الإصلاح المعطوب
لا جدال في أن المغرب حقق إصلاحات ملموسة في العقدين الأخيرين، لكنها إصلاحات تعاني من اختلالات، أو لنقل إنه إصلاح معطوب. بعبارة أخرى، تحقق بلادنا نتائج ملموسة في بناء القوة الصلبة، لكنها بدون قوة ناعمة ملائمة حتى الآن، وهو الخلل الذي يظهر في ثلاثة مجالات على الأقل: الديمقراطية وحقوق الإنسان، التنمية البشرية، والتفاوتات الاجتماعية والمجالية.
هذه الخلاصة تؤكدها، باستمرار، تقارير دولية ووطنية. لا حاجة، مثلا، للتذكير بأن الترتيب المغربي في مؤشرات التنمية البشرية لم يطرأ عليه أي تغيير جوهري طيلة العقدين الماضيين، إذ ما زال المغرب يصنف في خانة الدول التي تحقق تنمية اجتماعية متدنية (الرتبة 123 من بين 191 دولة في سنة 2022). أما في مجال الديمقراطية فالحصيلة تبدو عكسية حتى الآن، فإذا كانت السنوات الأولى من حكم الملك محمد السادس تميّزت بخطوات مشجعة بعثت على الأمل في مزيد من التقدم الديمقراطي، خصوصا بعدما تعززت بتغيير الدستور سنة 2011، فإن السنوات الأخيرة باتت تبعث على الشك في جدية الالتزام بالخيار الديمقراطي. أما التفاوتات الاجتماعية والمجالية بين مكونات المجتمع وجهاته، فهي حقيقة قابلة للملاحظة، وتؤكدها تقارير رسمية باستمرار.
هناك طرح صمد طيلة العقدين الماضيين، يرى أن التنمية أولى للمغرب من الديمقراطية، وهو طرح قد يبدو متماسكا من الناحية النظرية، فالديمقراطيات لا تنجح في البلدان الفقيرة والهشة، لكنه طرح أدى في كثير من الحالات إلى تعزيز السلطويات، سواء التي تقوم على الإكراه والقمع مثل الصين، أو التي تحكمها أنظمة سياسية لا تحتاج إلى مواطنين مثل دول الخليج. لذلك تبدو نتائج هذا الطرح، في حالة المغرب، حبلى بالمفارقات؛ فمن جهة أولى، حقّقت بلادنا مكتسبات تنموية ملموسة، كما تدل على ذلك العديد من المؤشرات الكمية على صعيد البنيات التحتية واللوجسيتيكية، وتحسين القدرة التنافسية للاقتصاد الوطني، وجاذبية الاستثمار الأجنبي المباشر، والتحول الطاقي والرقمي، وفي قطاعات الأمن والدفاع…الخ؛ لكن من جهة ثانية، يلاحظ أن تلك المكتسبات تعزز مصالح الشبكات النافذة في مراكز السلطة، دون أن تتعدى آثارها الارتقاء بمستوى عيش عموم المواطنين من خلال تحسين مؤشرات التنمية الاجتماعية، وتعزيز الحقوق والحريات، وتقليص التفاوتات، ما يجعل التساؤل حول المستفيدين من توزيع الثروة المحققة مشروعا.
يدرك صناع القرار المفارقات المشار إليها، ويراهنون على مزيد من التقدم الاقتصادي والتنموي، وعلى الفعالية في تنفيذ السياسات، لمعالجة الاختلالات المذكورة. الدليل على ذلك، ربطهم تلك الاختلالات بكيفية تنفيذ السياسات لا بالسياسات ذاتها. وهذا تصور الغرض منه أن تظل السياسات قضية نخبة نافذة ومتحكمة، وليست قضية مجتمع حر، واعي، وقادر على الاختيار، ومن شأن ذلك أن يؤدي إلى مزيد من تكريس السلطوية، وفي الوقت نفسه تعميق الاختلالات على مستوى الديمقراطية وفعلية حقوق الإنسان. وفي النهاية، سنكون أمام مزيد من تكريس الإصلاح المعطوب، الذي يحقق بعض الكفاف، لكنه لا يحقق الكرامة ولا الحرية. وسيكون المغرب أمام مفارقات بنيوية؛ مؤسسة ملكية قوية تجاورها مؤسسات هشة، ومقاولات مفترسة على أكتاف عمال مقهورين ناقصي الكرامة، وحكومة لشبكات من المستغلين لكنها مكروهة شعبيا، وفي المحصلة لدينا نظام قوي، مهاب الجانب، لكنه غير محبوب، أقصد أنه يُمثل نفسه والمستفيدين منه فقط.
بخلاصة مركزة، إن الطرح القائل بأولوية التنمية وتأجيل الديمقراطية وحقوق الإنسان، قد جرى تطبيقه طيلة العقدين الماضيين، لكن لا هو حقق تنمية لجميع المغاربة، ولا هو ربح رهان الديمقراطية. وفي النهاية، تنكشف العيوب، من قبيل أن بعض المخططات والمبادرات والبرامج، مثل المخطط الأخضر، كان الغرض منها تعزيز شبكات السلطوية وذوي النفوذ والمصالح، وليس تحقيق التنمية، ولا إنصاف الفقراء والمهمشين، الذين يكتوون بنار الأسعار هذه الأيام، ويتذكرون بحنق بالغ الادعاءات الكاذبة التي روجوا لها طيلة سنوات بشأن المخطط المذكور.