story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

ثورة “التراكتور”

ص ص

عنوان هذا المقال لا يقصد بتاتا الإشارة إلى حزب الأصالة والمعاصرة المغربي ولا مؤتمره الأخير الذي انتهى إلى “التركيبة الثلاثية” في القيادة، والتي جعلت البعض يحوّر اسم رمز الحزب من “التراكتور” إلى “التريبورتور”. بل هي “الضرورة الشعرية” التي حتّمتها مقتضيات العنونة للتطرق إلى الاحتجاجات الكبيرة التي تجتاح أوربا حاليا، ويعمد المنخرطون فيها الى استعمال الجرارات الفلاحية للتعبير عن غضبهم، بوصفهم فلاحين أوربيين “متضررين” من السياسات التي سنتها دولهم إلى جانب مؤسسات الاتحاد الأوربي، فيقومون بالتحرك الجماعي نحو المحاور الطرقية الكبرى والعواصم الأوربية الأساسية من أجل شل الحركة وإثارة الانتباه إلى مطالبهم.
وهم يقومون بثورة الجرارات هذه، يجرّنا بعض المحتجين عنوة إلى ساحة معركتهم، باعتبارنا الحائط القصير، فباتت صادراتنا الفلاحية هدفا لجرارات أوربا، من خلال إغلاق الطرق أمامها والاعتداء عليها بالتخريب والإتلاف.
الفلاحون الأوربيون غاضبون من السياسات الجديدة التي تحملهم على تقليص إنتاجهم وتحسين جودته، وتتجه أكثر نحو الاعتماد على الواردات الفلاحية من دول صاعدة بقوة في هذا المجال، خاصة منها دول السوق المشتركة الجنوبية التي تعرف اختصارا بـ “ميركوسور” وتضم كلا من البرازيل والأرجنتين وأوروغواي وباراغواي، إلى جانب أوكرانيا التي تستفيد فلاحتها من معاملة استثنائية في ظل الغزو الروسي لأراضيها… لكن بعض النقابات الأوربية لم تجد سوى المنتجات المغربية كهدف سهل ومؤهل ثقافيا للاستهداف، خاصة في إسبانيا.
لنسجل أولا أن ما يجري هذه الأيام في شوارع إسبانيا هو اعتداء سافر على مواطنين ومصالح مغربية، ينبغي لخارجيتنا أن تتصدى له بالحزم والصرامة المفترضين في أية دولة ذات سيادة. لنتصور، على سبيل المثال فقط، أن “شعرة” واحدة من رأس مواطن أوربي تعرضت للاعتداء من طرف محتجين مغاربة غاضبين، كيف كانت السفارات الأوربية ستتصرف وكيف كانت تصريحات عواصمها ستنهال فوق رؤوسنا بالوعيد والتهديد.
لسنا أقل شأنا من أي “جنس” أجنبي، وعلى دبلوماسيتنا أن تتصرف بالسرعة والصرامة اللازمين لحمل الدول الأوربية على تحمل مسؤولياتها في حماية مواطنين ومصالحنا.
هذا عن الموقف من الأحداث الآنية، ماذا عن خلفياتها وأبعادها ودروسها؟
يتعلّق الأمر بحركة احتجاجية انطلقت من فرنسا ثم انتقلت إلى جل الدول الأوربية، خاصة منها ألمانيا وبلجيكا وإيطاليا وبولونيا ورومانيا وإسبانيا واليونان والبرتغال… حيث عمد الفلاحون إلى اكتساح “عاصمة” الاتحاد الأوربي واحتلال ساحات غير بعيدة عن مؤسسات الاتحاد الأوربي في قلب بروكسيل، بينما باتت العاصمة الفرنسية شبه محاصرة بعد شل محاور طرقية حيوية في محيطها، كما شهدت ألمانيا احتلال ساحة براندبورغ في وسط برلين، قبل أن ينتقل الغضب إلى دول الجنوب الأوربي، خاصة إسبانيا، حيث يتصاعد التوتر في أفق الوصول به إلى العاصمة مدريد بعد أسبوع من الآن.
لماذا كل هذا الغضب؟ بكل بساطة لأن الفلاحين الأوربيين يعتبرون أنفسهم ضحية سياسات دولهم التي ترمي إلى خفض الانبعاثات المضرة بالبيئة وتقليص حجم استهلاك المياه واستعمال المبيدات والأسمدة… في مقابل الانفتاح أكثر على منتجات فلاحية أجنبية، حتى أن الحصول على دعم أوربي بات مشروطا بترك 4 في المائة على الأقل من أرض الفلاح في راحة بيولوجية…
هل الفلاحون الأوربيون علي حق في احتجاجاتهم أم الدول والمؤسسات الأوربية على صواب؟ لا شأن لنا بذلك. يهمنا هنا استخلاص الدرس المتمثل في بلوغ المخاوف المتعلقة بالوضع البيئي ووفرة المياه درجة حملت صانع القرار الأوربي يقدم على قرارات صعبة ومؤلمة، لأنه مطوق بمسؤوليات وأدوات رقابة مجتمعية وديمقراطية لا تسمح له بالركون إلى الحلول السهلة أو الخوف من ردود فعل أصحاب المصالح.
في المقابل، تكشف السياسات الأوربية استمرار معايير التعامل المزدوجة، كما هو الحال في السياسة وحقوق الانسان، فتبدو الأرض والبيئة والهواء والماء في أوربا، وحدها جديرة بالحماية والتحصين، بينما يجوز استنزاف مياه المغرب والزحف على الغابات الاستوائية في دول أمريكا اللاتينية والأفراط في استغلال أراضيها…
لنعد إلى سياقنا ولنتساءل انطلاقا مما يحصل في أوربا: أين هو نقاشنا المفترض حول الأبعاد البيئية والاستراتيجية لنمط الإنتاج والاستغلال الفلاحيين؟ من هي القوى المجتمعية التي يمكنها لعب دور الضمير البيئي وحمل صناع القرار لدينا على اتخاذ قرارات صعبة ومؤلمة لحماية ثرواتنا الطبيعية وضمان استدامتها؟ ثم من هي القوى والتنظيمات والهيئات التي تُسمع صوت الفلاحين المغاربة وتدافع عن حقوقهم ومصالحهم؟
أخشى أن مجرد محاولة الجواب عن هذه الأسئلة يؤدي بنا إلى مشهد كاريكاتوري: لا أحد من القوى السياسية المعتبرة في مشهدنا العام، يحمل الهم البيئي ويمنحه الأولوية، لا خُضر ولا حُمر ولا بنفسجيين عندنا إلا في مدرجات ملاعب كرة القدم. أما الفلاح المغربي، فما زال بيننا من يطلب منه “حماية العرش” ويجعله خزانا لكل مظاهر الإقصاء والتهميش والفقر والأمية تحت هذه الذريعة. حتى تنظيمات ومؤسسات الديمقراطية والتمثيل الشكليين الموجودة في المدن، تختفي عندما نتجاوز شوارع “بلاكة 60″، ويصبح التمثيل والتنظيم حكرا على السلطة التي يفترض في هذه الآليات الشعبية تحقيق التوازن معها.
كل التضامن مع مواطنينا المحاصرين والمستهدفين في شوارع أوربا هذه الأيام، وخالص التهاني للأوربيين بسياسييهم ومؤسساتهم ونقاباتهم… وبثورة جراراتهم، وهنيئا لنا ب”التراكتور”.