عودٌ على بدءٍ..
في الشأن الفلسطيني وابنتي
بقي شيء عالق، يا ابنتي، فيما راسلتك في شأنه في اليوم الثالث من حملة الإبادة التي يشنُّها النازيون الجدد، صهيونيو اسرائيل والاخطبوط الغربي المتماهي معهم، على غزة فلسطين.
لم يكن يدور بخَلد أحد، يومها، ان الحرب ستطول لأكثر من سبعة أسابيع. لا أحد خطر بباله، لا فقط صمود حماس/الحربة في وجه التحالف الذي تمثله إسرائيل، في وجه الحَمِية التي وسّعت لإسرائيل وأعطتها الوقت الكافي للاستفراد بحماس ودكّها دكا؛ لا، لا فقط لم يخطر هذا ببال أحد، بل ولم يخطر ببال حتى أكثر السوداويين من المحللين والمتتبعين، أن إسرائيل ستظهر ما استبطنته من نازيتها، من ساديتها، فألقت بأكثر مما ألقى به حليفها، “الشيطان الاكبر” ، في حربه على أفغانستان/بن لادن في اكثر من سنة !
ستبدي لنا الايام، التي فصلتنا عن بداية الحرب، يا ابنتي، على الاقل شيئين اثنين:
ستبدي لنا هشاشة المنظومة القيمية التي عاش عليها العالم، تطلّع إليها العالمُ واحتكم اليها كأفق، في الثلاثة قرون الأخيرة من زمن الحداثة (والمواقف الذي يلزمنا أن نتخذه منها)؛
كما ستُبدي لنا هذه الأيام تحوّلا طال علاقة الحياة والموت، تحوّل طال العلاقة بالحياة، العلاقة بالموت، كأهَمّ تجلّ من تجلّيات منظومة القيم هذه.
أبدأ بشرح العنصر الأخير يا ابنتي.
كل الوجه الحسابي من المعركة، والامكانات التي عبأها لها الحَليفُ والحِلف الأكبر؛ كل أنواع الحصار في المنظمات الدولية/الفيتوات الأمريكية التي كبّلت يد العالم وأبانت عن العجز المطلق لهذا العالم أمام منظومة محكمة الإغلاق، منظومة تتخذ العالم، كل العالم، كل العالم غير الغربي خصوصا، تتخذه رهينة؛ كل أنواع التضييق والعقوبات التي مارستها أعتى الديمقراطيات، الفرنسية والألمانية، على سبيل المثال لا الحصر، على شعوبها وعلى تاريخها، قيمِها ومُثلها (ما اتضح أنه أوهامها، أكاذيبُها، شرَكُها للإيقاع ببقية العالم) — باختصار، كل هذا الوجه المعتمِد للعقلانية الحسابية كان يتنبأ بالنتيجة المحسومة: هزيمة المقاومة، هزيمة حماس الممانعة، صوت الشعوب الحرة، التي، على الرغم من كل العراقيل، جلجلت في كل العالم وأوقفت على الخدعة الكبيرة التي تساق إليها الشعوب: وهْمُ الحرية، وهْمُ الديموقراطية، وهْمُ الدفاع عن القيم والمبادئ، مبادئ العالم الحر! خلافا لكل توقعات الخوارزميات المهيمنة هذه، انتصر المستضعَفون وهُزم جبروت القوة !
كيف ذلك يا أبي؟
تلك حكاية أخرى يا ابنتي، تدبير آخر لعلاقة الحياة بالموت، تدبير آخر للعلاقة بالحياة، العلاقة بالموت! لم أفهم بعد يا أبي ! تذكري، يا ابنتي، أنه ولا لحظة أوهَمت حماس، أوهَمَ مجاهدو حماس، بأنهم سيقتلعون جذور إسرائيل، سيمحونها من الأرض والتاريخ!
من البداية وحتى النهاية، كان المبدأ والمنتهى، سنموت كلنا وتحيى القضية، قضية فلسطين، فلسطين الكرامة! لن نرض بحياة تُغتال فيها فلسطين، عدالة قضية فلسطين. سنروي الأرض، كل الأرض بدمنا، دمائنا، دماء الشهيد (وقد سألتني يوما، من منفاك حيث أنت، عن معنى الشهادة، فأجبتُك، انها اسم للجلالة، جلالة الحضور الآتي من عمق الغياب، من قعر الموت) لهذا ستَتعدّد أشكالُ موتنا لتحيى القضية، القضية العادلة، قضية العدالة.
