فكيك…قصة بلدة كان يروي عطشها وأرضها “رجل الماء” بعيدا عن يد السلطة
مع استمرار الاحتجاجات بمدينة فكيك، وتأججها بعد توقيف الناشط البارز في الحراك محمد براهمي، والحكم عليه بالحبس النافذ 3 أشهر، على خلفية تصريحاته في إحدى المسيرات، بدأ يقفز إلى السطح السؤال التالي: لماذا يحتج الفكيكيون بهذا الإصرار كله على تفويت الماء، في حين أن القرار يشمل أزيد من 130 جماعة في الشرق وحده؟
“صوت المغرب”، بدورها حملت السؤال إلى أهل الواحة، لتبين الفرق في العلاقة مع الماء هنا وهناك.
هواجس دائمة
الواقع أنه ليست المرة الأولى التي ترفض الساكنة تفويت الماء لجهة أخرى، لقد حاول المكتب الوطني للكهرباء والماء الصالح للشرب، تولي مهام توزيع الماء في الواحة لأكثر من مرة في العقود الماضية، لكن كان دائما يصطدم برفض مجلس المدينة، لأن المجالس السابقة حسب العديد من المتابعين للملف كانت تعتبر “مرفق الماء” مرفقا اجتماعيا.
وحتى المجلس الحالي، عندما طلبت سلطة المراقبة الإدارية إدراج النقاط الثلاثة المتعلقة بالانضمام لمجموعة الجماعات “الشرق للتوزيع” التي ستفوض في المستقبل تدبير توزيع الماء للشركة الجهوية المتعددة الخدمات، رفض الانضمام بالأغلبية المطلقة، لكن السلطات طلبت مجددا وبعد أيام قليلة إدراج النقاط في دورة أخرى، صادق فيها المجلس على الانضمام، واشتعلت بذلك الاحتجاجات.
ويقول أحمد السهول، عضو التنسيقية المحلية للدفاع عن قضايا فجيج، التي تقود الاحتجاجات، إن “مياه فكيك موروثة عن الأجداد، وقبل أن تضع الدولة يدها على الواحة حفروا الآبار والسواقي والخطارات، وتفننوا في ذلك، وأتقنوا نظام الري بشكل لا يكاد يعرف له شبيه إلا في بعض الواحات”.
وعندما تكونت الجماعة القروية سابقا، لم تجد من بد إلا الطلب من الساكنة “الترخيص لها” لاستغلال واحد من منابع المياه، المملوكة لذوي الحقوق “رخصوا لأول جماعة قروية، لذلك يعتبر أهل فكيك الماء ملك خاص لهم، وأن الدولة استفادت من مجهودات الأجداد قبل ذلك”.
هواجس أهل المنطقة لا تتوقف عند هذا الحد، ويؤكد السهول أن الساكنة تعاني من “الجرح الحدودي”، فإلى وقت قريب وبالتحديد في ثمانينيات القرن الماضي، عندما كان الفكيكيون يجتازون الحدود إلى الضفة الأخرى، “أول ما يطالعهم عبارة مكتوبة بالفرنسية “beni-ounif de figuig”، حتى وجدوا اليوم أنفسهم أمام اقتطاعات مستمرة من أراضيهم، وفقدت بذلك الواحة عمقها الاقتصادي”.
آخر الجراح الحدودية اقتطاع أراضي العرجة بضيعاتها الحديثة التي أفنى بعض الفلاحين عمرهم من أجلها “الأراضي التي تقتطع من تراب الواحة، تقتطع بمياهها ونخيلها”، يضيف السهول.
وفي ظل هذا الوضع وفي ظل التهميش الذي تعيش على وقعه المدينة خاصة على مستوى الخدمات العامة، فإن تخوفات ساكنة فجيج طبيعية”.
أصل الوجود
“من يعرف الحفاظ على الماء يعرف كيف يحفظ الإنسان” قالها محمد الجلالي، وهو فلاح صغير بفجيج بستانه لا يبعد كثيرا عن التجمع الحضري لقصر زناكة، أكبر قصور الواحة.
وأضاف في حديث إلى “صوت المغرب”، أن عيون ومنابع فجيج هي التي دفعت الإنسان للاستقرار هنا.. “الماء صنع الإنسان هنا، وعندما يدافع الفجيجي عن الماء فإنه يعتبر الأمر قضية وجود، والماء بالنسبة إليه لا يعني ما يعنيه لشخص آخر في مدينة أخرى تجلبه له الشركة في الصنابير”، يضيف الجيلالي.
