شكرا موريتانيا
حرصت دائما على عدم الخوض في ما لا أعرف، لكنني اليوم سأتطفل، ليس استسلاما لإغواء اللحظة ولا انسياقا لموجة جارفة، بل لأنني رأيت في مباراة المنتخبين الجزائري والموريتاني أكثر من لعبة وأكبر من فوز وهزيمة.
مع كامل التقدير والأخوة للشعب الجزائري، لكن كان على هذا الفريق الذي يفترض فيه تمثيلكم أن يخرج من المنافسة، ويعود إلى الديار بعدما تحوِل في أيدي حكامكم إلى سلاح.
سلاح فتاك يشحنونه بذخيرة الوقيعة والبغضاء ليقذفوها في وجوهنا جميعا.
كان عليه أن يسقط ويرتطم بأرض الواقع، لأن حكامكم جعلوه أداة ليفسدوا علينا مصدر فرحتنا وفخرنا الوحيدة في هذه السنوات العجاف، منتخب كرتنا الذي لم يعد بإمكاننا الاعتراض على تسخيره منصة للدعاية وسببا لصنع المقدسات والشخصيات السيادية، تماما مثلما تجبروننا كل يوم على ابتلاع مرارة التطبيع المقزز المتواصل فوق جثث إخوتنا الفلسطينيين، بعدما وضعتم في يد صانع قرارنا حجة لا تخذله: هناك تهديد جزائري على الأبواب.
دافعي هنا ليس التشفي بعد إقصاء المنتخب الجزائري من الكأس القارية، ولا تفريغ شحنة غضب قد أكون أكتمها ترفعا وتعففا، بل هو شكر نابع من خالص الامتنان للدرس البليغ الذي أكرمنا به “المرابطون”.
درس في الكرة وفي الرياضة ممتد في الحقول الأخرى التي يصر البعض على جرنا إليها بمناسبة أو بدونها.
شكرا للإخوة في موريتانيا لأنهما أوقفوا الطوفان الذي كان يجتاحنا، وأنقذوا المنطقة من الغرق في وحل التعصب والكراهية.
شكرا لأنهم قدموا درسا وحدهم كانوا أهلا له وأساتذته المبرزين.
شكرا لأنهم أعادونا إلى الواقع وأفرغوا فقاعة الأوهام من هوائها.
شكرا موريتانيا لأنها أعادتنا إلى قيم الرياضة الحقيقية، قيم المنافسة الشريفة والإيمان بالنفس واحترام الآخر باحترام الذات وتقديرها.
شكرا لأنها ذكرت الجميع بأن الانسان لا يتقدم ولا يرتقي لأنه يحوز الغاز ولا الفوسفات، بل لأنه يعمل بجد وإخلاص.
شكرا لأنها أنقذتنا كمغاربة في “الدقيقة 90” من الانخراط مرغمين في حفلة تحويل أجود ما أنتجته جالياتنا وأنديتنا من أبطال ورياضيين إلي حطب في محرقة الجوار والإخاء.
شكرا لفرسان شنقيط الذين أثبتوا مجددا أن حكمة الصحراء ما زالت قادرة على مداواتنا ولو عبر العلاج بالكي والصدمة.
كان على أحد ما أن يتولى المهمة، ويوجه الصفعة، ويوقظ مجانين الجزائر، نعم مجانين، ويحرر منتخب محاربي الصحراء من أحقاد نظام مفلس ويريد جميع من حوله مفلسين.
كان على أستاذ ما أن يتقدم نحو طاولة التلميذ المشاغب ويرجها بقوة تعيده إلى صوابه.
كانت المنطقة في حاجة إلى من يطفئ النار ويخمد الجمرة في مهدها الأول.
كنا في هذه الكأس الإفريقية على شفا حفرة من الانزلاق الجماعي نحو هاوية الجنون. لم يعد صوت العقل قادرا على مقاومة ضوضاء الكراهية.
كدنا ننزلق نحو هاوية اللا عودة والمواجهة الشاملة. وآخر من تبقى من مدافعين عن تجنيب شعوب المنطقة ويلات الحقد الأعمى باتوا في يجدون صعوبة كبيرة في التعبير عن وجودهم.
أكتب الآن هذه الكلمات وأمامي في أحد شوارع الرباط مشاهد متكررة لتبادل التهاني والتبريكات بين مغاربة ابتهجوا بهزيمة الجزائر، وهذا التمكين لمشاعر العداء تجاه منتخب بلد جار يشعرني بالخوف، وينبئني بأن القادم قد يكون حالكا. فشكرا لموريتانيا ليس لأنها كانت الأفضل وفازت باستحقاق، بل لأن الدرس على يدها بليغ للغاية، ومفيد لأعصاب المجانين.
هناك أسطورة كبيرة تحطمت مساء أمس، هناك خريطة إقليمية تململت، هناك زلزال ذهني سيرجّ العقول المتكلسة والمسكونة بعقدة التفوق الإقليمي، ويرهن المنطقة بفكرة الصراع الثنائي بين المغرب والجزائر التي تهمش الأخرين وتفرض على الجميع حفلة الخراب.
شاءت الأقدار أن يصادف هذا الزلزال بوادر تحول جيوسياسي يمكنه أن يفتكّ المنطقة من يد الجمود الذي يرهن حاضرها ومستقبلها، بوادر بناء مجال أطلسي يحرر جزءا من طاقات المنطقة ومقدراتها وأحلامها. فكرة جديدة للالتفاف على الجزيرة الحقيقية في هذه المنطقة، جزيرة بحجم قارة اسمها الجزائر.
نعم، لا يمكن أن نعيب على “المجانين” الماسكين بمقاليد الحكم في الجزائر جر لعبة إلى مستنقع السياسة الوسخ، ثم نسقط في الخطيئة نفسها، لكن أجمل الرسائل والآثار السياسية التي تنتجها لعبة مثل كرة القدم، هي التي تصدر عن ممارستها بشرف وإخلاص للقواعد. مباراة أمس تذكير بألا فضل لأحد علي أحد إلا بالاجتهاد والعمل، وأن الصغير يكبر، والمغرور يسقط في شر أعماله.
لقد كانت المواجهة الشاملة توشك أن تصبح حتمية في المستويات الشعبية، وكانت قدرتنا على الصمود تتضاءل حتى أصبحنا نعجز عن الهمس في آذان بعضنا بعبارة “خاوة خاوة”. المجانين هناك، نعم هناك وأقولها بكامل الاقتناع، نجحوا في الوقيعة، وأفسدوا القلوب، وفرضوا علينا أجواء كراهية لم نعرفها من قبل في مدننا ولا شوارعنا.
على الإخوة والأشقاء في الجزائر، ومن تبقى من عقلاء في قيادتهم أن يتقوا الله في شعوب المنطقة، ويتركوا الصراعات لمساراتها السياسية والدبلوماسية، ويوفروا على الشعوب طاقتها الثمينة لنفكر، على الأقل، في المستقبل الممكن لأبنائنا وبناتنا.
المنتخب الجزائري لم ينهزم بالكرة كما يقول البعض، بل انهزم بالخروج عن سياق الكرة وانغماس القائمين عليه في معارك دونكيشوتية يغلب فيها الهلامي على الواقعي. وانهزم بتحويل واحدة من قنوات التواصل القليلة المتبقية بين الشعوب، إلى منصة للقصف والتحريض والتأليب.