story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

إرث الأخوين

ص ص

في مثل هذا اليوم قبل 34 عاما بالتمام والكمال، أي يوم 19 دجنبر 1989، كانت ناقلة نفط إيرانية تتعرض لحادث في عرض المحيط الأطلسي، على بعد حوالي 200 كيلومتر من سواحل المغرب المقابلة لمدينة آسفي.

أدى الحادث إلى انفجار خزانات الناقلة، وتسرب كميات هائلة من النفط، تقدر بحوالي 70 ألف طن، أي حوالي ربع حمولة الناقلة، وهو ما كان يهدد السواحل المغربية بكارثة بيئية يمكنها أن تقضي على جزء غني بالثروات السمكية من المياه المغربية، ومعها النشاط الاقتصادي لقسم كبير من السكان.

لم تكن للمغرب إمكانيات لمواجهة مثل هذا الحادث، مما جعله يلجأ إلى الدعم الدولي، فكان على رأس الداعمين المملكة العربية السعودية، والتي قرر ملكها الراحل، فهد بن عبد العزيز، تخصيص هبة بقيمة 50 مليون دولار، لتمويل عمليات تنظيف السواحل المغربية من النفط العائم فوق مياهها، ومنع الحادث من التحول إلى كارثة.

لكن الرياح أتت بما تشتهيه سفينة المغرب، وهبّت بشكل أدى إلى إبعاد بقع النفط العائم عن الساحل المغربي، فما كان للعاهلين السعودي والمغربي، إلا أن يتفقا على تحويل الهبة المالية التي كانت موجهة للحد من الخسائر، نحو تحقيق واحد من أحلام المغرب وملكه في تلك الحقبة، وهو التوفر على جامعة متطورة تعتمد النمط الأمريكي، على غرار الجامعات الأمريكية في مصر ولبنان، فكانت النتيجة جامعة الأخوين في مدينة إفران، والتي حملت اسما يشير إلى العلاقة الخاصة بين الملكين.

كان العاهلان الراحلان يستطيعان التصرف بشكل مختلف في أموال تلك الهبة السخية. كان العاهل السعودي يستطيع استرجاعها بما أن سبب صرفها لم يعد قائما، كما كان الملك الحسن الثاني يستطيع صرفها في وجه آخر من أوجه الحاجة والخصاص الاقتصادي أو الاجتماعي، لكنهما اتفقا معا على تخليد ذكراهما بجامعة باتت تلقب ب”هارفارد العرب”.

ولم يكن حادث ناقلة النفط الإيرانية واقعة التآزر الوحيدة بين المملكتين السعودية والعلوية، بل يكفي لنا كمغاربة أن نذكر كيف كانت الرياض صاحبة دور حاسم في تنظيم المسيرة الخضراء التي مكنتنا من استرجاع الصحراء من الاحتلال الاسباني.

دون الحاجة إلى التنقيب في أسرار الصفقات العسكرية العسيرة التي قام بها المغرب لحماية ظهر المشاركين في المسيرة والتأهب لاحتمال تحولها إلى حرب مع اسبانيا، لنتذكر فقط كيف أن السعودية موّلت بشكل شبه كامل مصاريف المسيرة، والتي قدّ رها رجل الأعمال المغربي عثمان بنجلون في تصريحات صحافية سابقة بنحو 300 مليون دولار.

أما عن الجانب المغربي، فيكفي أن نذكّر الأجيال الصاعدة كيف أن الجيش المغربي شارك فعليا في الحرب إلى جانب القوات السعودية دفاعا عن أراضي هذه الأخيرة، أثناء الهجوم الذي شنه الرئيس العراقي الراحل، صدام حسين، على الكويت، وكان يُخشى أن يمتد الهجوم إلى الأراضي السعودية، فساهم المغرب بحوالي 13 ألف جندي انتشروا في الحدود السعودية العراقية، وشاركوا في عمليات برية إلى جانب الجيش السعودي.

لا أعرف لماذا حضرتني كل هذه التفاصيل وأنا أتابع قصاصات الأخبار مساء أمس، المتعلقة بالاستقبال الأول من نوعه الذي قام به ولي العهد الأمير مولاي الحسن، لمبعوث العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز، وولي عهده الأمير محمد بن سلمان.

صحيح أن تلك القصاصات لم تخبرنا شيئا عن فحوى تلك الرسالة ولا موضوعها، لكنه ربما مفعول المشهد القوي لولي العهد الذي يتولى للمرة الأولى مهمة رسمية من هذا الحجم. أو ربما هو أثر السياق، كوننا نعرف أن بلادنا دخلت رهانا كبيرا يرتبط بمستقبلها وما ستكون عليه أحوالها في القادم من السنين. رهان سواء اتفقنا أو اختلفنا حول تفاصيله وحيثياته، لكننا نتمنى أن تنجح فيه بلادنا، بتحقيق طموحاتها منه، وبتجنب ألغامه ومخاطره.

السياق يتعلق بالسقف المرتفع الذي رسمه المغرب لأحلامه، بالحسم النهائي لمعركة وحدته الترابية بما يحمي سيادته، ورسم حدوده البحرية بما يضمن مصالحه الاقتصادية في البحر، واسترجاع سيادته الكاملة على المجال الجوي للصحراء، والتحول إلى منصة طاقية تحوّل شمس وهواء إفريقيا إلى قوة دفع للصناعات والمدن الأوروبية ومحركات السيارات الكهربائية في العالم، إلى جانب احتضان التظاهرة الرياضية الكبرى لنهائيات كأس العالم…

كل هذه الأحلام والطموحات تحتاج إلى دعم وشراكات، وبشكل خاص إلى تمويلات، وهو ما عبّرت التحركات والرسائل الدبلوماسية في الفترة الأخيرة عن سعي المغرب لتحصيله من مصادر مختلفة، أولها الصناديق السيادية الخليجية، ليس بحثا عن هبات أو مساعدات، بل تأسيسا لشراكات يخرج منها الجميع بقسط من الربح.

لقد كانت علاقاتنا بدول الخليج العربي دائما، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، الأقوى والأكثر فاعلية وجدوى، لاعتبارات كثيرة يمكن أن نلخصها في كون هذه العلاقات تجمع الكثير من عناصر التقارب والوحدة، وتخلو من جل أسباب الخلاف والتنافس بمختلف أنواعه.

صحيح أن هذه العلاقات مرت بفترة فراغ في السنوات القليلة الماضية، شعرنا فيها كما لو أن أصدقاءنا في الخليج قد أداروا ظهورهم لنا، خاصة في النصف الأول من ولاية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وربما كان ذلك سببا إضافيا لما اضطررنا إليه من إحياء للعلاقات الرسمية مع دولة الاحتلال الإسرائيلي بطريقة مؤلمة تستحضر بشكل أو بآخر قضية وحدتنا الترابية.

لكن أوان الاستدراك لم يفت، وعودة كل طرف إلى الإمساك بما هو ثابت وراسخ لبناء الجديد والأفضل ما زال ممكنا، شريطة استحضار “إرث الأخوين”، والإنصات إلى مطالب وانتظارات شعوب المنطقة، بما في ذلك تطلعاتها إلى الحقوق والحريات، كي لا يظل العشب يابسا تحت أقدامنا، وكلكم تعرفون لأي غرض يمكن أن يوظف العشب اليابس…\