خورخي ميسي..ظِل ليونيل الدائم
يعرف العالم ليونيل ميسي قبل ما يقارب العِقدين، ويتابعه ويقتفي أخباره ويتفرج على معجزاته فوق ميادين كرة القدم، لكن قليلون هم من يسألون عمن يفكر مكان هذا الولد الأسطوري؟ ومن يخطط لمساره؟ ومن يبرمج كل صغيرة وكبيرة في حياته؟ ومن يدير ثروته؟ ومن يدقق في عقوده ومعاملاته المالية؟ من ينوب عنه في التفاوض والتواصل مع محيط مثقل بضغوطات النجومية؟
لم يجد ليونيل، في بداياته مع البارصا، شخصا يثق فيه أكثر من والده ليسلمه مقاليد حياته.
خورخي هوراسكو ميسي.. هذا الأرجنتيني ذو الأصول الإيطالية الذي نشأ في حي فقير في روساريو، وسط كثير من الأسر التي قدِم أجدادها من موانئ نابولي وجنوة وصقلية قبل ثلاثة قرون. تزوج من سيليا، إبنة الجيران، قبيل أيام من انطلاق مونديال 1978 الذي كانت تحتضنه بلاد الطانݣو، وكان لهما شهر عسل استثنائي أنهياه بحضور المباراة النهائية بين الأرجنتين وهولندا داخل مدرجات الملعب.
عاد خورخي وسيليا إلى روساريو وبدءا معركتهما مع الحياة، حيث اشتغل هو كعامل بسيط في معمل للصلب وصناعة الأسلاك، فيما هي كانت تطوف على منازل الأغنياء للقيام بأشغال النظافة، كلاهما عمل لساعات طويلة لمضاعفة الأجر الزهيد ومقاومة شبح الفقر.
تفرغت سيليا للاعتناء بمنزلها، خصوصا بعد الإنجاب. كان ماتياس ورودريغو وليونيل وماريسول في حاجة إلى أمّ بقربهم، تراقب شقاوتهم الطفولية في أحياء لا يُؤتَمن فيها على مستقبل الأبناء.
واصل خورخي الأب الليل بالنهار في مهن شاقة أعال من دخلها المالي أبناءه الأربعة، وكانت فراسته الأرجنتينية المشبعة بهوس كرة القدم تنبؤه أن ابنه الثالث، ليونيل، سيكون له شأن عظيم. فقد بدت عليه علامات ذلك من خلال موهبته الخارقة وسط أقرانه، فيما كان ظهور أعراض مرض هشاشة العظام على ابنه الصغير يؤرقه، مما كان يهدد مسيرته الكروية بالتوقف في سن مبكرة.
فكر الأب وتدبر وقرر في سنة 2001 حمل جميع أفراد الأسرة إلى أول طائرة تتجه من بوينس إيرس إلى برشلونة، هناك طاف على مختلف نوادي كرة القدم لكي يتكفل أحدها بتكاليف علاج ابنه ليو الباهضة، وفي النهاية لم يجد غير ال”بارصا” التي دفعت لمدة عام كامل مبلغ 900 أورو شهريا مقابل حقنة علاجية فعالة لكي يستعيد الطفل الذهبي عافيته وينخرط في فئات لاماسيا بشكل عادي.
تسلق ليونيل فئات النادي ليوقع عقده الأول سنة 2005 وسط اهتمام الخبراء وذوي العيون التقنية الحادقة التي كانت تجزم بولادة فلتة مختلفة من فلتات الزمان. كانت بدايته مع النجومية، وكان لابد من تعيين شخص ليتكفل بأموره خارج الملاعب.
بكل سلاسة وجد الأب خورخي نفسه يقوم بهذه المهمة، والابن أيضا لم يكن يرى في الوجود شخصا ليقوم بها أكثر ثقة ممن كان سببا في وجوده بهذا العالم، خصوصا لما عادت الأم سيليا رفقة أبنائها الثلاثة إلى الأرجنتين وتركت زوجها ليتفرغ كليا لليونيل حتى أصبح مثل ظله الذي لا يفارقه في كل تفاصيل حياته.
يقول خورخي في حوار مع صحيفة “أولي” الرياضية الأرجنتينية: “لقد شعرت عند أول يوم في برشلونة أن مهمتي الجديدة هي أن أوفر كل شروط الراحة لليونيل”. كان وقْع الدهشة على خورخي عند بداية شهرة ابنه صعبا، وتساءل معه الكثيرون كيف للعامل البسيط في مصنع الصلب أن يصبح وكيل أعمال يسير عائدات مالية مهمة ويفاوض في الأمور المعقدة للإشهار والعقود والمعاملات المصرفية، وفوق ذلك عليه إجادة الخضوع لمصالح الضرائب الإسبانية التي تجتهد في إحصاء كل عائدات النجوم.
كانت الخطوة المهمة التي قام بها خورخي ميسي في بدايات ابنه، هي الاستشارة مع صديق أرجنتيني يعمل إطارا مصرفيا عاليا في برشلونة، يومها التقط أولى خيوط النجاح في مهمته الجديدة، ” لقد كان السند الأول الذي عرفت به عالم إدارة الأعمال إضافة إلى وكلاء نجوم آخرين لم يبخلوا علي بتوجيهاتهم” .. يضيف خورخي.
مرت قرابة 20 سنة على أول عقد احترافي لليونيل ميسي في ملاعب كرة القدم، وطوال هذه المدة كان الأب ووكيل الأعمال يتعلم قواعد المهمة حتى أصبح يتقن لغة الأرقام وتقنيات التفاوض ومكامن الربح والخسارة. لقد صار اليوم على رأس مؤسسة عملاقة تقدر عائداتها السنوية الصافية بأكثر من خمسين مليون أورو، ناهيك عن مداخيل أخرى مهمة تدار عن طريق أسهم البورصة والمساهمة في مشاريع استثمارية متعددة في جميع قارات العالم.
حدث يوما أن تابعت محكمة إسبانية ليونيل ميسي وأباه خورخي بتهمة التهرب الضريبي، وخلال الجلسة سأل القاضي ليونيل عن وثيقة ما، كان جواب الابن واضحا أكثر من المطلوب:” لا أفهم كثيرا هذه التفاصيل، أنا مهنتي أن ألعب كرة القدم، أبي هو المكلف بكل هاته الأشياء ولدي الثقة الكاملة فيه أنه يقوم بعمله بشكل صحيح”.
في كل المرات التي كان سينتقل فيها ليونيل ميسي من برشلونة إلى باري سان جيرمان، ثم إلى نادي ميامي الأمريكي، كانت وسائل الإعلام العالمية تبحث عن خورخي أكثر من بحثها عن ابنه الأسطورة، وذلك للظفر بتصريح يتضمن تفاصيل الانتقال، لأن الجميع يعرف أن النسبة الكبيرة في قرارات النجم الأرجنتيني يكون لأبيه خورخي فيها نصيب كبير، فهو دماغه ولسانه خارج الملاعب.