story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

رأيك خليه عندك

ص ص

هل من حقنا أن نفكّر ونعبّر؟ يبدو السؤال، لفَرْط بداهة الجواب عليه ظاهراً، كأنه بحكم أن “السماء فوقنا”. لكنني أجده أكثر التباسا وأشد استعصاء على الضبط في بلد كالمغرب، لا هو استبداد صريح، ولا ديمقراطية راسخة. وقبل الاسترسال، أؤكد أنه لا تهمني كثيرا مقولة (رأيك خليه عندك) في السياق الذي وردت فيه. لا يهمّني حقا أن أنشغل بما قاله صحافي مسيّرُ ندوة في حق زميل آخر، فقد جرى ما جرى وانتهى، وسيحدث مثله مستقبلا، ويمكن أن يحدث في كل الدنيا، حين ينِطُّ من يعتقد أنه مطلوبٌ من الناس أن تحتفظ برأيها لنفسها.

ما شغلني حقا هو أن هذه المقولة ليست من بنَاتِ أفكار وقناعات قائلها فقط، وأنها ليست منفصلة عن نسق سياسي واجتماعي وثقافي وديني، لا يتردد في جعل الرأي المخالِف جريمة، ويدفعك، بعد التخويف من التصريح بما يستقر في قناعتك، بأن تحتفظ به لـ”خُويْصةِ نفسك” تحت طائلة العقاب، في بيئة تخشى الاختلاف وتتخوّف من التناقض، وتهوى الاستقرار في حالة من الدَعَةِ وعدم الإزعاج.

“رأيك خليه عندك” رجْعُ صدى لثقافة متفشية ومخيفة، وأسلوبٌ في تدبير الفضاء العام، وقناعةُ من يتملّك القرار في تدبير المشترك المادي والرمزي، وأسلوب حكمٍ ونمط إدارة مؤسسات، وليست عبارةً جرت على لسان فرد في لحظة انفعال أو سوء تقدير.. وهذا أخطر ما في الأمر.

هل في بلد كالمغرب تأمن على نفسك وأنت تعبّر عن رأيك، كيفما كان رأيك؟ أجازف بالقول إن السلطة، التي تحتكر الفضاء العام، والتي تقدّم نموذجاً لما يفترض أن تكون عليه الأمور من خلال سلوكها في التعامل مع الاختلاف، تتمتع بمنسوب عال جدا من التحسّس من كل رأي مخالفٍ، وتنزعج وتغضب و”تضرب” إذا تجاوز أحدهم الحد المسموح به. ولا نحتاج إلى كثير استدلال لإثبات هذا الادعاء، فلم نراوح في المغرب سلطويةً كامنةً في النفوس وتتلبّس، كروح شريرة، السلطة، وتشيع باستمرار حالة تشكّك ممّا يمكن أن تؤول إليه الأمور إذا طالت الألسن أكثر من اللزوم.

أستعير من الفيلسوف والناقد الأدبي الفرنسي رولان بارت تعبير “الحيلولة دون الكلام” لوصف نموذج متفشٍ في الدولة والمجتمع ضمن تأثير مختلف السُلط الفاعلة لفرض نموذج للكلام والتعبير، بغرض تأبيد التبعية والإخضاع، وترك التفكير والتعبير، بحيث لا يتحرك شيء إلا بأمرٍ، ولا يتململ حجر إلا بإشارة أُصبع.

“الحيلولة دون الكلام” مستوى من احتكار التعبير في الفضاء العام، بمنطق “ما أُرِيكُم إلا ما أرى”، حتى يصير انتقاد شخص، حتى وإن كان من مستوى مدرّب كرة أو وزير، أو غيرهما، كبيرة من الكبائر، وجريمة وتطاولا، وهناك من يستدعي سلاح الوطنية لوأْد أي صوت في شوفينية مقيتة بئيسة تهدم ولا تبني، تكُمُّ الأفواه بزعم الوحدة والتماسك المجتمعي وعدم منح “أعداء الوطن” الفرصة.

وهل نحتاج إلى التذكير أن صراع الحكومات والسلط الرسمية من جهة، ومن يعارضها من جهة أخرى، وكل الأصوات والتعبيرات داخل المجتمع، هو ضمناً صراع على الحق في الكلام وملء الفضاء العام والتداول وتمرير الخطاب. فعندما يُعتقل صاحب رأي مثلا فإنه يجري عقابه لأنه استعمل حقه في الكلام، والاعتقال غرضه تضييق مساحة التعبير لصالح اختيارٍ وفكرة مضادة مهيمنة أو في طور الهيمنة وتمتلك أدوات الإكراه، فتكون مصادرة حرية الفرد جزءاً من استراتيجية السطو على الفضاء العام، عبر احتكار اللغة المتداولة فيه، والسعي إلى فرض نموذج للكلام والسلوك. من هنا تصير حادثة “رأيك خليه عندك” جزءاً من نسقٍ، ونمطا دارجاً في التعامل مع مشترك الفضاء العام، يسعى إلى إبادة أي صراع على الحق في الكلام والتعبير في مجتمع يفترض أن يبقى متنوّعا ومتعددا، إلى مجتمع الصوت الواحد ضمن نزوع وغريزة “الحيلولة دون الكلام”.

رولان بارت يذهب أبعد من ذلك في مقولته وهو يشير إلى أن الفاشية ليست دائماً في “الحيلولة دون الكلام”، وإنما تتجسد أيضاً في “الإرغام عليه”. ها هنا تدرك عميقا أن “الإرغام على الكلام” مستوى ثانٍ مرتبط بمنطق “الحيلولة دون الكلام”، في سياق احتكار الفضاء العام. إن الإرغام على الكلام متساوقٌ مع الحيلولة دون الكلام. هو دمغٌ للوعي الجمعي بمقولات من يريد الغَلَبَة.

وفي هذا القدْرِ كفايةً وبما سمح به الحيّز. وأواصل الأسبوع المقبل بشأن “الإرغام على الكلام” ومغاديش “نخلي رأيي عندي”.