ربط الماء بالمحاسبة
ترأس الملك محمد السادس أمس الثلاثاء جلسة عمل جديدة خصصت لإشكالية الماء، وصدر بلاغ رسمي للديوان الملكي يصف الأمر ب”المسألة الاستراتيجية” ويسجل صعوبة اللحظة من خلال قلة التساقطات المطرية ووجود ضغط قوي على الموارد المائية في مختلف جهات المملكة.
لدي شعور بكون تجربة الانصاف والمصالحة المقبلة التي سيعرفها المغرب، على غرار تجربة قراءة وطي صفحة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان التي جرت في سنوات الرصاص، ستتعلق بالانتهاكات الجسيمة التي تعرض لها المغاربة عبر الماء. فما يترتب عن هذه الانتهاكات أفدح وأخطر مما نتج عن انتهاكات حقوق الانسان، لسبب بسيط هو أن نهب واستنزاف مياه المغاربة ينعكس مباشرة عن حقوق أساسية أولها الحق في الحياة.
وحين نقول نهب المياه، فإن الكلمة تعني السطو على إرث خلفه لنا الأجداد، عبارة عن خزانات مائية جوفية، ومورد حيوي لحياة الأحفاد فوق هذه الأرض المغربية.
يعرف الجميع أن الخطوة الأولى لحل أية مشكلة هي تشخيصها وتحديد أسبابها. فهل نحن كمغاربة نستهلك الماء أكثر مما يجب؟ هل هذا ما أدى بنا إلى الوضع الحالي الذي نكاد نفقد فيه القدرة على مواصلة الحياة الطبيعية بمختلف تجلياتها هو “التبذير” والاستعمال غير العقلاني في حياتنا اليومية، أي في الشرب والتنظيف والسقي والتصنيع؟
كلا. لقد عشنا سنوات الجفاف مرارا في العقود الماضية، وواجهناها بما استطعنا من تدبير وتوفير، لكن التهديد اليوم مختلف، ليس لأن السماء لم تجد بالمطر والسدود شبه فارغة، بل لأننا استهلكنا في الفلاحة ما لا يتناسب مع مواردنا المائية واستنزفنا فيها حتى مياهنا الجوفية التي كانت بمثابة المخزون الاستراتيجي الذي نلجأ عند الحاجة.
دعونا نتحدث أولا عن مياه السدود التي تعد بحق مفخرة وطنية وواحدة من المنجزات القليلة لعهد الملك الحسن الثاني. لقد كانت سياسة السدود فكرة “عبقرية” بحق في عندما كان الجميع يرى مستقبل المناخ يميل إلى الاحترار والجفاف. لكن، ولأننا نفتقد إلى الديمقراطية والشفافية في التدبير، فإن مياه سدودنا لا تصب في محطات المعالجة وإنتاج الماء الشروب الموجه للبيوت والمصانع فقط، بل تستنزف وبشكل غير عقلاني في فلاحات تصديرية لا مبرر طبيعي ولا منطقي لوجودها أو استمرارها في ظل الوضعية المائية الحالية.
ليست في الأمر أية مبالغة ولا تضخيم، والدليل موجود وماثل أمامنا لدول أقل جفافا وأكثر مطرا منا، منعت منذ سنوات الكثير من الزراعات المستهلكة للماء، واستمر بعض بني جلدتنا في ممارستها وتصديرها محملة بمياهنا الثمينة دون حسيب ولا رقيب.
دعوا كل ما أقوله ويقوله آخرون، وهم قلة قليلة ممن تهتم فعلا بهذه المصيبة، وافتحوا الوثائق والتقارير الرسمية، الوطنية والدولية. افتحوا مثلا تقريرا أنجزه المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي سنة 2014 تحت عنوان “الحكامة عن طريق التدبير المندمج للموارد المائية في المغرب: رافعة أساسية للتنمية”
هل تريدون خلاصة لهذا التقرير، إنه وبكل اختصار يصف لنا وضعية “السيبة” التي يعرفها تدبير الثروة المائية للمغرب. الوثيقة تخبرنا بأسلوب رسمي مهذب عن ضعف واختلالات في “الحكامة” وغياب إطار مهيكل لتدبير الماء ويشير إلى مؤسسة شبح اسمها “المجلس الأعلى للماء والمناخ” ولجنة بين وزارية مشلولة اسمها “اللجنة الوزارية المشتركة للماء” سجل التقرير الصادر منذ عشر سنوات أنها “توقفت عن العمل منذ سنوات” كما سجل غياب الشفافية والتشاركية مع الساكنة المحلية…
ويقدم التقرير الصادر عن مؤسسة دستورية مجموعة من التوصيات تدور أساسا حول ضرورة التنسيق بين المتدخلين. وحتى أكون أمينا في النقل، فالتقرير يعنون إحدى فقراته حرفيا كالتالي: “الوضعية الحالية للموارد المائية غير قابلة للاستمرار، بسبب الضغط البشري والعوامل الطبيعية المختلفة، وتفاقم من حدتها حكامة غير فعالة”. وقد عاد المجلس قبل سنتين ليدق ناقوس الخطر عبر وثيقة مختصرة اسمها “نقطة يقظة”، لكن لا حياة لمن تنادي.
