسؤوليتها في عدم تأطير بعض الأحياء الشعبية، وعدم إمدادها بالأجهزة الأمنية و القضائية قبل هذه الأحداث…
إقرار الملك الحسن الثاني بجزء من المسؤولية، لم يخلو من عتاب: “الأمر ليس بخطير كتظاهر، لكن الأعمال بالعكس كانت خطيرة، لأنها مست ممتلكات المواطنين وأملاك الدولة… إن هؤلاء الأطفال كانوا في عطلة مدرسية، فحُرضوا على إلقاء الحجارة، والأطفال لا يرحمون كما يقول المثل. لقد بدؤوا برمي الحجارة تم تلاهم أفراد معروفون ألقي عليهم القبض…” يقول الملك الراحل في ندوة صحفية عقدها بعد الأحداث الدامية.