“حگرونا المراكنة!”
ينهي مساعد وزير الخارجية الأمريكي المكلف بشمال أفريقيا، جوشوا هاريس، زيارته للجزائر، فتعلن وزارة الدفاع الجزائرية اعتقال ثلاثة مواطنين مغاربة بدعوى اختراقهم مياهها الإقليمية قادمين من شواطئ السعيدية!
برقية مفهومة، وبالرغم من السوء الذي تنطوي عليه لما غلّف به الأمر من ايحاءات تشير إلى أنشطة لترويج المخدرات في تلك المنطقة، وخطاب يقطر كراهية ويمعن في تكريس القطيعة ونشر الضغينة، إلا أنه أقل سوءا من الرسائل الدموية السابقة التي توصلنا بها من جيراننا وإخوتنا نهاية غشت عندما قتلوا إخوة لنا بدم بارد في مياه المتوسط، أو شهر أكتوبر الماضي عندما أسقطت قذائف النيران أرواح مدنية بريئة في قلب مدينة السمارة.
هناك حوار عسير يجري هذه الأيام بين ضفتي حدود الصحراوَين، الشرقية والغربية، قناتها الولايات المتحدة الأمريكية التي تقوم بدور لم تقم ولم تحاول قط القيام به في ملف الصحراء من قبل، أي الضغط الحقيقي من أجل تقدم فعلي في حل مشكلة الصحراء. ولا يمكن تلقي ولا فهم ولا تفسير خطوة اعتقال الجيش الجزائري لثلاثة من مواطنينا بعيدا عن تصريحات المسؤول الأمريكي في قلب الجزائر.
خص جوشوا هاريس وسائل إعلام جزائرية باستجواب قال فيه ما لا يقوى العقل الأمني والعسكري الجزائري على تحمله. وعندما شرعت الآلة الدعائية الجزائرية في تحوير تصريحاته واجتزائها، بادرت السفارة الأمريكية في الجزائر إلى نشر النص الكامل للحوار، في خطوة لا تخلو من قسوة.
ماذا قال الدبلوماسي الأمريكي لجيراننا؟
في الواقع قال لهم كل ما لا يتصورون سماعه من مسؤول أجنبي، بالأحرى أمريكي، في عقر دارهم. قال لهم إن دولتهم طرف أساسي في ملف الصحراء وإن التصعيد العسكري الذي تقوم به “أداتهم”، جبهة البولساريو، غير مقبول، وإن قتل المدنيين لا يمكن التسامح معه، وإن ما يجري من تصعيد في غزة سبب إضافي لتهدئة ومنع انفلات الوضع، عكس ما اعتقده بعضهم من فرصة للابتزاز والعزف على وتر الاستقرار…
ورغم الأسئلة التي وجهت إليه من جانب محاوريه الجزائريين، والمثقلة بعبارات “الاحتلال المغربي” و”تقرير مصير الشعب الصحراوي”… إلا أن المسؤول الأمريكي انتقى كلماته بعناية ولم يخرج عن دائرة المقبول مغربيا، وهو ما يجعله ضمنيا وعمليا أقرب ما يكون من تبني موقف الاعتراف بمغربية الصحراء الذي أعلنته الإدارة الأمريكية على عهد ترامب.
بعيدا عن كل شوفينية أو إسقاط للطائرة في حديقة المشاعر الوطنية، لا يمكننا أن نزعم أن واشنطن باتت ناطقة باسمنا، ولا أنها تتحرك في الملف دون أن تنتزع منا تنازلات (أولها تطبيع العلاقات مع اسرائيل)، أو لا تسخّرنا بدورها لخدمة مصالحها في المنطقة وفي القارة الأفريقية… لكن لنعترف بوضوح أن الموقف الأمريكي من خلال هذا الاستجواب لم يكن يوما بهذا القرب من الموقف المغربي.
لقد اشتغلت كباحث على الأرشيف الأمريكي، خاصة منه الأرشيف الاستخباراتي، ويمكنني أن أقول بكل ثقة إن ما قاله جوشوا هاريس للجزائريين علنا هذا الأسبوع، لا يضاهيه سوى موقف صارم قاله وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، هنري كيسنجر لنظيره الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، منتصف السبعينيات، حين تساءل أمامه مستنكرا كيف يمكن التفكير في خلق دولة لبعض وعشرين ألفا من السكان فوق تراب يقارب مساحة بريطانيا؟ لكنه قال ذلك سرا ولم ينشر إلا في إطار رفع السرية عن الأرشيف بعد مرور أكثر من أربعين عاما.
