story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

مغرب الفقاعات

ص ص

يعيش من يواظب على الكتابة الصحافية في أحد أجناس الرأي بشكل منتظم، مأزق اختيار الموضوع في بداية الأسبوع، لأن أحداث وتطورات كثيرة تحدث خلال يومي نهاية الأسبوع. بل إن جل الأحداث السياسية والاجتماعية الكبرى يختار أصحابها هذه الفترة لتنظيمها، ضمانا لحضور المعنيين أو المستهدفين بها.
هذا ما جعلني هذا الصباح أعيد تقليب أوراق قراءاتي وملاحظاتي خلال اليومين الماضيين، للحسم في موضوع هذا المقال، وأنا في حيرة بين مواضيع يصعب الفصل بينها، من مسيرة شعبية كبرى للتضامن مع فلسطين، ومؤتمر عادي-استثنائي لحزب الأصالة والمعاصرة، مرورا بموضوع الماء الذي يشغلني شخصيا وأشتغل عليه كثيرا…
وأنا أحاول التحكيم بين هذه المواضيع وأخرى، وجدتني مشدودا إلى فكرة أخرى تلامسها كلها وتتجاوز تفاصيلها في الوقت نفسه. لا يتعلق الأمر بمحاولة لتبرير “الهروب” من مواجهة موضوع واحد بتعقيداته وتشعباته، لكن الفكرة تتمثل في تحوّلنا كمغاربة إلى مجموعة من الفقاعات المتطايرة في الهواء (نحو المجهول ربما)، في انفصال تام عن بعضها البعض.
أرخبيل من الجزر غير المرتبطة بجسور ولا بأنفاق.
تتابع مثلا تجمعا مثل مؤتمر حزب الأصالة والمعاصرة، فتجد نفسك أمام مجتمع خاص، له قاموسه، وأولوياته، ونظرته الخاصة لمغرب لا يوجد إلا عند هذا الحزب، بما لا يستحضر بتاتا ما يمكن أن تجده مطروحا مثلا في ندوة جماعة العدل والإحسان الأخيرة لعرض “الوثيقة السياسية”، أو ما يناقشه مجلس وطني لحزب الاتحاد الاشتراكي، أو ما دار في نقاشات المشاركين في المؤتمر الأخير للاتحاد العام للشغالين…
بل إن الاختلاف والتباين يمتد ليشمل حتى السحنات، والملامح، والمظهر الفيزيولوجي والخارجي.
خضت أمس ما وسعني بين جموع المشاركين في المسيرة الشعبية للتضامن مع فلسطين، ولا أدري لماذا أجدني في كل مرة أحضر فيها هذه المسيرات، وأحرص في كل مرة على الغوص في التفاصيل والذوبان وسط الجموع، فأشعر كما لو أنني ألتقي بمجتمع مغربي آخر، مختلف تماما عن المجتمع الذي يمكنني أن أجده في لقاء تضامني مع فلسطين في مسرح محمد الخامس مثلا، من تنظيم حزب سياسي أو جهات شبه رسمية.
أكثر من ذلك، أثارني يوم أمس ذلك التقابل الفاقع بين من يتظاهرون، ومن يمثلون السلطات بمختلف أنواعها. ويثيرني بشكل خاص منذ بدأت مسيرات التضامن مع فلسطين بعد انطلاق العدوان الإسرائيلي الحالي على غزة، ذلك السلوك شبه المثالي للسلطات، لدرجة أكاد معها أصفع نفسي لأتأكد أنني لست في حلم.
تابعت جل المسيرات التي نظمت منذ هجوم المقاومة الفلسطينية البطولي ليوم 7 أكتوبر 2023، ولا يمكنني أن أخفي أنني أشاهد سلوكا لا يشبه الانطباع العالق في ذهني عن السلطة المغربية. كأننا في لندن، تتحول قوات الأمن وحفظ النظام إلى لجنة منظمة للمسيرة بكل معنى الكلمة. إخلاء للشوارع وتأمين للمسار، بل وتنظيف بلغ صباح أمس الأحد درجة إحضار آليات خاصة قامت بشفط مياه بعض “البرك” التي خلفتها الأمطار في المسار المفترض للمسيرة وتجفيفها.
