story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

الخلافة البرلمانية

ص ص

ألقت جماعة العدل والإحسان بحجر في بركة السياسة الراكدة مساء أول أمس، بكشفها النقاب عن وثيقة جديدة أطلقت عليها اسم “الوثيقة السياسية”، والتي تخرج الجماعة، جزئيا، من دائرة “الغموض الاستراتيجي” التي تحصنت فيها على مدى عقود.
الوثيقة الجديدة، وخلافا لوثائق سابقة صدرت عن الجماعة، تحمل رسالة يد ممدودة، وهي تخاطب بالدرجة الأولى الفرقاء السياسيين الذين يصفهم خطاب الجماعة ب”الفضلاء” ويعني بهم الحلفاء المحتملين، وجلهم يتحدر من اليسار، حيث تحاول الجواب عن أسئلتهم المأثورة تجاه الجماعة، أي ماذا تريدون تحديدا؟
توزعت بنود الوثيقة بين محاور وعناوين تكاد تغطي كل ما ينبغي لبرنامج حزبي – انتخابي أن يتضمنه، لكن قادتها يصرون على أن الأمر لا يتعلق ببرنامج حزبي، بل بمرحلة وسطى بين المرجعيات والأسس وما يمكن أن يكون برنامجا في المستقبل.
تتخلى الوثيقة الجديدة عن القاموس “الجذري” للجماعة الذي كانت توظفه لوصف الوضع السياسي، وتستمد كلماتها أساسا من حقل علم السياسة والقانون العام كما يدرّس في الجامعة المغربية، فلا نعثر على عبارات من قبيل “الحكم العاض”، وتعوضها بعبارات مثل “الحكم الفردي” و”السلطوية”. ولا ترد عبارة “الخلافة” إلا مرة واحدة في هامش يحيل على أحد كتب عبد السلام ياسين، وفي المقابل تحضر بقوة عبارات “الديمقراطية” و”الحرية” و”الحقوق” و”السيادة الشعبية” و”فصل السلط”…
باختصار شديد هو جسر تحاول الجماعة تشييده مع حلفائها المحتملين ممن كانوا يطالبونها بتوضيح موقفها من الاختيارات السياسية الكبرى. ودون أن يرد هذا المفهوم حرفيا ضمن الوثيقة، فإن هذه الأخيرة تدعو إلى نظام برلماني باعتبار المؤسسة التشريعية هي “المؤسسة المركزية التي تعبر عن إرادة الشعوب، ومؤشرا مهما لقياس منسوب الديمقراطية في أي بلد”، فتدعو إلى جعل التشريع اختصاصا حصريا للبرلمان، وتوسيع مجال الرقابة البرلمانية ليشمل مجالات الأمن والدفاع…
في المقابل، تزكي الجماعة فكرة اختيار رئيس الحكومة من الحزب المتصدر للانتخابات، مع ضمان تشكيل الحكومة في “أجل معقول”… وهنا يلاحظ أن المؤسسة التي غابت عن بنية “الدستور” الذي تقترحه الجماعة، أي المؤسسة الملكية، هي التي تحضر بقوة وبشكل ضمني، من خلال القائمة الطويلة من الصلاحيات والسلطات التي تصر على منحها إما للبرلمان أو للحكومة، بينما هي حاليا من اختصاص الملك، مثل تعيين وإقالة الوزراء، و”إقرار مسؤولية الحكومة عن جميع القطاعات بما فيها المجال الأمني والعسكري” مع عودة العمل بمنصب وزير الدفاع، و”ربط السلطة التنفيذية بالحكومة دون غيرها”…