للناس، يا ابنتي، الحق في أن تختلط عليهم الأمور، لهم الحق، في افتقاد البوصلة! أما أنا المقاومة، أنا الذي بإمكاناتي المحدودة، أذهبُ إلى الموت، اقتحمُ على الدبابة وعلى المدرعة حرمَها، فلا حقّ لي في ذلك! هو نصرٌ أو شهادة! هو نصرٌ ونصرٌ! نصرٌ مستحَقٌّ لطالب الشهادة، للسّعي الحريص على الحضور، لا الحضور الشبحي المهين، بل الحضور الواجب للإنسان، لإنسانية الإنسان المستعصية على الذوبان !
نعم، هو نصرٌ وانتصار للحياة في، للحي في، لغير الأناني في أنا المقاومة! للآخر الحق، يا ابنتي، في أن يكون دون المُثل، مُثل الحياة التي تقاسمتُها معه لبرهة من الزمان، في فترة ما بين الرسل! إلا أنه واجب علي أنا المقاوم، أن أكون لا فقط الحامل للمعنى، بل الشهيد الذي يقدم حياته مجلى وبسطا للمعنى، لمعنى المعنى، لأوجه المعنى القادمة لمعنى الحياة: أن تنتصر للحياة، أن تنتصر بالحياة، أن لا ينتصر الموت، أن لا ينتصر حملةُ الموت، أن لا ينتصر غربُ الرُّعب، الفاقد والمفتقد للمعنى.
إنها، يا ابنتي، حصيلةُ تاريخ، انعطافةُ تاريخ، نستعيدُ خلالها صيحة نتشه، ابن الغرب العاقّ، صيحتَهُ مستنكِرا على هذا التاريخ: “متى تصيرُ الكلماتُ كلماتٍ من جديد، متى تهبُّ الريحُ بانعطافة في الرمز” !
بالتأكيد، يا ابنتي، أنني معنيٌ، بالطبع، انا بعمىَ الغرب هذا. معنيٌ بالظروف والسياقات التي أفرزت هذا العمى. إلا أني أساسا مهموم بتجاوز هذا العمى، تجاوزه عمليا والإيقاف عليه، الإيقاف على معنى يستوجب بمقتضاه فقْأ عيني صاحب دعوى النظر (ليكن هابرماس ، جيجيك….). في هذا المستوى من المعركة، يا ابنتي، انا مطالَب بالإيقاف على الجديد الذي يتشكل، الذي يُشكله عزمي وبصيرتي، يَتشكل من دمي، يُعجن بدمي (دماء الخُدّج/ الرّضع /الاطفال، الرجال والنساء المهرقة تحت الأبنية وفوق الشوارع). يُعجن بقرابين المقاومة/الحركة والفعل، خبزُ العيش الآتي. الآتي على كف جسم الشهيد والشاهد على أنني قِوام الحياة والدليل عليها.
لا وقت لي للإيقاف على ما بقي فاضيا في كأس هابرماس. الباقي من عُمر المقاومة تطلبُه الحياة الخارجة من أوضاع وأُتون التقليد البليد الذي تأجّج بالتاريخ والتكنولوجيا وداسَ رقبةَ الحياة. لا وقت لي/لا حق لي في نقاش من يَلبسُهم البالي المعتمَد أمام جلجلة الحق الآتي على رمح المقاومين الزكية، والتي تصدع به حناجر جماهير العالم المتطلع للتغيير.
ها أنا، يا ابنتي، أخرج من إطار الرسالة وأطيل عليك فيما لا تلزم الإطالة فيه. فلا وقت لنا للكلام. على الأقل لنوع من الكلام. لهذا أوجز فأقول: في اليوم التالي على المعركة، “الذي يرونه بعيدا، ونراه قريبا”، نعلن أننا نؤسس لحق يسَعُ الجميع. فهذه القضية، التي استنفرت العالم، انتصر لها أحرارُ العالم على اختلاف مشاربهم ومآتيهم، وأسست بذلك لتقاطُب جديد.
انتصروا لها فتحقّق ما عُرف يوما من أن الرجال تُعرف بالحق، وليس العكس. حقٌّ لم تُكبّله تراجيديا بداياته، يهودية، مسيحية أو يهودية-مسيحية، كانت. حقٌّ يعيد الاعتبار للبدايات الواعدة، بدايات “صحيفة المدينة” وقد أسست لتعدّد شمل اليهودي، المسيحي، المجوسي والمسلم. حقٌّ يعطي معنى للمساواة في الانسانية، فوق هذه الأرض وتحت قبة السماء. نعم نعيد التأسيس، كجزء من أحرار العالم، المنتصرين لعدالة قضية فلسطين، لحق يسعُ الانسان، حُلم الانسان في غد يحتفي بالحياة.