دفاعا عن مصر
آلمتني الأبعاد الإعلامية التي أخذتها تصريحات المحامي كريستوفر ستاكر، عضو فريق الدفاع عن إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي يوم الخميس الماضي، حين تحوّل فجأة كل ذلك الزخم الذي عرفه اليوم الأول من المحاكمة التاريخية (يوم الأربعاء 10 يناير) وشبه الإجماع الذي عاشه العالم لإدانة إسرائيل، في لحظة غير مسبوقة، لتصبح جل الأصابع، بفعل تلك التصريحات، موجهة نحو مصر.
صحيح أن الخذلان والتقاعس العربيين كبيرين، وطعنة الأخ، ولو كانت مجرد طعنة جبن وتواطؤ، أشد مضاضة من وقع قنابل العدو. وصحيح أيضا أن للنظام المصري حساب ثقيل أمام الإنسانية وأمام التاريخ بعد كل تلك الدماء التي سالت أمام أعيننا وتلك المحاكمات الظالمة والقتل البطيء الذي تعرض له الكثير من الأبرياء… لكن هذا كله لا يخلصنا من عبء الموضوعية والتحقق والتركيز على جوهر الأشياء.
فهل حقا مصر هي التي تجوّع الفلسطينيين في غزة وتسعى إلى إبادتهم؟
لنترك جانبا ما نعرفه جميعا عن العقل الباطن للنظام المصري، خاصة في السنوات العشر الماضية، من عداء أعمى تجاه كل ما يمت بصلة إلى الإخوان المسلمين، ولا داعي لاعتبار حساسيته تجاه منظمة حماس الإسلامية “الإخوانية” كما لو أنها فتح مبين. لكن علينا أن نضع جانبا أيضا ما تراكم عند بعضنا من حساسية عمياء تجاه الدولة والنظام المصريين جراء ما حصل بعد ثورات “الربيع العربي”، لأن مصر أكبر من نظام السيسي تماما مثلما كانت أكبر من الملك فاروق والزعيم عبد الناصر والرئيسان السادات ومبارك (المعذرة من محمد نجيب)…
لكن هل وقع ما يستوجب تغيير معطيات القراءة والتحليل؟ ألم تعد إسرائيل قوة احتلال في القطاع كما في الضفة؟ هل في الاتفاقيات والمعاهدات القائمة حتى الآن ما يجعل مصر المسؤولة الأولى عن إدارة قطاع غزة؟ هل نسينا بهذه السرعة أن عدوان ما بعد طوفان الأقصى انطلق باستهداف مباشر وسافر لمصر عبر مشروع تهجير فلسطينيي غزة وتوطينهم في صحراء سيناء؟ هل علينا أن ننسى كل المشاريع والطموحات الشريرة لإسرائيل في المنطقة فقط لأن تصريحا وافق هوى في نفوس بعضنا؟
كلا، إسرائيل هي قوة الاحتلال القائمة في جميع الأراضي الفلسطينية، وهي المسؤولة بقوة القانون الدولي عن كل ما يحصل للمدنيين الفلسطينيين فوق تلك الأراضي. وإذا كانت مصر تتوفر على معبر واحد مع القطاع، فإن إسرائيل المسيطرة بقوة الأمر الواقع على غزة تتوفر على ستة معابر. وإذا كان من غير السليم عقلا ومنطقا أن نساوي بين إسرائيل ومصر في هذه النقطة بحكم رابط الدم والدين والعرق، فإن الحمق وحده يمكن أن يبرر الانسياق لمكر فريق الدفاع الإسرائيلي وهو يحاول تخفيف الضغط وتوجيه الأنظار إلى غير وجهتها.
للفلسطينيين الكثير مما يمكنهم أن يحاسبونا، جميعنا، عليه من تقصير وتفريط، بل وربما تآمر وتواطؤ، لكن المعركة الأصلية هي مع قوة الاحتلال الغاصب الحامل لأجندة التهجير والتقتيل والإبادة. فقواعد المحكمة الدولية في لاهاي تلزم القوة المحتلة بالحفاظ على النظام العام وضمان العيش المنتظم للسكان المدنيين… وتشمل هذه المسؤولية ضمان تطور اقتصاد سوي وجهاز تعليمي ونظام صحي وحماية حرية التنقل أساسية لضمان هذه الحقوق…
وﻣﻌﺎﻫﺪة ﺟﻨﻴﻒ اﻟﺮاﺑﻌﺔ المتعلقة بحماية اﻟﻤﺪﻧﻴﻴﻦ ﺧﻼل اﻟﺤﺮب، واﻟﺘﻲ تعتبر إسرائيل من بين الموقعين عليها، تنص على حماية حقوق المدنيين وتمنع إنزال أي عقاب جماعي بهم، وتفرض ﻋﻠﻰ اﻟﺪوﻟﺔ اﻟﻤﺴﻴﻄﺮة ﻋﻠﻰ اﻷرض اﻟﻤﺤﺘﻠﺔ أن ﺗﻀﻤﻦ ﺘﺰوﻳﺪ السكان ﺑﺎﻷﻏﺬﻳﺔ واﻷدوﻳﺔ وبالحرص على اﻟﺘﺸﻐﻴﻞ اﻟﺴﻮي ﻟﻠﻤﺆﺳﺴﺎت اﻟﻄﺒﻴﺔ ﻓﻲ اﻟﻤﻨﻄﻘﺔ اﻟﻤﺤﺘﻠﺔ، وﺗﺴﻬﻴﻞ اﻟﺘﻮزﻳﻊ اﻟﺴﺮﻳﻊ لشحنات اﻟﻤﺴﺎﻋﺪات…
وﻗﺮارات ﻟﺠﻨﺔ ﺣﻘﻮق اﻹﻧﺴﺎن اﻟﺘﺎﺑﻌﺔ ﻟﻸﻣﻢ اﻟﻤﺘﺤﺪة، وﻫﻲ اﻟﻠﺠﻨﺔ التي كانت ﻤﺴﺌﻮﻟﺔ ﻋﻦ ﺗﻄﺒﻴﻖ ﻣﻌﺎﻫﺪة اﻟﺤﻘﻮق اﻟﻤﺪﻧﻴﺔ واﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ قبل إحداث مجلس حقوق الانسان، تنص على أن اﻟﻤﻌﺎﻫﺪة ﺗﺴﺮي ﻋﻠﻰ ﻛﻞ ﻣﻦ ﻳﺨﻀﻊ “ﻟﻘﻮة أو ﺳﻴﻄﺮة ﻓﻌﻠﻴﺔ ﻣﻦ إﺣﺪى اﻟﺪول اﻷﻋﻀﺎء، ﺣﺘﻰ وإن ﻟﻢ ﻳﻜﻮﻧﻮا ﻓﻲ أراﺿﻲ ﺗﻠﻚ اﻟﺪوﻟﺔ”.
