story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

مداعبة الفساد

ص ص

نعيش حاليا صعودا قويا لتيمة الفساد في النقاش العمومي، سواء عبر التقارير المدنية، الوطنية والدولية، أو تلك الرسمية الصادرة إما عن مؤسسات دستورية كمثل الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها والمجلس الأعلى للحسابات، أو من خلال المتابعات التأديبية والقضائية للمنتسبين للسلطات الثلاث، القضائية والتنفيذية والتشريعية.
فقبل يومين فقط كشفت منظمة الشفافية العالمية تراجع المغرب في مؤشر إدراك الرشوة من الرتبة 94 إلى الرتبة 97 عالميا، واحتلاله الرتبة الثامنة عربيا، لم يتقدم سوى عن الجزائر ومصر وبعض الدول العربية “الفاشلة” أو المنهارة.
ويوم أمس جاءت رئيسة المجلس الأعلى للحسابات، زينب العدوي، لتذكرنا بشبه غياب آلية حقيقية لمراقبة ثروات المسؤولين والأمرين بالصرف، بالنظر إلى افتقاد عملية التصريح بالممتلكات للحد الأدنى ممن الجدية… لتنكأ جرح التغييب القسري لقانون محاربة الإثراء غير المشروع.
دعونا نتفق أن المعيار الأول لقياس جدية محاربة الفساد في أي بلد هو وجود رقابة مجتمعية على السلطات، وهو ما نفتقر إليه في جميع المستويات في مقابل انتظار قيام المؤسسة الملكية بكل شيء.
القضاة لا يقبلون أية مساءلة أو محاسبة إلا من الملك، والحكومة بإدارتها تعتبر نفسها في خدمة الملك وترفض بالتالي أية مساءلة تأتيها من جهة أخرى، وها هو البرلمان نفسه الذي يفترض فيه تمثيل السيادة الشعبية، يتململ بزعم تخليق عمله بعدما جاءته رسالة من الملك.
لا يتعلق الأمر هنا بالتشكيك في نوايا أو قدرات المؤسسة الملكية، بل لأن منطق الأشياء يفترض وجود قوى مضادة من داخل المجتمع “تساعد” الملك أو من هم دون الملك ممن يخلصون النية في محاربة الفساد.
حضرت الأسبوع الماضي جلسة نقاش مفتوح مع رئيس الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، وسمعت منه كلاما جميلا، لا أظنه إلا صادقا فيه، حول دعوة مفتوحة لجعل سنة 2024 انطلاقة جديدة لمحاربة الفساد، وبشرّنا الرجل بقرب شروع جهاز متخصص اسمه “جهاز المأمورين” في تعقب الفساد الكبير والمركب ومحاولة تفكيكه، مستعينا في ذلك بخبرات فريق مؤهل استقطب كفاءات لها تجارب سابقة في الشرطة القضائية والمالية والجمارك… لكن الرجل لا يملك أية ضمانة لفعلية عمل مثل هذا الجهاز أو استقلاليته.
يكفي أن نعلم أن النص الدستوري الذي نص على إحداث هذه الهيئة مرت عليه اليوم قرابة 13 سنة، وما زلنا نعتبر أنفسنا في مرحلة التأسيس والانطلاق. لماذا؟ لأن جيوب المقاومة حرمت هذه الهيئة من التأسيس، وعندما تأسست حرمتها من القوانين والصلاحيات اللازمة، وعندما حصلت على هذه القوانين معززة برئيس يعرف كيف يدافع عن صلاحياته، اكتشفنا أن هناك تناقض بين الفصل167 الذي نص على إحداث الهيئة وخولها مهام المبادرة والتنسيق والإشراف وضمان تتبع تنفيذ سياسات محاربة الفساد، وبين الفصل 90 الذي يعتبر رئيس الحكومة رئيسا للسلطة التنظيمية وبالتالي لا يمكن لرئيس الهيئة أن يمد يده نحو أي من القطاعات الحكومية التي يحتاج لانخراطها، إلا بضوء أخضر من رئيس حكومة يجر وراءه شبهات كبيرة تتعلق بتضارب المصالح والاستفادة من موقع مسؤليته التدبيرية… لنضطر للبحث عن بدعة جديدة يشتغل فيها رئيس هيئة محاربة الفساد جنبا إلى جنب مع رئيس الحكومة لمحاربة الفساد الذي قد يكون هذا الأخير يوما ما طرفا فيه.
أما البرلمان، وبعدما ضربت ملاحقات أعضائه بتهم الفساد وارتكاب الجرائم أطنابها في صفوفه، واضطرت المؤسسة الملكية إلى الدعوة علنا إلى “تخليق الحياة البرلمانية من خلال إقرار مدونة للأخلاقيات في المؤسسة التشريعية بمجلسيها تكون ذات طابع قانوني ملزم”، بادر مسؤولوه إلى وضع مسودة مدونة يعتقدون أنها تحقق ما دعا إليه الملك، بينما هي في الواقع تضرب حقا دستوريا راسخا، هو قرينة البراءة، وتفتح الباب أمام تقييد حركة أي عضو مزعج في البرلمان وتكميم فمه، عبر إقرار إجراءات ضد من فتحت ضده ملاحقة قضائية بشبهة الفساد.
تتحدث المسودة عن منع البرلمانيين المتابعين من حضور الجلسات الافتتاحية للدورات البرلمانية ومن اكتساب العضوية بمكتب المجلس ومن رئاسة أو عضوية مكتب لجنة من اللجان الدائمة ومن العضوية في المهام الاستطلاعية المؤقتة ومن العضوية في مجموعات العمل الموضوعاتية المؤقتة ومن العضوية في لجان تقصي الحقائق…
هل يعقل في دولة ينص دستورها على أن المتم بريء إلى أن تثبت إدانته، أن ننزل عقوبات، من هذا النوع، وإن سميت على الورق بكونها “احترازية”، ضد من يفترض فيه الاشتباك مع مركبات المصالح والشطط في السلطة والشبكات التي تخترق أو تحاول اختراق مؤسسات الدولة؟
وأية ضمانات ستحملنا على الثقة في عدم توظيف مثل هذه المقتضيات ضد السياسيين المراد إسكاتهم ونحن نتفرج في هذه الأيام بالضبط على عملية سحل وتنكيل وحشي بالصحافي حميد المهداوي وزوجته جهارا نهارا وعلى مرأى ومسمع من النيابة العامة والقضاء والبرلمان؟
ومن أين سنأتي لهذه التحركات بالثقة في الوقت الذي تتابع فيه الصحافية حنان بكور بناء على شكاية من حزب رئيس الحكومة، وبتحرك فوري للنيابة العامة جعل الشرطة تصل إلى بيتها خلال ساعات لتسائلها عن عبارات “تُزفّ” و”السياسة بنت كلب”؟
مع كامل التقدير والاحترام للكثير من الصادقين في مسعى محاربة الفساد، فإن ما يجري حاليا لا يحمل على الاقتناع بجدواه، كما لو أن الفساد في صفوف الحكومة والبرلمان لا يعود في الأصل إلى تدبير سياسي معيب للعملية الديمقراطية والسياسية، يخلي الساحة من المناضلين ويملؤها بالمتاجرين والانتهازيين.
ما نعيشه حاليا محض مداعبة للفساد، وكما يعلم الجميع فإن المداعبة قد تسعف في التمهيد لآمر آخر، يتسم بالمتعة ويؤدي إلى التناسل، ولا يفضي بتاتا إلى المحاربة والتحجيم. حالنا اليوم كمن لا يقدر على مقاومة الاغتصاب، فيستمتع به.