story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

قرميدنا في رفح

ص ص

بالقرب من الركن الجنوبي الضيق لقطاع غزة المحاصر، غير بعيد عن مدينة رفح الحدودية بين فلسطين ومصر التي يراد لها اليوم أن تشهد علي مجزرة وحشية جديدة، كانت هناك منشأة جوية عبارة عن مطار حديث، لعب دور المنفذ الجوي الوحيد من وإلى القطاع، لكنه اليوم وكما أكدت لي ذلك مصادر فلسطينية من عين لمكان، تحوّل إلى أطلال وخراب.
هذا هو التجسيد الفعلي لما آلت إليه علاقتنا بفلسطين. في السابق، كنا حتى ونحن نستقبل قادة الصهاينة ورموزهم السياسية ونتحمل ردود الفعل الغاضبة، بل ومقاطعة بعض الدول العربية لنا، نحافظ على الموقف الذي يتناسب مع إنسانيتنا أولا، ومع موقعنا الحضاري والثقافي والتاريخي، كواحد من أكثر شعوب العالم ارتباطا بفلسطين وأرض فلسطين.
في التسعينيات، وحين كان جزء من الفلسطينيين، ومعهم جزء من العالم، يؤمن بإمكانية العيش في سلام إلي جانب دولة أقيمت فوق أرض مسروقة بالكامل، حرص الملك الراحل الحسن الثاني على ترك بصمة المغرب واضحة في فلسطين الجديدة التي كانت تتشكل حينها كمشروع دولة، وعوّض قلة الموارد والإمكانيات المالية، بإرسال طاقم من المهندسين والأطر مع تحمل أتعابهم بالكامل، ليتولوا بناء مطار غزة الدولي (مطار ياسر عرفات)، تاركين فيه بصمات “القرمود” المغربي فوق بناياته، ليفتتح عام 1998 وقد حصل على توأمة مع مطار محمد الخامس الدولي، بغاية مواكبته وجعله يتطور تدريجيا.
هل تريدون أن نقارن؟
تعالوا نطل على علاقتنا بما يحصل في غزة اليوم: في هذه اللحظات التي نتابع فيها مشاهد جثث الأطفال وهي تتحول إلى طعام للقطط الضالة، بينما أشلاؤهم تعم الأرجاء. ما زال الإعلام الإسرائيلي يصر على أننا من أقرب الدول العربية إليهم، وأننا مرشحون للقيام بدور أمني في غزة ما بعد العدوان.
بالأمس فقط قالوا إنهم يعملون على استدراج المغرب نحو لعب “دور” معيّن في مفاوضات تبادل الأسرى، ليس لأننا دولة يثق بها الفلسطينيون ويقبلون وساطتها في مثل هذه الأمور الحساسة، بل لأن بعض الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة الفلسطينية، ينحدرون من أصل مغربي. هكذا يصنّفنا طاغوت الزمان ضمن دائرة انتمائه، ويصرّ على أننا جزء من معسكره.
صحيح، لا يمكن أن ينكر أي كان أننا من بين الدول العربية القليلة التي تعرف مظاهرات شعبية كبيرة ومنتظمة للتعبير عن التضامن مع الفلسطينيين، وأن السلطة عندنا تتميز عن كثير من أنظمة المنطقة باحترامها حق شعوبها في التظاهر ورفع الشعارات ضد إسرائيل، وصحيح أيضا أن المغرب عبّر هذا الأسبوع على إقوى موقف مندد بالعدوان منذ انطلاقه قبل أكثر من أربعة أشهر، وصحيح أيضا أن لقاء لبرلمانات الدول المتوسطية لن يعرف حضور الوفد الإسرائيلي في الغالب… لكن هل يجنبنا كل هذا عار الأشلاء والدماء البريئة التي تسفك على يد قتلة يعتبرون رسميا حلفاءنا وأصدقاءنا؟
كلا.
