محمد جليد: “الشعر والشر”.. منظور جديد إلى قريض قديم
قال أحدهم، ذات مرة، إن الشاعر المغربي محمد بنيس انبثق من خرائب الثقافة التقليدية المحافِظة التي ما تزال تجتر الماضي إلى اليوم. يحتمل هذا الحكم تأويلين، لا ثالث لهما: إما أن صاحب “مواسم الشرق” هجر تجربة شعرية ما تقتدي بالشعر العربي القديم، لينخرط في تجربة مغايرة تنبني على ‘حداثة السؤال’، بعدما استنفد القول في هذه التجربة المفترضة؛ وإما أنه تمرد على التراث الشعري العربي القديم، وانتصر إلى حداثة الكتابة، بما أنها تمثل ظاهرة معاصرة في الإبداع العربي- المغربي منه على الخصوص. والحال أن هذين التأويلين يجانبان الصواب، وإن بدا أنهما يعكسان اختيار بنيس ومنهجه في التعاطي مع قضايا الشعر العربي المطروحة منذ السبعينيات إلى اليوم.
ثمة ما يفيد أن تجربة بنيس النظرية والنقدية تعي سيرورة الثقافة العربية وعيا عميقا يشي أنها تبني حداثة خاصة، وهي تطرح أسئلة جديدة، وتعالج قضايا مغايرة، وتقدم إبداعا مختلفا بجمالية متميزة عن سابقاتها، في كل مرحلة من مراحلها المختلفة، منذ الجاهلية إلى اليوم. كما أن هذا الوعي لا يقتصر على الثقافة الحديثة، بدعوى أن التجارب التراثية تعبر عن زمن ماض أو مغلق أو جامد، ولا تتيح تأويلات جديدة، إذ يتعدى هذا إلى اعتبار هذه التجارب منجزا مفتوحا قابلا للاستكشاف المتجدد ولإنتاج معرفة جديدة عنه. يكفي للمرء، كي يدرك عمق هذا الوعي، أن ينظر إلى هذا الكم الهائل من الأبحاث والدراسات والكتابات التي تتناول كتاب ‘ألف ليلة وليلة’ مثلا. معنى هذا أن بنيس يعود إلى هذا التراث الأدبي لينتج قراءة أو تأويلا أو تصورا جديدا، من منظورات حداثية هي نبتة حساسيته الفكرية تجاه الثقافة العربية، قديمها وحديثها.
لا عجب إذا أن نلفي هذا المنظور قائما في كتابه النقدي الجديد الموسوم بـ’الشعر والشر’ (2023)، الصادر ضمن منشورات دار توبقال في طبعة من الحجم المتوسط. ولعل ما يؤكد الوعي بضرورة تجديد القول في الأدب العربي عموما، والشعر على الخصوص، هو التفات الكاتب إلى هذه العلاقة بين هاتين الكلمتين اللتين “تكادان، في العربية، تتطابقان خطيا وصوتيا،” كما يقول الكاتب. ورغم أن هذه العلاقة تتصل صلة وثيقة بالشعرية العربية، إلا أنها لم تحظ بما يكفي من الدرس والتمحيص والتحليل. ذلك أن مقولة الأصمعي، التي تجعل من الشعر “نكد[ا] بابه الشر”، لم تقدح شرارة الاهتمام النقدي بما يرى بنيس أنه يمثل ‘لا وعي’ الثقافة العربية؛ أي بما قد يسمح باستكشاف طرق تحرر الفكر التي ما تزال مجهولة في هذه الثقافة. وبما أن هذه العلاقة ظلت منسية عبر تاريخ هذه الثقافة الطويل، فإن بنيس يلفت النظر إلى أنه مدرك لما قد تؤول إليه دراسته هذه، وهو يقصد بذلك احتمال النسيان الذي طال مقولة الأصمعي (أو بالأحرى نظريته) حول علاقة الشعر والشر.
ثمة سمة أخرى تميز كتاب بنيس الجديد، وهي تتصل بضرورة النظر إلى الشعر العربي من داخل ثقافته؛ أي استئناف المقاربة النقدية العربية من داخل النسق النقدي العربي، والابتعاد عن تأثيرات النظريات الغربية. وهنا لا بد من التأكيد على مذهب بعض النقاد العرب والأفارقة المعاصرين الذين يرون أن الاعتماد كلية على هذه النظريات لا يفيد، في الغالب، إلا في استكشاف الجوانب الشكلية أو البنيوية، دون أن تسمح بتحليل وتفكيك المضامين الشعرية، وبإدراك منطلقاتها الثقافية المحلية ومحمولاتها العميقة وأبعادها الخاصة. يتبدى هذا المذهب في تنصيص بنيس على أن كتابه ليس نتاج تأثر بديوان ‘شارل بودلير’ أزهار الشر، ولا يستوحي كتاب ‘جورج باطاي’ الأدب والشر، ولا حتى كتاب ‘بول فرلين’ الشعراء الملاعين أو غيرها من الكتب. هكذا، تكون مقاربته ابنة تربتها الثقافية الخاصة؛ أي أنها “ترتكز على اللغة العربية، أولا، ثم على الثقافة العربية التي ارتبطت بهذه اللغة، عبر تاريخ طويل وعبر خطابات مختلفة، تجمع بين الشعر والقرآن والحديث وفقه اللغة والنقد والبلاغة وعلوم القرآن، وما كان لها من صلات، متآخية أو متنافرة، مع الفلسفة والتصوف” (ص. 14).
صحيح أن هذا الكتاب يتخذ من مقولة الأصمعي بوصلة يهتدي بها المؤلف لتحليل هذه العلاقة المستحيلة بين الشعر والشر، لأنها تمثل، في الآن ذاته، فرضية نظرية حول الشعر عموما، ودرسا تطبيقيا يتخذ من حسان بن ثابت، الذي كان شاعرا فحلا أيام الجاهلية، لكنه لَانَ بعد اعتناقه الإسلام؛ ومن ثمة، انتفت شعريته، فسقطت قصيدته. إلا أن البعد التحليلي الذي يرومه الكاتب يكمن في النظر إلى تيمة ‘الشر’ بوصفها خروجا عن أغراض الشعر، وفي رسم حدود واضحة بين الشعر والدين. في هذا الباب، يقول بنيس باختصار شديد، وبما يشبه الاستنتاج العام من مقاربة الكتاب، “إن تخصيص الشعر بالنكد والشر ليس حكما بل هو تعريف وتحديد للخصائصه النصية والجمالية” (ص. 48). من هنا، يتصدى المؤلف، بالدرس والتحليل، لثلاثة مواقف من الشعر: الأول هو موقف القرآن، ويتصل الثاني بموقف أفلاطون، بينما يرتبط الثالث بموقف ‘نيتشه’. كما يكشف تأثير الثقافتين العربية والغربية، بصورتيها اليونانية القديمة والأوربية الحديثة، في بناء هذه المواقف.