المسرح المغربي.. ماذا بعد الجوائز؟
حضرت قبل سنوات إحدى دورات المهرجان الوطني للمسرح في تطوان، ربما هي دورته الأولى بعد نقله من مكناس إلى الشمال. وكان المخرج الشاب أمين ناسور، الذي توج قبل أيام بالجائزة الكبرى، إلى جانب فرقة فوانيس المسرح (ورزازات)، في المهرجان العربي للمسرح بالعراق، ضمن كوكبة من المخرجين والسينوغرافيين والممثلين ممن شاركوا بعروض في المسابقة الرسمية في تلك الدورة. وتوقعت حينها، في عمود صحافي، أن يكون التتويج من نصيب ناسور وفرقته الحسيمية التي اشتغل برفقته آنذاك. لكن لجنة التحكيم راتأت رأيا مغايرا، وهي تتوج مخرجا آخر وفرقة أخرى وممثلين آخرين.
تعاقبت فعاليات المهرجان، دورة بعد أخرى، ولم تخلُ من ‘مزايدات’، حتى وصلت إلى دورة العام الماضي، حين انفجر لغط كبير حول أحقية التتويج النهائي. (لكن الدورة أفرزت، في المقابل، تداعيات نقدية حادة حتى في حق الجهة المنظمة، وهي وزارة الثقافة.) ومع مرور الوقت، سرعان ما استعاد المسرح المغربي عافيته من هذا اللغط، بمشاركاته العربية (مهرجان المسرح التجريبي في القاهرة، أيام الشارقة المسرحية، المهرجان العربي للمسرح، أيام قرطاج المسرحية، الخ). والسؤال الذي ينبغي أن يطرح هنا هو: لِمَ يرافق الجدلُ مسرحَنا دائما في الداخل، لكنه يحقق نجاحات باهرة في الخارج، علما أن ‘كعكته’ المحلية صغيرة جدا، لا تثير حتى الشهية في النفس؟
الأمر محير فعلا. قد يكمن السبب في اختيارات الهنا والهناك؛ ذلك أن الهنا يتجه منذ سنوات نحو تكريس أنماط معينة في كل شيء: في الفن والأدب والفكر والإعلام، بل في ما ينبغي أن تنشره وسائط التواصل الاجتماعي وتكرسه كتيار سائد. في حين، لا ترتهن اختيارات الهناك لهذه ‘السياسة’ الضمنية، بما أن اللجان التنظيمية والتحكيمية تتألف، في الغالب، من أعضاء عابرين لحدود البلد، ولقيود الانتماءات والمجاملات و’الشلليات’، ولا تنظر، على العموم، إلا إلى جوهر العمل وطبيعة أدائه على الركح. (بالمناسبة، لا يقتصر ‘النجاح’ الخارجي على المسرح، بل يتعداه إلى أنماط تعبيرية أخرى، منها الفكر والنقد والأدب…)
هذا عامل ذاتي؛ أي ما يجعل المسرح المغربي قادرا على التفوق خارجيا. أما من الناحية الموضوعية، فيمكن القول إن الكتابات النقدية والنظرية، المغربية والعربية معا، تكاد تجمع على أن المسرح المغربي استطاع، عبر تاريخه الطويل نسبيا، أن يستوعب القوالب الشكلية والمضمونية، الغربية على الخصوص، في أسئلته وقضاياه وتجربته الجمالية والفنية، وأن يبتعد- قدر الإمكان- عن المعايير الأيديولوجية والأخلاقية التي كانت تتحكم، في وقت ما، في الإبداع والأداء. كما نجح في أن يلائم هذه القوالب مع إملاءات الفرجة المسرحية، التي ينبغي أن تكون الثقافة المغربية غايتها النهائية؛ أي في ما يتصل بلغة هذه الفرجة وأدائها وتواصلها مع الجمهور، الخ.
لا يعني هذا أن المسرح المغربي، أو غيره من التعبيرات الفكرية والأدبية والفنية، أضحى ‘قوة جبارة’ لا يعلى عليها اليوم. لا، هذا غير صحيح. في دردشة مع بعض رواد هذا الفن، الذين خبروا المؤسسات المسرحية والفنية المشرقية من خلال ‘الاستشارات’ التي يقدمونها في الخليج خصوصا، يبدو أن تجارب قوية تلوح في الأفق هناك. ذلك أن المؤسسات الثقافية والمالية تصرف أموالا طائلة على إعداد بنيات الفنون- ومنها المسرح طبعا- من مدارس ومسارح ودور ثقافية وغيرها. كما تراكم خبرات ميدانية مهمة، سواء من خلال الزيارات الأكاديمية المستقدمة من الخارج، أو البعثات العلمية التي توفد إلى الخارج للاطلاع على ما يجري في عالم أبي الفنون، ناهيك عن إنجاز ترجمات مهمة تشمل مختلف القارات المسرحية الغربية والشرقية…
من هنا السؤال الأهم: ماذا بعد هذه النجاحات الخارجية؟ بالنظر إلى ما يجري حولنا من خلخلة في السياقات الثقافية العامة، سواء من حيث مضمون الفرجات، أو من حيث بنياتها ومؤسساتها، أو حتى من حيث الشخصيات الساهرة عليها، لا بد من القول إنه آن الأوان لتجاوز طريقة التفكير الحالية، التي ترتهن في معظمها إلى هذا ‘التفوق’ الخارجي، إلى ضرورة خلخلة التصورات المحلية التي ترى في تجربة المسرح المغربي التاريخي عاملا ضامنا للاستمرارية. صحيح أن الجيل الراهن، ممثلا بأمين ناسور وعبد المجيد الهواس وأسماء هوري وطارق الربح وبوسلهام الضعيف ومحمد الحر وغيرهم،يتملَّك أدوات الإبداع والإنتاج المسرحيين عن جدارة واستحقاق. لكن ما من شيء يضمن مواصلة هذا التملك- ومن ثمة هذا ‘التفوق’- غير تأسيس مشروع ثقافي وطني قائم على رؤية سياسية واضحة ومتكاملة، وقادر على توسيع دائرة هذا الإبداع والإنتاج أكثر مما هو موجود اليوم. هذا الغائب الأكبر هو نقطة ضعف الثقافة المغربية عموما، وليس المسرح وحده.