زيغ الريع
انطلق شهر رمضان الأبرك لهذه السنة، وانطلق معه النقاش المجتمعي حول جودة الأعمال التلفزيونية الرمضانية التي تبث على القنوات العمومية وكذلك القنوات الخاصة المتعددة. هذه القنوات التي تحصل على جزء مهم من ميزانياتها من المال العام، إما بشكل مباشر في حالة القنوات العمومية، أو بشكل غير مباشر في حالة القنوات الخاصة.
هذا يعني أن الشعب ¬— صاحب الشأن والسيادة — هو من يدفع رواتب كل المتدخلين في إنتاج هذه الأعمال التلفزيونية، ومن حقه أن ينتقد الأعمال التي لم ترق إلى المستوى الذي يرجوه من أعمال أدى ثمنها من ماله الخاص. كما أنه لا يحق لهؤلاء المتدخلين في إنتاج هذه الأعمال التلفزيونية أن يتضايقوا من هذا الانتقاد، وخصوصا لا يحق لهم أن يطلبوا من الشعب — دفع رواتبهم — أن يغلقوا التلفاز ويحملوا كتابا إذا لم يعجبهم المحتوى المقدم.
هذه الفكرة الأخيرة فعلا استفزتني عند سماعها من لدن ممثلة ومخرجة مغربية، لم يكن أن يكون لها مسار فني لولا أموال دافعي الضرائب. فهي إما تتلقى الدعم من خلال الأعمال التلفزيونية عبر الدعم الذي يدفعه المغاربة لتمويل القنوات العمومية، أو أنها تتلقى الدعم من خلال الأموال العمومية التي يمنحها المركز السينمائي المغربي. بصيغة أخرى، هذه الممثلة تعيش على ريع من نوع آخر، ريع الفن.
كيف يعقل أن المغاربة كشعب يضمنون لقطاع معين مصدرا دائما ومستمرا للتمويل؟ ومقابل ماذا؟ مقابل انتاجات تلفزيونية متهمة كل سنة بتدمير القيم والقدوات الاجتماعية الوطنية (كالأستاذ ورجل الدين) وتعويضها أو تطبيع المجتمع مع قدوات سيئة (كالشيخة).
التمويلات التي تتلقاها الإنتاجات التلفزيونية ليست بالهينة، فالكثير منها يصل إلى ملايين الدراهم مقابل السلسلة الرمضانية الواحدة أو الشريط السينمائي الواحد. في اعتقادي لا يمكن أن يستمر الحال الذي يمول فيه المغاربة (الذين يعتبر جزء كبير منهم محافظين) من مالهم الخاص أعمالا تلفزيونية وسينمائية تساهم في تدمير منظومة قيمهم.
وعند سؤال أحدهم عن الهدف وراء التركيز على نماذج سلبية وتحويلها إلى شخصيات مركزية في عدة أعمال درامية، يتحجج الكثير منهم بأن هذه النماذج موجودة في المجتمع، وأنهم لم يختلقوها من فراغ.
أولا، ليس كل ما في المجتمع يجب التركيز عليه والتطبيع معه وتصويره على أنه هو الطاغي على سلوك وقيم المجتمع. فكثير من السلوكات داخل المجتمع يقوم بها جزء من المغاربة، ولكنهم لا يريدون للمجتمع التطبيع معها. ثم لماذا يتم التركيز من طرف الكثير من الأعمال على السلوكات السلبية فقط عندما يتعلق الأمر بالشق الاجتماعي أو الفئات الاجتماعية غير ذات النفوذ. لماذا لا يتم التركيز مثلا على قضايا الفساد السياسي التي تكاد لا تغيب عن الصفحات الأولى للجرائد؟ ولنا في ما يقدمه هذه السنة الكوميدي الأكاديمي محمد باسو خير مثال.
ما ميز باسو هذه السنة هو أولا وقبل كل شيء جرأته على نقل واقع آخر غير ذلك الذي نمطته الكثير من الأعمال التلفزيونية المكررة حبكتها. ثم ميزه حس الاستماع الذي يتميز به باسو لما يروج في المجتمع ومحاولته الإسهام في النقاش العمومي من موقعه كفنان يحترم نفسه وفنه وجمهوره.
أعتقد أنه آن الأوان لوقف ريع الفن وفتح المجال للاجتهاد في الإبداع الفني. فقد أبانت نماذج متعددة لفنانين مختلفين ومجموعات فنية مختلفة عن وجود نموذج اقتصادي يمكن أن يضمن حياة كريمة للفنان، شريطة أن يبدع في إنتاج محتوى يحترم المواطن المغربي، ويجعله يدفع مقابلا من أجل مشاهدة ذلك المحتوى، عوض الاتكال على ريع أموال دافعي الضرائب المضمون، الذي يشجع على النمطية وقتل الإبداع.