لقجع والنقابات والتنسيقيات
تكاد الأزمة بين الحكومة والشغيلة التعليمية تصل لنهايتها، بعد توقيع الاتفاق بين اللجنة الوزارية والنقابات الخمس الأكثر تمثيلية، بحسب نتائج انتخابات المأجورين، التي لا تعكس بالضرورة ترجمة للتمثيلية الميدانية الفعلية.
ورغم استمرار التنسيقيات في التعبير عن عزمها مواصلة “الحراك التعليمي”، الذي تعبر من خلاله عن رفضها لمخرجات هذا الاتفاق، فإن مؤشرات كثيرة تفيد أن منحنى الرجوع للأقسام سيرتفع، نتيجة لعوامل متداخلة: الإنهاك، تراجع نسبي في دعم الأسر بعد توقيع الاتفاق، تراجع الغطاء السياسي الذي كانت توفره بعض التنظيمات الراديكالية، ظهور أصوات ولو خافتة من داخل التنسيقيات نفسها تدعو لوقف مرحلي للإضرابات، استنفاذ الجهد بعد الاتفاق في توجيه الطاقة الاحتجاجية نحو النقابات الموقعة/التناقض الثانوي (خصوصا الحليف الميداني السابق: الجامعة الوطنية للتعليم/ التوجه الديموقراطي) عوض التركيز على التناقض الرئيس (الحكومة).
في معركة كسر العظام هذه، يمكن لأي طرف ادعاء أنه خرج منتصرا، فالحكومة قد تحول سلة “التنازلات” التي أجبرت عليها، إلى ورقة انتخابية تغطي بها على ورطة وعد 2500 درهم زيادة في الرواتب، ولو أن بعض عناصرها خرجت بأضرار جانبية رمزية.
مشهد سليل العائلات المخزنية التاريخية، الوزير بنموسى، الذي ظهر تابعا للوزير المنتدب في الميزانية لقجع القادم من الهامش المجالي، يحمل دلالات متعلقة بتحولات في سوسيولوجيا النفوذ داخل مربع الحكم.
يراكم لقجع نجاحات في سلم صعوده السريع (لا أحد يمكنه التنبؤ بكيفيات النزول)، فقد انتظره الجميع كما غودو، لحل المأزق (الحكومة، النقابات، التنسيقيات…)، لكنه من علامات موت السياسة: شخصية تقنوقراطية بدون حزب، وبحقيبة وزارية من الناحية الشكلية تشي بتبعيته لوزيرة المالية المحسوبة على حزب رئيس الحكومة، لكن الجميع يتنظر كلمته الفصل في قضايا عديدة مرتبطة بالتشغيل والضرائب والتقاعد والحوارات المركزية والقطاعية مع النقابات، والحماية الاجتماعية، والمقاصة، وغيرها، كما ينتظرون تدخلات وزير الداخلية لضبط انفلاتات المؤسسات الترابية التمثيلية، وتدبير الندرة المائية، وإصلاح ما أفسده المنتخبون في مجالات التدبير المفوض، والنفايات، والسكن غير اللائق وغيرها من قضايا القرب المرتبطة بالمعيش اليومي. وكما تحولت المديرية العامة للأمن الوطني إلى ديوان شعبي للمظالم على صفحات وسائط التواصل الاجتماعي.
لقد تم عمليا تجميد كل ما يمكن أن نعده مكتسبات في دستور 2011، ليعود النسق التقليدي لممارسة السلطة عبر جناحي: المال والأمن، اللذين تعود لهما الكلمة الفصل، في ظل عقم المؤسسات المنتخبة، وتبعية الأحزاب السياسية، وريعية الفاعل النقابي.
النقابات بدورها يمكن أن تستثمر الاتفاق الأخير، ولواحقه القادمة، في إحياء بعض من عظامها الرميمة، فلم تحقق اتفاقات بمثل هذه المكتسبات عبر الحوار القطاعي من قبل، ولو أن جسما عريضا من الشغيلة التعليمية يعتقد أنه كان بالإمكان عبر مواصلة الاحتجاجات إجبار الحكومة على تقديم عرض أفضل، غير أن قبلة الحياة هذه، يمكن أن تتحول إلى رصاصة رحمة، ستؤبد نهائيا فك ارتباطها المهزوز بالقواعد التي تدعي تمثيلها.
وتظل نقابة “التوجه الديموقراطي”، التي كانت المرشحة الأكبر للتحول إلى النقابة التعليمية الأكثر تمثيلية بما يعيد تجربة النقابة الوطنية للتعليم التابعة لـ”ك.د.ش” سنوات الثمانينيات والتسعينيات، الأكثر عرضة للخسارات الرمزية، بعد فض شراكتها الميدانية مع التنسيقيات؛ لكنها قد تحوّل سوء الفهم المرحلي إلى ورقة قوة، إذا نجحت في تسويق خطاب حجاجي هادئ ومقنع.
ورغم أن خمس نقابات قد وقعت على الاتفاق الأخير، فإنها لا تنظر للحدث بنفس المنظار، فثلاث منها تعتبره حدثا غير مسبوق يستحق الاحتفاء، وتكاد تتماهى مع خطاب الحكومة (نقابتي حزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي، والاتحاد المغربي للشغل)، ونقابة تعتبره غير كاف، ولكن ليس بالإمكان أفضل مما كان في ظل السياق الحالي (التوجه الديموقراطي)، وثالثة في المنزلة بين المنزلتين (الك.د.ش).
غير أن الملاسنات بين المدافعين عن النقابات، وبين المتشبتين باختيار التنسيقيات الاستمرار في الاحتجاج، مرده إلى سوء فهم الطرفين لماهية آلية الطرف الآخر. فلقد سبق للسيميائي سعيد بنكراد أن نبه منذ ظهور موجة التنسيقيات إلى ضرورة التفريق بين المناضل والمحتج، دون تحميل أي من اللفظين حمولة قدحية.
إن المناضل النقابي يفترض أن يكون حاملا لرؤية اجتماعية سياسية أوسع من مجال انتمائه الوظيفي الضيق، وبالضرورة فهو نظريا منتم لآلية تنظيمية تندرج ضمن الأشكال الكلاسيكية للحركات الاجتماعية (لا يعني أنها متجاوزة)، تجمع بين الاحتجاج والتفاوض، وفق رؤية تؤمن بالتراكم؛ بينما التنسيقيات باعتبارها آلية تنظيمية فئوية غير معنية بالإكراهات المالية والسياسية، فهي من جنس الحركات الاجتماعية الجديدة التي يغلب عليها الطابع الاحتجاجي، وتسعى لتحقيق كل مطالبها دون مفاضلة بينها، في زمن قياسي.
وإذا كان من عناصر قوتها، تلك القدرة على الحشد والتعبئة باعتبار خطابها الواضح والمباشر والطهراني، فإن من بين نقط ضعفها، أنها لا تملك تعبيرا سياسيا (لا ترغب فيه)، مما يجعل إمكان الالتفاف على مطالبها ممكنا، عبر إنهاكها في زمن احتجاجي مكلف (كلما طالت مدة الاحتجاج دون نتائج، كلما تسرب الإحباط الذي يحد من حماس البدايات)، ثم العمل على إحداث انشقاقات داخلية، أو دفعها لاستنفاد الجهد في مواجهة تناقضات ثانوية.
يشكل الحماس والانتماء الجماعي لفئة (الوحدة) وقود الحركات الاحتجاجية، وفي الوقت نفسه نقطة الضعف إذا وقعت في مطب الإنهاك والصراعات البينية.