آيت يدر.. آخر المقاومين وشيخ اليسار الذي عارض “الملوك الثلاثة”
سيظل صباح اليوم 6 فبراير 2024، صباحا حزينا في ذاكرة البلاد، ففيه رحل أحد رجالاتها الحالمين وآخر المقاومين، إنه بنسعيد آيت يدر شيخ اليساريين و”معارض الملوك الثلاثة” الذي فارق الحياة صبيحة هذا اليوم، بالمستشفى العسكري بالرباط، عن عمر يناهز 99 سنة.
لم يكن بنسعيد آيت يدر رجلا عاديا ولن تكون سيرته عابرة في التاريخ الوطني للمملكة، اختبر المقاومة وظلام السجون ومرارة النفي، ثم النضال من داخل المؤسسات ليرحل شامخا كما عاش.
آيت يدر.. الطفل الذي كانه
هو ابن قرى سوس، جاء إلى الحياة سنة 1925 ورأى النور بقرية تين منصور ضواحي اشتوكة آيت باها. هناك نشأ وعاش سنوات عمره الأولى، بنسعيد آيت يدر اختبر الألم صغيرا، إذ غادرت والدته الحياة تاركة إياه دون السادسة من العمر.
درس بنسعيد كشأن كل أقرانه وقتها ب”المسيد” وبعد أن حفظ طفلًا القرآن كله، تنقل بين عدد من مدارس سوس، قبل أن يستقر به المقام في النهاية تلميذا في مدرسة ابن يوسف بمدينة مراكش هذه المؤسسة الولود التي أنجبت العديد من عناصر النخبة الوطنية أيام الحماية.
لم يكن بنسعيد يدري ربما أن هذه المدينة، ستحدد فيما بعد معالم الرجل العظيم الذي سيكونه، ففي مراكش فتح بنسعيد عينه على واقع البلاد التي تعيش تحت نير الاستعمار، هذا الواقع الذي سعى آيت يدر جاهدا إلى الانتفاض في وجهه وهو الرجل الذي سيصبح الانتفاض في وجه الظلم كيف ما كان عقيدة لا يحيد عنها حتى في أحلك الأيام.
أول درب النضال
في مدينة مراكش التقى الراحل عددا من القيادات الوطنية من طينة المهدي بنبركة وآخرين، ليؤمن آيت يدر بجدوى العمل الوطني، إلا أنه آمن أيضا بالمقاومة المسلحة سبيلا لا بديل عنه لانتزاع المغرب من براثن الاستعمار.
وهكذا، شارك في قيادة جيش التحرير وتكوين خلايا المقاومة، إلى أن تولى منصب المسؤول السياسي لقيادة جيش التحرير في الجنوب. هذا الاختيار الذي ألهمته إياه عملية كريان سنطرال إبان انتفاضة الدار البيضاء 1947، والبطولات التي قام بها المقاوم أحمد الحنصالي، بداية الخمسينيات
هذا الأخير استجابة لنداء ضميره وحده كان يحمل السلاح وفي مبادرات فردية، يغتال الفرنسيين، هذا الموقف الشجاع الذي قال عنه بنسيعيد آيت يدر في مذكراته إنه “كان موقفا ملهما لحماس المغاربة.. دالا على البطولة والتحدي”.
ثم بعد أن تحقق المنى ونالت البلاد استقلالها، شق آيت يدر درب نضال آخر لا يقل شقاء عن النضال الأول ضد المستعمر، حيث بدأت الهوة تتسع بين قيادة جيش التحرير واليسار من جهة وبين النظام الحاكم من جهة أخرى.
وقبل ذلك أسهم الراحل في تأسيس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، قبل أن ينسحب منه لاحقا لاختلاف في وجهات النظر. هذا الخلاف في قيادة الحزب، كان مرده أن بنسعيد آيت يدر يرى في تبني اختيار ثوري تقدمي له التصاق بالجماهير الشعبية الخيار الأمثل.
في مواجهة النظام
بعد أن كان يواجه الراحل باستماتة الاستعمار، وجد آيت يدر نفسه في مواجهة جديدة، هذه المرة ضد النظام الحاكم. واختبر الاعتقال والفرار إلى الجزائر على إثر ذلك كثيرا، إلا أن اللحظة الفارقة في حياته كانت حينما اتهم في ما يعرف بـ”مؤامرة يوليوز 1963″.