يخبرنا الأستاذ الجامعي الكفؤ، سعيد الصديقي، في ورقة نشرت له هذا الصباح في موقع المعهد المغربي لتحليل السياسات، أن المغرب وعلى غرار الكثير من دول المنطقة، واقع في معضلة التوفيق بين ثلاثة عناصر هي الالتزام المبدئي بمساندة الفلسطينيين، ثم المصالح المرتبطة بالاتفاق الثلاثي المغربي-الأمريكي-الإسرائيلي، ثم الغضب الشعبي المتصاعد ضد “التطبيع”. ويضيف أستاذ العلاقات الدولية أن المغرب سيواجه تحديا كبيرا في الفترة المقبلة للحفاظ على التوازن بين هذه العناصر الثلاثة، ويخلص إلى أن قطع العلاقات مع إسرائيل سينعكس بشكل واضح على مصالح المغرب، مرجحا في المقابل خيار تجميد مسار التطبيع الجاري، كحل توفيقي ممكن.
هذه قراءة العلاقات الدولية والحسابات الجيو-سياسية، وهي القراءة العلمية التي تنطلق من مدخلات دقيقة دون شك، لكن بمنطق التفاعل الإنساني الذي يؤدي في الغالب إلى مخرجات غير قابلة للتوقع والاستباق، يقول أننا ونحن نحاول الحفاظ على توزان المصالح والأخلاق، نربي في أحشائنا شرخا لا ندري كيف سينعكس على عيشنا المشترك في المستقبل.
هذا الاستسلام أمام إغراء التوفيق بين تفريغ شحنة الغضب الشعبي عبر إفساح الشارع للمظاهرات، والاحتفاظ باتصالات بل وصفقات واتفاقات تحمل على الشعور بالعار، يخفي لغما مخيفا يستقر في بطن المغرب، يضم خليطا من الغضب والنقمة وعدم الثقة في الدولة، ما دامت تتعامل مع المجتمع بمنطق “شاورها ما دير برأيها”، ومن حيث يعتقد البعض أنه يحافظ على مصالح الدولة في الخارج دون أن يصطدم بالداخل، تتسع الهوة الداخلية ويتعاظم الشعور الجماعي بالدوس على مشاعر الشعب والمشاركة، عبر مواصلة مسار التطبيع كأن شيئا لا يحصل في غزة، في التقتيل والإبادة الجاريان أمام أعين العالم.
إننا نتحول إلى دولة صغيرة، هامشية، لا دور ولا تأثير لها في القضية المهيكلة للمنطقة، بل وللعالم. موقعنا على رأس لجنة القدس كان نتيجة لاشتغال طويل وعميق من أجل الاحتفاظ بأوراق وازنة في المعادلة الفلسطينية، وعندما كانت المعادلة تخضع للتعديل، كنا نبادر للإمساك بأوراق جديدة من خلال تشييد المطار والمساعدات والمستشفيات الميدانية، ونضرب في الوقت نفسه عصفورا ثانيا يتمثل في حماية اللحمة الوطنية قوية، وبقاء السياسة الخارجية لبلادنا فوق عتبة الحد الأدنى من الوفاء للاختيارات الوطنية والتطلعات الشعبية.
أما اليوم، فالخشية من أن نكون بصدد استهلاك “الربح وراس المال”. فلا المواقف المعلنة بين الفينة والأخرى تحفظ لنا مكانتنا الوازنة في الملف كأمة داعمة لفلسطين ومنفتحة على الطرف الآخر، ولا لحمتنا الوطنية ستكون بخير بعد هذا التناقض الصارخ بين الأقوال والأفعال. أما حلم التحول إلى حليف صريح وكامل لإسرائيل والاستناد في ذلك إلى وهم “الجالية” المغربية، فمحض سراب.
إن لم نغضب وتحركنا إنسانيتنا لفعل الحد الأدنى من الواجب أمام هذه الجرائم التي ترتكب ضد الأطفال في رفح، فلنغضب على الأقل لما شيّده مهندسونا ليكون جسرا جويا بين رفح الفلسطينية وبقية العالم.. لنغضب لقرميدنا.