“هاي هاريس!”
على وقع أصوات طبول الحرب، يصل إلى الرباط اليوم، جوشوا هاريس، نائب مساعد وزير الخارجية في مكتب شؤون الشرق الأدنى التابع لوزارة الخارجية الأمريكية، المسؤول عن منطقة شمال إفريقيا.
طبول الحرب التي تحيط بزيارة الموظف الأمريكي الرفيع، سُمعت في ضواحي قرية أوسرد في أقصى جنوب المغرب، تزامنا مع وجود وفد عسكري أمريكي في مدينة العيون حيث أجرى مباحثات مع مسؤولي بعثة الأمم المتحدة “مينورسو”، كما سُمعت خلال وجود المسؤول الأمريكي نفسه في الجزائر الأسبوع الماضي، حين مُنعت طائرة عسكرية أمريكية من عبور المجال الجوي الجزائري، حسب ما أوردته الصحافة الإسبانية، وسُمعت كذلك في تحركات السفارتين الأمريكيتين في كل من الرباط والجزائر، حين سارعت البعثة الدبلوماسية الأمريكية في الرباط أمس الأحد إلى استعمال دفاعاتها الإعلامية عبر منصة “إكس” (تويتر) لتبديد الادعاءات الجزائرية بحصول تغير في الموقف الأمريكي من مقترح الحكم الذاتي، تماما كما اضطرت السفارة الأمريكية في الجزائر إلى القصف عبر نشر النص الكامل لمقابلة جوشوا هاريس مع الصحافة الجزائرية، منعا للتحريف الذي طال تصريحاته.
هي أجواء حرب بكل معاني الكلمة، المَجازية والمباشرة، والتي لم تكن تصريحات هاريس في الجزائر بعيدة عن تأكيدها، حين قام بربط غير بريء ولا هو من قبيل الصدفة، بين ما تقوم به قوات الحوثيين في اليمن من عمليات عسكرية ضد المصالح الأمريكية، وملف الصحراء، حين قال إن التصعيد الحوثي يحول دون السماح بأي تصعيد عسكري في الصحراء.
الضربات التي قامت بها البوليساريو في أقصى جنوب المغرب يومان قبل وصول جوشوا هاريس الى الرباط تحمل أكثر من مجرد رسالة احتجاج على تصريحاته الصادمة في الجزائر، والتي كادت تصل إلى التعبير الصريح عن دعم الموقف المغربي، بل هو تحرك مباشر ومقصود ضد المشروع الأطلسي الذي ترعاه واشنطن انطلاقا من الصحراء المغربية.
وإذا استحضرنا عنصر الحوثيين الذي استدعاه هاريس في الجزائر، ومسارعة بعض الجهات إلى طرح ورقة الإرهاب لتأطير النقاش حول التعاطي مع جبهة البوليساريو، فإننا نصبح أمام تحوّل نوعي في القضية، ينقلها إلى مستوى فوق إقليمي، ويعرضها لرياح الأجندات الدولية التي قد لا نمتلك قدرة تدبيرها.
إن ما يحصل من تطورات في ملف الصحراء يحمل على الاستنفار والتعبئة، مهما بدت لنا المؤشرات الحالية إيجابية ومطمئنة. الولايات المتحدة الأمريكية صديق وحليف تاريخي للمغرب، لكنها دولة توازنات وحسابات واختيارات براغماتية. وواشنطن التي جعلناها قِبلة سياسة واقتصادية لنا حين انقسم العالم بين معسكر شرقي وآخر غربي، حتى وهي تعلم وتقرّ في وثائقها الداخلية السرية بحقوق المغرب في الصحراء، لم تمنحنا منذ السبعينيات ما يمكّننا من الحسم، سواء في الدبلوماسية أو في الحرب، وجعلتنا دائما في ميزان مصالحها مع جيراننا في الشمال والجنوب والشرق.