ما نعيشه حاليا من مخاض عسير يختلف عن كل ما عاشه ملف الصحراء من تقلبات، لأنه يشهد محاولة لوضع الأصبع على الجرح الحقيقي في المنطقة. في شهر رمضان الماضي نشرت عبر حسابي الفيسبوكي وثيقة رسمية للاستخبارات الأمريكية تعود إلى نصف قرن تقريبا، ثم تناقلتها عدد من الصحف المغربية، تتضمن وصفا أمريكيا لحقيقة الخلاف المغربي الجزائري، والذي هو خلاف حدودي بالدرجة الأولى، وما ملف الصحراء إلا أحد أعراضه الجانبية.
الوثيقة الأمريكية تقول إن الحدود السياسية القائمة بين البلدين مجحفة في حق المغرب وهي نتيجة لتلاعب فرنسي خلال فترة احتلال هذه الأخيرة للجزائر و”حمايتها” للمغرب. واليوم، ومنذ ثلاث إلى أربع سنوات، وبشكل دقيق منذ حسم المغرب معركة معبر الكركرات، لم يعد الصراع يدور في الصحراء ولا حولها، بل عاد الصراع إلى مربعه الأول والأصلي: ملف الحدود المغربيةـالجزائرية (انظر ملف “الحدود الحقة” ضمن مجلة “لسان المغرب” المنشور حاليا في موقع “صوت المغرب”).
ما يحصل من ضربات استفزازية جبانة في مياه السعيدية من جانب الجيش الجزائري هو رسالة عابرة للصحراء ومتجاوزة لها. رسالة ترتبط بلمف متفجر فتح مجددا في المنطقة، بعيدا عن أنظار الشعوب والقوى المدنية والسياسية، عبر إشارات ضمنية وأخرى معلنة، سواء من جانب المغرب (تصريحات السيدة مديرة الوثائق الملكية، بهيجة سيمو، حول الصحراء الشرقية مثلا)، أو من جانب الجزائر، من خلال إقدامها على الشروع في استغلال منجم “غار الجبيلات” في تندوف، رغم وجود اتفاقية مستقلة عن اتفاقية الحدود، ومنشورة في الجريدة الرسمية للجزائر، تعطي المغرب حقوقا اقتصادية في هذا المنجم.
إن المياه تجري تحت الجسر، وكتبان الصحراء تتحرك، ببطء لكن بثبات، وعلى الرأي العام والطبقة السياسة والنخبة أن تواكب ما يجري بالنقاش الصريح والشفاف الذي يحصّن المكاسب الوطنية ويمنع انحراف الصراع عن سكته ويبقي فرص البناء المشترك في المستقبل. وأول خطوة في سبيل ذلك هي وضع ما يجري في ملف الصحراء وفي العلاقة مع الجزائر، في سياقه الحقيقي: خلاف حدودي مزمن نتج عن خيانة أولى من الجانب الجزائري عندما تنكر لتعهداته بمناقشة الملف بعد استقلال البلاد، ثم خيانة ثانية عندما تنكرت الجزائر لالتزاماتها التي أفضت إلى اتفاقية الحدود في 1972 (معاهدة إفران) واتفاقية الاستغلال المشترك لمناجم الحديد في تندوف.
لقد نتجت حرب الصحراء بكل ما خلفته من قتلى ومعطوبين بدنيا ومعطوبين تنمويا، عن تنصل الجزائر من التزامها بدعم المغرب في مطالبه باسترجاع الصحراء من يد اسبانيا. والمبرر الذي يقدمه المسؤولون الجزائريون منذ ذلك الحين هو الخوف من ظهور “أطماع” مغربية جديدة في حال تصفية ملف الصحراء، أي الخوف من مطابتنا بالصحراء الشرقية.
على ضوء ذلك، ينبغي أن نفهم تصريحات جوشوا هاريس الأخيرة، التي تضمنت العصا والجزرة. العصا متمثلة في تقريع قاس لم يتحمله حكام الجزائر في ملف الصحراء، وجزرة متمثلة في تطمينات أمنية وعسكرية تقول واشنطن إنها مستعدة للذهاب فيها إلى درجة تقديم الدعم العسكري الضروري لتأمين البلاد، في محاولة أمريكية متأخرة لنزع ورقة تبرير مزمنة من يد الجزائر.
بالعودة إلى واقعة اعتقال ثلاثة مغاربة في مياه المتوسط عقب زيارة المسؤول الأمريكي وتصريحاته القاسية في الجزائر، يبدو الأمر أشبه بصدى العبارة المنسوبة للرئيس الجزائري الراحل، هواري بومدين، حين كان وزيرا للدفاع خلال حرب الرمال التي تغلب فيها الجيش المغربي على نظيره الجزائري عام 1963، والتي قال فيها “حڭرونا المراركة”، وكأني اليوم بصوت الصدى يقول تحت وقع تأثير تصريحات جوشوا هاريس: “حڭرونا المراكنة”.