ورقة علمية أخرى صادرة عن مركز علمي متخصص (أجنبي) في رصد انعكاسات الإنتاج الفلاحي على البيئة والمناخ، تحمل توقيع أحد كبار المتخصصين الذين درسوا موضوع المياه الجوفية بأدوات علم السياسة، يدعى كيفان ديل فيشيو، تشخص وضعية الفرش المائية للمغرب، لتخلص إلى أنها ضحية لتضارب كبير في الأهداف بين قطاعي الفلاحة والماء، حيث يسعى الأول باستمرار إلى توسيع المساحات المسقية بينما يحاول الثاني حماية المخزون المائي الجوفي، والنتيجة فشل في توقيع اتفاقيات الفرشة المائية التي كان يفترض أن تغطي جميع الأحواض المائية للمغرب.
الوثيقة تقول إن بعض التقنيات مثل السقي بالتنقيط جاءت لتحاول القيام بنوع من “التحكيم” بين الطرفين، الفلاحي والمائي، لكن دون فعالية، بحكم الكميات الكبيرة من المياه التي تتعرض للهدر فلا هي تستعمل فعلا للسقي ولا هي تبقى في حقينة السدود وباطن الأرض.
انتصار الجانب الفلاحي في هذا التناقض المعيب داخل سياسات تدبير المياه في المغرب، لا يعود بالضرورة إلى وجود وزراء وسياسيين وبيروقراطيين أقوياء في هذا القطاع يدافعون عنه في مواجهة القطاعات الأخرى، بل لأن هناك مصالح تجنيها فئة نافذة وقوية لا تتورع في امتصاص الماء من عروق الأرض لتضخ العملة الصعبة في حساباتها. وهنا بداية التشخيص وبداية الحل.
لابد من المكاشفة أولا، وترتيب الحقائق ثانيا، وقراءة المشهد كما هو لا كما نريده أن يبدو. لا يعقل أن نكون في بلد واحد، دولة واحد، وطن واحد، أي في سفينة واحدة، ويكون هناك من جهة من يعمل وينفق لتوفير الماء والرفع من العرض، وفي المقابل طرف يغرف من الحوض دون رقابة ولا تقدير للوضع ولا حساب للصالح العام.
التدبير العقلاني للثروة المائية يعني بالضرورة كلا من العرض والطلب. وإذا كان الرفع من العرض المتوفر من المياه ضروريا، بل حتمي، من خلال تحلية مياه البحر وتعبئة مياه الأمطار ومنع التبذير… فإن الطلب أيضا يجب أن يوضع فوق الطاولة ليناقش ويخضع للمصلحة الوطنية.
هل نحتاج فعلا لكل هذا الجهد الوطني في بناء وصيانة السدود والقنوات ومحطات تحلية المياه من أجل فلاحة تصديرية لا نعرف هل تنتج القيمة المضافة فعلا أم لا تنتج سوى بنيات اجتماعية هشة وقابلة للاستغلال بكل أنواعه.
لا يمكن لأصحاب أكبر طلب على الماء، أي القلة المالكة للفلاحة التصديرية، أن تحاسب الدولة والمجتمع لأنهما لم يوفرا لها الكميات اللازمة لاستمرار نشاطها المربح، ولا تقبل هي الخضوع لقانون البشر والطبيعة، والإنتاج في حدود ما تسمح به الموارد المتوفرة ويضمن استدامتها.
هذه السفينة تحمل المغاربة جميعا ولا حق لأحد في خرقها أو تعريضها لخطر الإغراق.
قليلا من القناعة لا يضر!