وحتى وهي تتقدم نحونا بخطوة كبيرة اليوم، فإن واشنطن تأخذ منا مقابلا كبيرا هو هذا التطبيع شبه القسري مع إسرائيل، والاستدعاء المتزايد لأجندات دولية أكبر من قدرتنا على التحمل والتدبير، والذي يحتّم علينا العودة إلى جبهتنا الداخلية ومكاشفة المغاربة وإشراكهم في قضية مصيرية مثل ملف الوحدة الترابية.
أولى خطوات هذا النقاش الوطني الداخلي هي جعل المغاربة ينظرون إلى الواقع كما هو لا كما نتمناه أن يكون. نحن اليوم، ومنذ بضعة شهور، في مرحلة جديدة، مختلفة كليا ولا تشبه ما كان عليه الحال سواء بقبل أو بعد انتصارنا في معركة الكركرات.
نحن اليوم أمام استهداف مسلح على طول حدودنا الشرقية، من ساحل السعيدية المتوسطي حتى ضواحي أوسرد جنوبا. والمبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، الذي يجعل المسؤولون الأمريكيون من دعم مساعيه في القضية شعارا لتحركاتهم الأخيرة، بدأ حسب بعض التسريبات يطالبنا بتفاصيل مقترح الحكم الذاتي وخطوات تنزيله بشكل عملي.
حتى مقر بعثة الأمم المتحدة في العيون، الذي تحول مؤخرا إلى وجهة للوفود العسكرية الأجنبية، بات يصدر إشارات تحوّل محتمل في ولاية، بل وحتى وجود البعثة أصلا في المنطقة. أي أن أسئلة كبيرة باتت تواجهنا وتستدعي تقديمنا لعناصر الجواب عليها.
من بين تلك الأسئلة ما يتعلق باختياراتنا الدولية، التي وبقدر ما تمنحنا فرصا اقتصادية واستثمارية كبيرة ومغرية، فإنها تسحب منا قدرتنا على إدارة قضيتنا المصيرية باستقلالية وتحكم كاملين.
دعونا نتساءل مثلا: ماذا حدث في الشهور القليلة الماضية حتى يتجرأ علينا الخصوم بهذا الشكل، ويستبيحوا دماء مواطنينا في السعيدية والسمارة، ويدقوا إسفينا بيننا وبين جارتنا موريتانيا عبر استهداف مناطقنا الحدودية؟
هل حصل تحوّل ما في المعطيات العسكرية ومستوى تسليح جبهة البوليساريو؟ أم أن التحول همّ المستويات السياسية والدبلوماسية فقط؟ ثم لماذا تحدث الضربات المعادية خلال أو عشية عطلة نهاية الأسبوع؟ هل لدينا الجاهزية الكافية لمواجهة أي تصعيد قد يهرب إليه الخصوم لتعويض عجزهم عن اللعب فوق رقعة الصراع الدبلوماسي السلمي؟ ثم ماذا عن سؤال تفاصيل وحيثيات تنزيل الحكم الذاتي؟ هل نملك جوابا مقنعا؟
الجواب عن هذه الأسئلة، من بين أخرى، هو ما يمكن أن يجعلنا نطمئن إلى أن طبول الحرب التي تغطي على زيارة جوشوا هاريس اليوم، هي حربنا ومعركتنا، أو جزء منها على الأقل، لأن أسوأ ما يمكن أن يحصل لقضيتنا الوطنية، هو أن تصبح مجرد أرض لمعركة أو معارك أخرى، أجنبية وغريبة علينا، سواء معركة إسرائيل ضد إيران والحوثيين، أو معركة أمريكا ضد الروس والصينيين.
أما من يصر على النوم في عسل منطقة الراحة، فما عليه سوى التطلع إلى أوكرانيا التي لم يحل قربها من أوربا وحلف شمال الأطلسي، بل وانتماؤها الحضاري والثقافي إلى العالم الغربي، من أن تصبح مجرد ساحة لمعركة يَعلق ويُستنزف فيها الروس والأوربيون معا، بينما تتفرغ أمريكا لإدارة معركتها الكبرى ضد الصين… قياس الخير على المغرب.