قد يقول قائل كل هذا صحيح لكن إسرائيل غير موجودة في الحدود بين مصر وقطاع غزة، وهذا في تقديري لن يعبر سوى عن جهل أو عمى إيديولوجي، فوحدهما يسمحان للمرء بالاعتقاد أن مصر تستطيع أن تفعل ما تشاء في تلك الحدود أو تدخل ما تريد إلى القطاع. وفي جميع الأحوال فإن دولة الاحتلال لم تتأخر في إثبات ذلك حين خرجت مباشرة بعد انتهاء جلسة محاكمتها في لاهاي لتطالب على لسان رئيس وزرائها، بنيامين نتانياهو، بتمكينها من السيطرة على “محور فيلادلفيا”.
هذا الأخير ليس سوى الشريط الممتد على طول الحدود المصرية مع قطاع غزة، أي حوالي 14 كيلومترا، عرضه بضع مئات من الأمتار، والذي كانت مصر قد حصلت على حق الوجود الأمني فيه بعد الانسحاب الإسرائيلي من القطاع قبل قرابة عشرين عاما، وبصرف النظر عن الخلاف القائم بين القانونيين حول سريان مفعول اتفاقية المعابر التي وقعت بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، فإن كل الوثائق والمصادر تقول إن تدبير معبر رفح لم يكن ليتم يوما، حتى في المرحلة التي كان فيها مراقبون أوربيون يحضرون فيه، إلا لخدمة أمن إسرائيل وتحت مراقبتها المباشرة عبر الكاميرات التي لا تنام.
هناك الكثير الكثير مما يمكن مؤاخذته علي مصر، إن كان التذكير بذلك ضروريا، لكن المعركة اليوم ليست بين مصر وحماس كما يسعى البعض لإقناعنا، بل هي بين كيان استعماري – استيطاني، وأصحاب الأرض. ومن بين أخطر ما يستعمله هذا الكيان من أسلحة، هو محاولة عزل أصحاب الأرض عن محيطهم وخلق النزاع بينهم وبين من هم في عداد العمق الاستراتيجي بالنسبة إليهم.
إن مصر وبصرف النظر عمن يحكمها وكيف يحكمها، تظل من بين الأهداف الحيوية للكيان الصهيوني، ولا يمكن أن يكون بيننا من ينخرط بسهولة في مناورة خبيثة رمت باللغم نحو مصر لتفجرها من الداخل.
وأنا أحاول فهم الموضوع والإحاطة ببعض تفاصيله، لم أجد أفضل من وثيقة أعدها مركز للدفاع عن حريّة التنقل، وهو مؤسسة حقوقية إسرائيلية تأسست عام 2005 للدفاع عن حرية الفلسطينيين في التنقل، خاصة منهم سكان قطاع غزّة، في إطار القانون الدولي والقانون الإسرائيلي.
هذه الوثيقة المفصلة التي صدرت قبل أكثر من 15 عاما، تتضمن كل ما يمكن أن يبحث عنه المرء من معطيات قانونية، دولية وإسرائيلية، لفهم وضعية معبر رفع أكثر. وأقوى ما وجدته في هذا التقرير المكون من 150 صفحة، هو وثيقة تضمنها الملحق، عبارة عن رسالة توصلت بها المنظمة الحقوقية من ديوان الرئاسة في السلطة الوطنية الفلسطينية، تعقب على تقرير الجمعية الذي حمل عنوان “من يحمل مفاتيح معبر رفح”.
مقطع معبر من هذه الوثيقة يقول: “…حقيقة الأمر أن إسرائيل ومن جانب واحد، هي التي تفرض وتحافظ على إغلاق معبر رفح من خلال التهديد باستعمال القوة. إن التجارب السابقة والتي تأكدت مجددا من خلال العدوان الإسرائيلي على غزة، تؤكد مصداقية التهديدات الإسرائيلية بقصف معبر رفح، فإن مسؤولية إغلاق المعبر تقع حقا على الحكومة الإسرائيلية”.