كَيفَ تَلعبُ اللُّعبةَ؟
إذا كانت “الحرب امتدادا للسياسة بوسائل أخرى”، بتعبير القائد العسكري البروسي كارل فون كلاوسفيتز، فَكُرَةُ القَدَمِ امتداد آخر للفكرة نفسها. فمثل تشكيلات الجيوش، لتشكيلات الكرة دفاع وهجوم وقائد (مدرّب) وطاقم طبي (هل أضيف “وإعلام؟”) وشعب يقف وراء حامل الراية في معركة مفتوحة على الإصابات الخطِرة ومآلات الخسارة والانتصار. وكما في الحرب الانتصار يصنع أبطالا ونجوما وتنهي الخسارة مسارات وأحلام..
لكن كرة القدم ليست حربا فعلية وتوظيفها في السياسة لا يتم وفق قاعدة أحادية تتسلّح بالرداءة والتهويل والاستدعاء السريع للمؤامرة والخصوم مقابل تنزيه الذات عن كل شر. لذا حين تتعادل في مباراة تعادلا بطعم الخسارة يجب أن تمسك أعصابك. وإذا فقدتها، عليك أن تحمد الله أن لك مدربا ذكيا ومتحدثا ألمعيا يدير معركة الملعب والإعلام خارج الطرق المفضوحة لرسم جغرافيا الحروب السياسية على خارطة الملعب.
حين تخسر في الكرة وارد أن تفقد أعصابك، لكن الآلية الأساسية في كرة القدم لإدارة الأعصاب هي “الروح الرياضية”، تلك الروح التي تحلّق فوق الملاعب والمؤامرت وتتجسد أحيانا في السلام والتحايا وتبادل القمصان والأحضان والأماني بالتوفيق للخاسرين في المعارك اللاحقة.
في حدود اطلاعي ودون تعميم، لم يضع الإعلامُ الرياضيُّ المتابعَ المغربيَّ في صورة ما جرى من مشاحنات بين المدرب وليد الركراكي وعميد الكونغو الديمقراطية تشانسيل مبيبا مونغولو في الساعات القليلة التي تلت تلك المشاهد. بل أبرز رد فعل حينها وتركيب للأحداث جاء في مقال لمراسل جريدة “ليكيب” الفرنسية بأبيدجان.
بدا الإعلام الرياضي غائبا لسبب ما عن مواكبة قصة إخبارية طازجة، في الغالب ليس لندرة المعلومة ولكن لاستبطان الصحافة الرياضية بأجمل بلد في العالم لحكمة الصمت أو لدخولها في منطق التصدي لضربات الخصوم وتجنب كتابة ما قد يثير التشفي وغيرها من فلسفات لا ندري من أين نزلت، وهذا غير مطلوب منها ولا من الصحافة عموما، لأنها أفكار تجهز على أدوار الصحافة، التي تراقب السلطات الأخرى، وداخلها الصحافة الرياضية التي تراقب جنرالات “الحرب الناعمة”.
“راس الأفوكا” كان جميلا وهو يغضب بسبب مباراة تجمّعت فيها كل أسباب الغضب: الحرارة وبكائيات عميد الفهود واستفزاز بعض اللاعبين والضغوط وذوبان الأسود في الرطوبة والحر، وسيبقى أجمل ونحن نقول إنه يغضب ويخطئ ويصيب، ونتحرر من عقيدة تريد تحويل الصحافة، رياضية وسياسية وثقافية، إلى روافد للمقاربة الموسيقية في الصحافة..
وفي مباراته مع الكونغو، المنتخب المغربي كان فعلا سيّء الأداء وارتكب عددا أكبر من الأخطاء وتدخل بعض لاعبيه تدخلات خشنة والركراكي هو من توجه نحو العميد وأصرّ على مصافحته والنبش في بعض السلوكيات، وعموما المنتخب فقدَ أعصابه تماما بعد ذلك.
يوما بعدها، أي في 22 يناير، خرج الاتحاد الكونغولي لكرة القدم ببيان يتبنى فيه رواية عميده من تعرضه للعنف وكلام مسيء أو بتعبير أدق “غير لبق”، معلنا رفع شكاية لسلطة التأديب بالكاف بكلمات موجزة ودقيقة.
في اليوم نفسه، أصدرت الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم بيانا فضفاضا تتحدث فيه عن العلاقات بين البلدين وروابط الأخوة بين الشعبين وتتحدث عن الشجار بعمومية غير مفهومة وكأنها تدلي برأي في واقعة منفصلة لمنتخب آخر وتعلن تمسكها بالروح الرياضية، وكأنما هي نفسها تعطي لنفسها صلاحية وصف ما وقع وحدوده. كان الأحرى أن يخرج البيان منذ البدء حاملا لرواية دقيقة لما جرى دون إقحام للعلاقات بين النظامين والشعبين على طريقة البرقيات الرسمية..
ثم صدرت عقوبة لجنة الانضباط التابعة للاتحاد الإفريقي لكرة القدم، في 24 يناير، ولم أفهم لم تقشفت بعض (أقول بعض) وسائل الإعلام في المغرب عن نقل تفاصيل القرار الذي قضى بتغريم الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم والاتحاد الكونغولي لكرة القدم 20 مليون سنتيم لكل واحد منهما على حدة، وإيقاف مدرب المغرب لمدة أربع مباريات، مع تعليق تنفيذ الإيقاف بالنسبة لمباراتين لمدة عام واحد، وتغريمه 5 ملايين سنتيم، زيادة عن تغريم الجامعة الملكية 10 ملايين سنتيم بسبب استخدام مشجعي الأسود لقنابل الدخان خلال المباراة، مع تعليق استيفاء 5 ملايين سنتيم من هذا المبلغ.
وعلى كل حال، قررت الجامعة الملكية استئناف القرار الخاص بالمدرب ومن المرجح أن يسفر الاستئناف عن تقليص مدة الإيقاف (إلى حدود كتابة هذه الأسطر).
لكن السؤال الآخر هنا هو تحويل اللجنة نفسها التي قضت أياما من قبل بتوقيف مدرب تنزانيا الجزائري عادل عمروش 8 مباريات متتالية وتغريم الاتحاد التنزاني لكرة القدم 10 ملايين سنتيم بسبب الإساءة للكاف والجامعة المغربية، إلى أداة للحرب ضد المغرب تقودها جنوب إفريقيا باعتبار أن كلا من رئيس الكاف ورئيس اللجنة التأديبية داخل الاتحاد من هذا البلد.
في لحظة تحوّل المغرب من بلد يدير مصالحه وملفاته داخل الاتحاد الإفريقي لكرة القدم بشكل جيد، خرج الملياردير باتريس موتسيبي رئيسا للكاف من عاصمته الرباط إلى ضحية. من حق الإعلام طبعا انتقاد قرارات الكاف في حق أفضل مدرب في إفريقيا برسم 2023 واعتبارها قاسية، لكن بمقارنة الحالات وفحص الأدلة وعرض لائحة العقوبات وتدرّجها وإثارة مسؤولية المراقبين والبحث عن تصريحات خاصة ومضادة وغيرها من أمور أي أن يلعب اللعبة بقواعدها.
كُرَةُ القدم تمثل خلاصاً للشعوب التي لا تملك مصادر بديلة للدوبامين، ومن الطبيعي أن توظفها النخب والحكومات أفيونا لتخدير الشعوب وأحيانا لاصطناع بطولات وأعداء وهميين ومن ثمّ ادعّاء هزمهم في ملاعب وهمية. على الإعلام أن يبقى على مسافة شك ولا يترك الشعوب فريسة لإدمان الانتصارات الزائفة!