بل إن مطلب نقل السلطات والصلاحيات من المجال الملكي إلى دوائر السلطات الثلاث المتعارف عليها أكاديميا، يشمل المجال القضائي، حيث تدعو الوثيقة السياسية للجماعة إلى ضمان استقلالية كاملة للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، واعتماد الانتخاب كآلية وحيدة لاختيار أعضائه… بل إن هذا الاختيار يشمل المجال الديني، حين تدعو الوثيقة إلى “تحرير مؤسسات الشأن الديني، ومنها المساجد، من احتكار السلطة وضمان حيادها وعدم توظيفها في المناكفات السياسية والدعاية الحزبية والاختلافات المذهبية”، وإعادة النظر في الأوقاف والأحباس لجعلها مؤسسة “مستقلة”، وتنظيم الإفتاء في شكل “مؤسسة للاجتهاد على أصول الرسالة الإسلامية بفقهها التجديدي الجامع المعتدل والمنفتح على مختلف التخصصات”… أي باختصار تحييد الدين ونزعه من يد الدولة، إذ لا ترد عبارة “إمارة المؤمنين” نهائيا في الوثيقة.
ولأن الرسالة المركزية للوثيقة، كما فهمتها شخصيا، موجها إلى الحلفاء المحتملين، فقد حرص معدّوها على التقدم خطوة نحو التيارات التقدمية واليسارية بخصوص المرأة، فخصتها بعنوان يقول: “المرأة والشباب فئتان استراتيجيتان”، وهي الإشارة التي التقطتها الرئيسة السابقة للجمعية المغربية لحقوق الانسان، خديجة رياضي، حين أشادت بهذا العنوان خلال الندوة التي خصصت للكشف عن الوثيقة بمجرد تصفحها لها.
أبانت الوثيقة في هذا المجال عن درجة عالية من الحرص على المشي فوق حبل رفيع يربط بين مرجعيات الجماعة الدينية ومطالب حلفائها المحتملين، فتحدثت عن حقوق المرأة وضرورة انصافها وتخصيصها بدعم “مالي ومعنوي للأمومة وللمرأة ربة البيت”، واعتماد التمييز الإيجابي لصالح المرأة بشكل مرحلي في مجال الولوج إلى الوظائف، و”ضمان الحق في اختيار الزوج، وفي اشتراط المطالب المعقولة أثناء الزواج”… دون أن يرد مفهوم المساواة في المحور المتعلق بالمرأة، بل اقتصر ذكره في المحاور المرتبطة بالحقوق السياسية لعموم المواطنين.
خطوة جزئية أخرى قامت بها الجماعة في علاقة بحرية المعتقد، حين أكدت على “ضمان الحق في حرية العبادة لأتباع الرسالات السماوية الأخرى وفق مقتضيات القانون”، مع التشديد على كون حرية الاختيارات العقدية والدينية مبدأ أصيل في الدين الإسلامي، لكنها، حسب الوثيقة حرية “مسؤولة” ينظمها القانون في الفضاء العام بمنطق التعايش المجتمعي الفاضل. “فمثلما لا يحق لأي كان أن يتسور على الناس بيوتهم ليطلع على أسرارهم بدعوى الرقابة الأخلاقية، فإنه لا يحق لأي كان بدعوى الحرية الفردية أن ينتهك الفضاء العام المشترك الذي يفترض أن يحميه الدستور والقانون”.
تلقت الجماعة خلال ندوة تقديم وثيقتها الجديدة أسئلة حول طبيعة النظام السياسي الذي تتصوره، وموقع الملكية فيه، فكان جواب القيادي عمر احرشان، وهو أستاذ جامعي، ألا داعي للحديث عن الشكل في المرحلة الحالية، وأن المهم هو الحديث عن المضمون.
وبما أن المضمون الذي حملته الوثيقة يمتح أساسا من الأنظمة البرلمانية، فإن تجنب معديها استعمال عبارة “الملكية البرلمانية” يؤكد التموقع في دائرة التفاوض مع الحرص على التطمين والمرونة، خاصة عندما تدعو الجماعة إلى جمعية تأسيسية غير سيادية لوضع دستور جديد، وتعلن استعدادها لتقديم مرشحين مشتركين لعضوية هذه الجمعية، نفيا لتهمة الاكتساح (الطوفان).
وفي انتظار تقدم الجماعة أكثر في درب الوضوح الاستراتيجي، دعونا نطلق على مشروع وثيقتها السياسية الجديدة اسم “الخلافة البرلمانية”.