29 منبعا للحياة
في واحة فكيك يوجد 29 منبعا للمياه، حسب عبد المجيد بودي، وهو فلاح وخبير في أنظمة الري التقليدية، سبق ورافق منظمات دولية كـ”الفاو”، في دراساتها حول المجال.
يتذكر بودي حتى وقت قريب، قبل أن تصل المياه عبر الصنابير، كيف كان كل بيت في فكيك يتوفر على مطفيات (صهاريج مغمورة في الأرض تستخدم لتخزين المياه)، تنقل إليها المياه عبر قنوات الري، ومن هذا المنطلق يؤكد أن الفرشة المائية للشرب والري لم تكن يوما مفترقة ولا يمكن فصلها، في إشارة إلى أن التمييز في الاستغلال بين ما سيؤول للشرب وحده، والري من جهة أخرى سيكون من الأمور المستحيلة على أية شركة.
ذلك أنه عندما سمح الأهلي للجماعة أول مرة في ستينيات القرن الماضي باستخدام منبع من المنابع لضخ المياه منه وتوزيعه، ظهر التأثير على باقي المنابع المستخدمة في الري جليا، وهو ما دفع الساكنة لتطلب من الجماعة تغيير موضع الضخ.
ومما يجعل سكان الواحة يتشبثون بحرية الاستغلال، كون منابع المياه هي ملكية خاصة، وكل عائلة من عائلات فجيج إلا ولها نصيب من المياه يوازي ما لها من أراضي وبساتين.
طوال 9 قرون أو أكثر تمكنت الواحة حسب بودي من تدبير المياه بطريقة تقليدية ضمنت العدالة والاستدامة، إذ يتم جمع مياه المنابع في صهاريج عملاقة وبعدها يشرف “اسريفي” وهو “رجل الماء” على التوزيع، كما هو الحال لبودي، الذي زاول هذا النشاط لنحو خمسة عقود.
وحدة قياس الأنصبة هي “الخروبة”، ولكل فلاح نصيب بمقدار خروبة أو أكثر أو أقل. ويضمن النظام المعمول به استغلال المياه بشكل سلس، يتمكن معه الفلاح من الري في الوقت المناسب وبعدد المرات التي تتوافق مع المزروعات التي يهوى زراعتها، و تجنبه الري الليلي وفي وقت القيظ، عكس الأنظمة التقليدية الأخرى التي تعتمد فقط على نظام المناوبة.
وظائف عميقة
هذه العلاقة الوطيدة مع الماء، أنتجت لدى الفكيكيين وفق بودي هوية ثقافية وعلاقات اجتماعية ورأسمال لامادي وحتى مادي، يتجلى في العادات الاجتماعية التي صمدت لقرون كنظام “تويزا” الذي مكّن الأهالي من إعمار الواحة وتشييد المنازل فيها.
عبر التاريخ لم يكن الماء يؤدي في واحة فكيك الوظيفة المتعارف عليها اليوم، من شرب وري للمزروعات، بل كان ضامنا لاستقرارها وأمنها، وهنا يعود بودي إلى التاريخ الحديث وبالتحديد في العام 1903 عندما قصفت فرنسا فكيك، وفرضت على أهلها أداء غرامة مالية، فما كان لهم من مصدر لأداء ما فرضته القوة الاستعمارية إلا أن باعوا استغلال يوم من المياه من أجل تحصيل المال الكافي لأداء ما فرض عليهم بقوة النار والحديد.
يلخص بودي الأمر في النهاية وهو يستحضر ما تعرفه الساحة اليوم من احتجاجات ويقول إن “الصراع يتعدى الرئيس والشركة، الجدل قائم بين القوانين المتغيرة والعرف القديم الثابت.. ملي كيهضرو الفاكيك يتجاوزون الماء بحد ذاته لأن الأمر يتخطى إلى المس في العلاقات ديالهم والواحة منظومة متكاملة..”.
وفي الوقت الذي يؤكد مجلس المدينة في تبريره لقرار الانضمام لمجموعة الجماعات، أن الأمر سيمكن من القضاء على الإشكالات المرتبطة بالماء وتعزيز الحكامة، يرى بودي أن المشكل الحقيقي لا يكمن في نمط الاستهلاك الحالي الذي يمكن معالجة أي نواقص تعتريه، ولكن الإشكال الذي كان له أثر بالغ على الفرشة المائية، هو بلورة قوانين فسحت المجال لاستغلال أراضي الجموع، وإحداث استغلاليات كبيرة في مجال إنتاج التمور، في إطار مخطط المغرب الأخضر وضخ مياه الواحة بلا حسيب أو رقيب.