التطبيع الذكي
ألقى الوزير السابق عزيز رباح، حجرا في بركة النقاش الوطني الغائب حول معضلة العلاقات مع إسرائيل، حين قال قبل يومين على أمواج إذاعة “كاب راديو” إن حزب العدالة والتنمية لم يوقع على الاتفاقية المتعلقة بإحياء العلاقات الرسمية مع إسرائيل كحزب سياسي، بل كان توقيع أمينه العام السابق سعد الدين العثماني تعبيرا عن اختيار الدولة المغربية.
وإذا كان هذا “الدفع الشكلي” ليس جديدا، فإن رباح تقدم خطوة إضافية مقارنة بالخطاب المتداول بين قيادات حزب المصباح، السابقة والحالية، وقال إن الملك أعطى تعليماته لرئيس الحكومة بأن يوقع، مضيفا أنه تمنى لو أن وزير الخارجية ناصر بوريطة هو الذي تولي التوقيع على الاتفاق.
هل نحن أمام كشف جديد؟ لا أعتقد. فالجميع يعلم أن أمورا أصغر بكثير من التوقيع على اتفاق ثلاثي من رهذا الحجم، لا يمكن أن تتم دون موافقة أو أمر ملكيين.
طيب وبما أن السياق هو دفع “تهمة” التطبيع عن حزبه السياسي، هل كان رباح بصدد “إلصاق” التهمة بالملك؟ شخصيا لا أظن، ولا يمكن أن يمضي في مثل هذا التحليل أو القراءة إلا خصم سياسي لرباح أو متصيّد للثغرات.
أعتقد أن مثل هذا النقاش يجب أن يستمر ويتوسّع، ليس لأننا بصدد البحث عن “متهم” أو مقصّر، بل لأن الأمر خطير ومعقد ومهيكل لحاضرنا ومستقبلنا. ولا يمكن أن يتواصل حوار الطرشان الذي نتابعه منذ شهور، حيث الشارع يصرخ ويندد ويطالب والدولة تبدو كما لو أنها تتجاهل وتواصل المضي في اختيار “التطبيع”.
هناك حلقة مفقودة وغائب كبير في هذه القصة، هو الطبقة السياسية والنخب والصحافة، الذين يفترض فيهم تغذية وتأطير النقاش العمومي، بمحتوى دقيق ونزيه، لمساعدة الوعي الجماعي على استيعاب دقة المرحلة وحساسية توازناتها، وإدراك ضرورة قيام كل طرف بدوره الكامل حتى تبقى السفينة مستقرة ومتوازنة.
على هذا الموضوع أن يخرج من ظلمة الطابو وثنائية الخير والشر والتقابلات البسيطة والسطحية، وعلى السياسيين والمسؤولين أمثال عزيز رباح أن يخرجوا ليقولوا أكثر ويوضحوا المزيد.
علينا أن ننتج تفسيرات وسرديات متماسكة، بناء علي معطيات دقيقة وموثوقة، في حدود ما يسمح به الموضوع شديد التعقيد، حتى يستحضر الوعي الجماعي كيف كان المغرب يصدر بلاغات رسمية عبر وزارة الخارجية لإلغاء المشاركات الملكية في قمم إقليمية بسبب حضور سيئ الذكر بنيامين نتانياهو، وكيف كان القصر قبل سنة واحدة من لحظة التوقيع على الاتفاق الثلاثي، أي في دجنبر 2019، يلغي استقبالا مبرمجا لوزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، بعدما تردد أن هذا الأخير كاد يدس نتانياهو في طائرته ويصل به إلى الرباط، ثم كيف كان ينوي استدراج المسؤولين المغاربة إلى طرح قضية الصحراء ليخرج ورقة التطبيع ويربط هذه بتلك…
على نخبتنا ومثقفينا أن يدخلوا على خط هذا الحراك الشعبي والموقف الرسمي الذي يوازن بين السماح بالاحتجاج والإصرار على علاقات “التطبيع”، وينبشوا أكثر في نظرية “اضطرار الأنظمة واختيارات الشعوب”، وتحديد مقدار الضرورة والاضطرار وكبح جماح الانتهازيين والوصوليين.