لكن وبعد ساعات من التظاهر الحاشد والصراخ وترديد الشعارات، يرحل هذا “المجتمع” المتظاهر إلى حال سبيله، وتعود رموز السلطة إلى قواعدها، فلا يتغيّر لديها شيء، بل تواصل سياساتها “التطبيعية” كأنها لم تسمع أيا من تلك الشعارات ولا حتى صادفتها في شارع محمد الخامس قبالة البرلمان.
“كلها يلغي بلغاه كلها، كلها يشطح شطيحو”، يقول مثلنا الشعبي المأثور.
الأمر نفسه يكاد ينطبق على كل شيء: مررنا بأزمة ترقى إلى مستوى الكارثة في مجال التعليم، قرابة أربعة أشهر من انقطاع ملايين التلاميذ عن الدراسة، ولم يخرج النقاش عن دائرة الموظفين (الأساتذة) والحكومة، كأن تعليم أبناء المغاربة مجرد علاقة ثنائية بين فئة مهنية ووزارة.
نعيش حاليا أسوأ وضعية على الإطلاق في وارداتنا ومخزوننا من المياه، منذ بدأ قياس حجم الواردات المائية في المغرب سنة 1945 (عام الجوع)، ولا أحد (تقريبا) يرى أن الأمر جلل ويستحق الطرح في أجندة النقاش العمومي، إلا من انقطعت عنه المياه في بيته، أو ورشته، أو مزرعته… “راسي يا راسي”، يقول مثل شعبي آخر.
الانكفاء ذاته يكاد يشمل جميع دوائر الاهتمام والمصلحة الأخرى.
جربوا أن تنصتوا إلى خطاب لرئيس الحكومة عزيز أخنوش، ستشعرون كما لو أن كل ما يتحدث عنه المغاربة من غلاء وفقر وبطالة، وما تطفح به تقارير ترانسبرنسي الدولية وهيئة الوقاية من الرشوة من انتشار للفساد بالمعطيات والمؤشرات والأرقام… مجرد “حلمة خايبة”.
هناك بالفعل بعض الفلتات المتفرقة هنا وهناك تحاول التجسير بين هذه الدوائر، لكنها آخذة في اليأس والتراجع والاندثار. لقد بات إقناع أحد العقلاء أو الحكماء أو الخبراء بالمشاركة في جلسة نقاش مفتوح أشبه بالحصول على بيضة الديك.
نتحول تدريجيا إلى سرب من الفقاعات المتطايرة، لكن وهي في طريقها نحو الاندثار عند الاصطدام بأبسط تيار هوائي، تتباعد وينعزل بعضها عن بعد.
يفترض في سياق سياسي واجتماعي سليم أن تلتقي وتتفاعل هذه الدوائر في أطار مؤسسات منتخبة ومؤسسات للمجتمع المدني وفي منابر إعلامية تضطلع بدور توسيع وتأطير النقاش، وفي غياب ذلك، أخشى أننا في لحظة من لحظات الحاجة إلى الاجتماع والالتئام لخوض النقاش والتداول حول المشترك والثابت والموحد، لن ننجح في ذلك. ليس لأننا لا نريد، بل قد لا نستطيع، لأننا بكل بساطة لن نتعرف على بعضنا البعض.
من حيث نعتقد أننا نعيش تعدديتنا وتنوعنا، يمعن كل منا في نسج جدار فقاعته من خيوط انكفائه على ذاته، ماضيه، جغرافيته، عرقيته، قبيلته، كوابيسه، أحلامه، هواجسه ومخاوفه، فيعظم بيننا الشرخ.
حذار من مغرب الفقاعات.