استرجاع جنوب أفريقيا
لا يمكننا كمغاربة أن ننكر أننا عشنا ليلة 10 إلى 11 يناير 2024، تناقضا قويا في المشاعر تجاه دولة أجنبية، هي جنوب أفريقيا.
خلدنا إلى النوم ليلة الأربعاء منتشين بنصر دبلوماسي ماحق ومستحق على هذا البلد الأفريقي، بعدما حاول قطع الطريق على ممثلنا الدائم لدى منظمة الأمم المتحدة في جنيف، عمر زنيبر، في ترشحه لرئاسة مجلس حقوق الإنسان؛ وفي صبيحة يوم الخميس، كنا كباقي أسوياء العالم نجلس أمام الشاشات وقد اقشعرت أبداننا أمام المشهد الملحمي لهذا البلد الافريقي وهو يجر دولة الاحتلال والقتل والطغيان، اسرائيل، إلى قفص الاتهام أمام محكمة العدل الدولية. فهل جنوب أفريقيا عدو حتمي لنا؟
كلا. لا يوجد أي سبب يجعلنا خصوما “طبيعيين” لهذا البلد. لا موقعنا الجغرافي يجعل بيننا حدودا أو أنهار أو مجالات حيوية مشتركة، ولا هو التموقع السياسي والأيديولوجي لكل منا، ولا نوع الاقتصاد وطبيعة الأسواق التي يستهدفها كل منا تجعلنا في وضعية صراع وتناقض.
شيء ما غير طبيعي في هذا الصراع الذي نخوضه ضد جنوب أفريقيا، أو تخوضه هي ضدنا في الحقيقة. هو صراع غير مبرر ولا طبيعي بالتالي قابل للتجاوز ويجب أن نحاول ذلك.
هل من الضروري التذكير بكون المغرب كان من الدول التي دعمت نضال نيلسون مانديلا، الزعيم الوطني والأيقونة العالمية، في وقت مبكر بعد استقلال، ومكنه من المال والسلاح ومراكز التدريب العسكري فوق التراب المغربي؟ غريبة هذه الحكاية التي تجعلنا ندعم كلا من الجزائر وجنوب أفريقيا في نضالهما من أجل الحرية، وبعد حصولهما عليها يتحولان إلى محور يناصبنا العداء.
وإذا كانت عناصر من التاريخ والجغرافيا وعلم النفس تسعف في تفسير الحالة الجزائرية، فإن وضع علاقاتنا مع جنوب أفريقيا يظل عصيا على الفهم، خاصة أن الزعيم مانديلا حرص على زيارة المغرب بعد خروجه من السجن بداية التسعينيات، وكانت كل المؤشرات تدل على تأسيس علاقات إيجابية بين المغرب وجنوب افريقيا ما بعد نظام الفصل العنصري. فكيف نجح خصومنا في تغيير وجهة هذه العلاقات؟
لنسلّم بكون الأمر جاء نتيجة للمال الجزائري وبعض التقصير من جانب الدبلوماسية المغربية، لكن المحيّر في الأمر هو التوقف المفاجئ لمسار كامل كان المغرب قد دشّنه في العشرية الماضية، وكانت وجهته واضحة نحو جنوب إفريقيا بعد استعادة المقعد الافريقي في إثيوبيا وتحقيق اختراق نوعي في نيجيريا.
لنتذكر كيف أنه ومباشرة بعد الحصول على عضوية الاتحاد الافريقي في بداية 2016 تم الكشف عن مشروع أنبوب الغاز مع نيجيريا. وكيف حل الملك في جزيرة مدغشقر قبالة ساحل جنوب افريقيا أياما بعد جولة قادته إلى دول شرق القارة، وكنا نطرق باب الركن الجنوبي من القارة بقوة لدرجة التقى معها الملك بالرئيس الجنوب افريقي الذي استقتل في محاربتنا خلال معركة استرجاع عضوية الاتحاد الافريقي، وكان اللقاء في أبيدجان الإيفوارية، ثم توالت إشارات الانفتاح وسمحنا بصفقة حصلت بموجبها شركة جنوب افريقية على فرع كبير في مجال التأمينات في السوق المغربية…
أين تبخر كل هذا وكيف انتهت مهام سفير كبير، هو الوزير السابق يوسف العمراني الذي انتقل مؤخرا إلى واشنطن، دون تحقيق أي تقدم، بل تبدو العلاقات وقد تدهورت وعادت إلى الجمود؟
أذكر أنني خلال استعدادي لحضور قمة الاتحاد الافريقي التي استعاد فيها المغرب مقعده، في يناير 2016، حصلت على تقرير للمعهد الملكي للدراسات الإستراتيجية، حول وضعية وفرص علاقاتنا مع منطقتي إفريقيا الشرقية والجنوبية. خلص هذا التقرير إلى رصد حواجز لغوية ودبلوماسية تحول دون تطوّر العلاقات المغربية مع هذه الدول، في مقابل رأي عام سياسي وإعلامي غير معادي للمغرب كما يسود الاعتقاد.
ومن بين التوصيات التي ركّز عليها المعهد وقتها، واحدة تحث على تقوية الحضور الدبلوماسي للمغرب وإحداث صحافة إلكترونية مغربية ناطقة باللغة الانجليزية، ووضع ميزانية خاصة بدعم تحركات الأحزاب والجمعيات المغربية لربط علاقات داخل هذه الدول، والتعريف أكثر بالمغرب داخل هذه الدول الإفريقية من خلال الحضور المكثفة والمشاركة في أنشطة ثقافية وفنية وملتقيات… وهو ما بدأ تنفيذه بالفعل، قبل أن يتوقف كل شيء لأسباب غامضة.