سبق لي أن كتبت ذلك وأعيده اليوم على خلفية هذه التصريحات الجديدة: لقد كانت هناك بالفعل ضغوط شديدة وتحركات مكثفة خرجت عن السرية لعراب اتفاقيات التطبيع العربي، جاريد كوشنير، والتفاف طويل على الحقوق والمصالح الوطنية لحملنا على إحياء علاقات رسمية جمّدت، رسميا على الأقل، لأكثر من عشرين سنة، وكان هناك أيضا حدث الهجوم المسلح من جانب مسلحي البوليساريو لمعبر الكركرات، واحتلالهم له وقيامهم بإغلاقه، وهو ما جعلنا في مفترق طرق حاسم، نكون أو لا نكون.
واقعة تخييم شبح الحرب الشاملة بسبب المعبر البري الوحيد الذي يربط المغرب، رسميا، بالعالم الخارجي، لم تكن بعيدة عن تاريخ التوقيع على الاتفاق الثلاثي، حيث جرت فصولها الحاسمة في نونبر 2020 بينما جرى التوقيع على الاتفاق في دجنبر الموالي، والله وحده، والراسخون في العلم، يعلم ماذا كلّفنا الخروج الآمن والمظفر من تلك الأزمة، وهنا يمكن أن نعثر على عناصر الاضطرار، ليس لتبربر ما لا يبرر، بل لعقلنة النقاش وتوجيه البوصلة بشكل لا يوقعنا في الفخاخ المحيطة بنا.
إذا كان من الجائز أن نطالب الدولة بعدم الوقوع في خطيئة الربط بين ملف وحدتنا الترابية والعلاقات الرسمية مع الكيان الإسرائيلي المجرم، وقد أبدت الكثير من مؤشرات حرصها على تجنب ذلك، سواء قبل توقيع الاتفاق الثلاثي أو بعده، من خلال البلاغات الملكية التي أعقبت توقيع الاتفاق، فإن النقاش العمومي، على قلته واحتشامه، لا ينبغي له أن يقع في حسابات أيديولوجية صغيرة أو يوظّف في أجندات صغيرة، أو يؤجج تناقضات ثانوية وهامشية، ثقافية أو عرقية، أو يخطئ التصويب فيوجه أصبع الاتهام نحو حزب أو وزير أو نحو الملك.
شخصيا، وأنا أتقاسم كل التقزز الذي يشعر به غالبية المغاربة تجاه كل ما يمت بصلة للكيان الذي يقوم على قتل الصبيان، لا أعتقد أن تراجعا مغربيا عن اتفاقية “التطبيع” سيكون سهلا. وتقديري أن ما حمل المغرب على التوقيع قوي بنما يكفي ليمنعه من الانسحاب، وهنا ينبغي أن تجتهد النخب أكثر، ليس في التبرير والتغطية على الأخطاء، بل في التحليل العقلاني الذي يساعد على الإدراك وتوجيه البوصلة والخروج من ورطة الاختيار بين نقيضين.
حينها سوف لن يصبح المغاربة مطالبين بالكف عن الغضب والاحتجاج والعودة إلى بيوتهم راضين صابرين، بل سيواصلون ذلك، وسيتولد لديهم وعي جديد بكون ما يجري يتطلب ذكاء جماعيا وابتكار في حماية المصالح الوطنية، كل من موقعه.
للدولة إكراهاتها وحساباتها التي تتحمل مسؤولياتها التاريخية والقانونية في تدبيرها بالحد الأدنى من التنازلات، عند الضرورة القصوى، لكن على المجتمع أن يعبئ قواه “الحية” بتعبير بلاغات الديوان الملكي، لجعل هذا التطبيع يبقى في حدوده الدنيا التي يمكن أن تجعله صوريا وفارغا من أي مضمون، وخير مثال علي ذلك الحملة الشعبية الأخيرة ضد منتوج ثبت أنه يصل إلى الأسواق الإسرائيلية.
في المقابل على بعض الانتهازيين من قليلي الحياء وعديمي المروءة أن يلجموا طمعهم ويكفوا جشعهم، ويمتنعوا عن الارتماء في أحضان الكيان المجرم، لأنهم ومن حيث يعتقدون أنهم يجنون المكاسب المالية ويخدمون السلطة، كما يتوهمونها، يحدثون ثقوبا في جدار الوطن ويطعنون الدولة في الظهر، ويوفرون للخصوم، قديبهم وبعيدهم، مداخل الاختراق والتلاعب بالاستقرار.