هذه الواقعة التي شهد المغرب على وقعها واحدة من أشهر المحاكمات السياسية، حيث تُوبع فيها حوالي 5 آلاف من مناضلي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، ووجهت إليهم تهم ثقيلة من بينها، التخطيط للإطاحة بالنظام حينئذ واغتيال الملك الحسن الثاني في غرفة نومه بالقصر الملكي.
أمام هذا الوضع لم يكن لبنسعيد آيت يدر خيار آخر سوى الرحيل، أو الفرار إلى الجزائر مرة أخرى بينما حوكم هنا غيابيا في بلاده بالموت إعداما.
في ذلك المنفى الاضطراري، الذي كان في البدء بالجزائر، ثم لاحقا في فرنسا منذ 1964، هناك حيث انخرط في منظمة “23 مارس”، التي تنهل من المرجعية الماركسية اللينينية، هذه المنظمة التي كانت إلى جانب حركة “إلى الأمام”، أبرز تنظيمين ماركسيين ثوريين في المغرب وكانتا تحلمان بتأسيس حزب ثوري وقيادة ثورة تُسقط النظام.
تعرضت “23 مارس”، مثل بقية التنظيمات السياسية السرّية، للتضييق، وبعد نقاش طويل خلصت قيادات الحركة إلى ضرورة التحول من العمل السياسي السرّي إلى العلني، ليتم بعدها تأسيس حزب “منظمة العمل الديمقراطي الشعبي” في يناير من سنة 1983.ولم يكن سوى محمد بن سعيد أيت إيدر مؤسسا لهذا الحزب.
النضال من داخل المؤسسات
حينما عاد الراحل إلى المغرب من منفاه أخيرا مع مجموعة من قيادات المنظمة، ظن البعض أنه ربما قد راجع أوراقه، إلا أنه خيّب هذه الآمال وظل راسخا على عقيدة النضال، بصيغة أخرى، وقد عبّر عن ذلك بعودته إلى العمل الحزبي من خلال تأسيسه، عام 1983، حزب “منظمة العمل الديمقراطي” الذي يراه البعض امتدادا لمنظمة “23 مارس”.
وهكذا دشن آيت يدر، باسم الحزب عمله من داخل المؤسسات، إذ دخل قبة البرلمان نائبا عن المنطقة التي ينتمي إليها سنة 1984، وقد ظل يمثلها مدة ثلاثة وعشرين سنة بحالها.
رغم محاولات صدّه المتكررة، إذ بعث الملك الراحل الحسن الثاني بإدريس البصري ليبلغه رسالة تقول: “لا تطرح موضوع المعتقلين السياسيين بالبرلمان!”، ولن ينس التاريخ اسم آيت كأول من طرح عددا من القضايا المحظورة في البرلمان، كما فعل حين تجرأ على طرح سؤال عن سجن تزمامارت.
يقول بن سعيد عن تجربته الطويلة في البرلمان: “اكتشفت أن الممارسة البرلمانية لم تتطور إلى ما هو أفضل، بل حصل فيها تراجع كبير منذ أن انتقلت المعارضة التقدمية إلى الحكم… التحاقها بالسلطة إثر مرحلة ما سمي “التناوب التوافقي” ترك فراغا كبيرا…”.
ثائر على كل شيء
كانت لبنسعيد آيت يدر مواقف واضحة لم يكن يزيغ عنها مهما مر الزمن، فهو الذي عبر عن رفضه كل دساتير المملكة منذ الاستقلال معتبرا إياها ممنوحة تكرس ملكية مطلقة ومركزية، بما في ذلك دستور سنو 2011.
ولم يكن الراحل يستجيب لما تمليه التقاليد المخزنية في تقبيل يدي الملك، معبرا عن ذلك في مناسبات كثيرة ويقول عن هذا الأمر إنه “لا يعني أنه تحقيرا للمؤسسة الملكية، ولكنه وضع للنقاط على الحروف وتأسيس لثقافة جديدة”.
آخر محطات الراحل الحزبية حينما تولى الرئاسة الشرفية لحزب اليسار الاشتراكي الموحد، بعد أن ساهم حزب “منظمة العمل الديمقراطي” في تأسيس الكتلة الديمقراطية عام 1992. ورغم الانشقاق الذي تعرض له لاحقا، بانسحاب عدد من القيادات، اندمج الحزب مع تيارات يسارية أخرى، لينتهي الأمر بتأسيس حزب اليسار الاشتراكي الموحد سنة 2002.