المغاربة قتلوا “المغاربة”
لم يكن ما عِشناه البارحة مجرد فوزٍ بثلاثة أهداف. بل كان تبدّلا في الهواء. انقلابا في المزاج. لحظة تُشبه تلك اللحظات التي تُعيد تعريف الأشياء من حولك دون أن ترفع صوتها.
صافرة بداية مباراتنا ضد زامبيا كانت كافية لتقول إن شيئا ما قد تغيّر. وإن هذا المنتخب دخل الملعب بوجهٍ آخر. لا يعتذر. لا يساوم. لا ينتظر الصدفة. بل يضع الخطة تحت قدمه ويجعلها تمشي.
منذ الدقيقة الأولى، بدا كأن اللاعبين اتفقوا على ألا يتركوا للجمهور مهمة الإيمان وحده. هم أيضا أرادوا أن يؤمنوا. أرادوا أن يثبتوا لأنفسهم قبل الناس أنهم قادرون على كتابة مباراة دون تلعثم. دون رجفة. ودون تلك الدقائق الباردة التي تُضيّع فيها الفرق الكبيرة وقتها وتسمّي ذلك “إدارة المباراة”.
ثم جاء الهدف الأول مبكرا بقدم أيوب الكعبي. هدف فتح الباب لشيءٍ أكبر من التسجيل. فتح باب الجرأة. باب الثقة. باب اللعب بإيقاعٍ يليق بمنتخبٍ على أرضه ووسط ناسه.
وعندما جاء الهدف الثاني عبر الولد-الشعلة، دياز، لم يكن مجرد ضربةٍ تزيد الفارق. بل كان إعلانا صريحا بأن هذه المباراة لن تُترك للقلق. لن تُترك للحسابات.
وفي الشوط الثاني، حين أضاف الكعبي هدفه الثاني، اكتمل المعنى. ثلاثية نظيفة. سيطرة. وتحوّل كبير في النبرة.
الأجمل أن هذا كله لم يحدث فوق العشب فقط. بل حدث في المدرجات أيضا. حدث في تلك الهستيريا الجميلة التي لا تُخطئها عين. في الشوط الأول بالذات، كان الجمهور كأنه يركض مع اللاعبين. يضغط معهم. يستعيد الكرة معهم. يسبق الكرة أحيانا إلى المرمى. كان هناك اتحاد نادر بين من يلعب ومن يشاهد.
لا أتحدث عن اتحادٍ رومانسي يُقال في الخطب. أتحدث عن اتحادٍ عملي. ملموس. تُرى آثاره في الالتحام. في الرجوع. في تغطية المساحات. في لاعبٍ يركض ليملأ مكان لاعب آخر. في جناحٍ يعود كظهير حين يجب. في وسطٍ لا يترك العمق عاريا. في مدافعٍ لا يتردد لحظة في رمي جسده قبل أن تمر الكرة.
ثم تأتي قيمة أخرى، أكثر أهمية مما نتصور. الإنصات. ليس الإنصات بمعنى أن الشارع يصبح مدربا. ولا أن الجمهور يكتب الخطة. بل الإنصات بمعنى أرقى وأصعب هو الاعتراف، والاستدراك، والجرأة على قول: نعم، أخطأنا هنا. نعم، هذا لا يستحق أن يبدأ. نعم، ذاك يستحق أن يُكافأ. نعم، هناك من كان خارج الإيقاع ويجب أن يخرج. نعم، هناك من كان يصرخ في داخله من أجل فرصة ويجب أن تُعطى له.
هذه هي الشجاعة التي نحتاجها في كل شيء، لا في الكرة فقط. لأن أكبر عطب في حياتنا العامة ليس نقص الأفكار. بل هو العناد. هو المكابرة. هو أن تظل الآلة تمشي بنفس الصوت الخشن، ثم نستغرب لماذا تتكسر.
البارحة رأينا نموذجا معاكسا. رأينا معنى أن تقرأ المزاج العام دون أن تستسلم له. أن تحترم النقد دون أن تخاف منه. أن تستعمل الضجيج كإنذار لا كإهانة. أن تجعل الخطأ جسرا نحو تحسين القرار لا سببا للغرق في الإنكار.
أعرف أن البعض سيقول: الكرة ليست أولوية. وأن الفقر أولوية. وأن الهشاشة لا تُهزم بالثلاثيات. صحيح. كل هذا صحيح. لكن الحقيقة أيضا أن الإنجاز معدٍ. وأن من يستطيع أن يبني منشأة محترمة ويُدير حدثا معقدا ويجعل بلدا كاملا يشتغل كساعة، يستطيع أن يفعل ذلك في مجالات أخرى إذا حضر القرار. إذا حضرت الإرادة. إذا حضر الانضباط. إذا حضر احترام المواطن كما يُحترم المشجع.
البارحة كان الملعب يصرخ بهذه الفكرة دون أن يتكلم. كان يقول إن الفشل ليس قدرا. وإن النجاح ليس معجزة. وإن بينهما طريقا واحدا اسمه العمل. اسمه توزيع المسؤولية. اسمه محاسبة الذات قبل محاسبة الآخرين. اسمه أن تُعطي الفرصة لمن يستحق. وأن تمنعها عمّن لا يقدم ما يكفي. اسمه أن تؤمن بأن النقد ليس خيانة. وأن التصحيح ليس ضعفا. وأن التواضع أمام الحقيقة هو أول شروط القوة.
هنا بالذات أتذكر تلك المرآة القاسية التي وضعها عبد الكريم الجويطي أمامنا في رواية “المغاربة”. تلك الصورة التي تقول إننا نتعايش مع الخسارة. نطبع معها. نهادنها. نتحول إلى خبراء في التحمل بدل أن نصير خبراء في التغيير. نرى الخراب ثم نعتاد عليه. نتقن مهارات النجاة الصغيرة وننسى مهارة الانتصار الكبير.
البارحة، لوهلة، كأن المغاربة قرروا أن يردوا على هذه المرآة. لا بكلماتٍ غاضبة. بل بفعلٍ جميل. بفعلٍ بسيط وواضح: أن يخرجوا من الهزيمة النفسية. أن يكذبوا تلك الانكسارات المترسبة. أن يقتلوا “المغاربة” التي تربطهم الاستسلام، ويُحيوا فيهم “المغاربة” الذين يعرفون كيف يقفون عندما يحين وقت الوقوف.
لقد قتلوا المغارب ليلة البارحة لأنهم لم يرضوا بنصف روح. لم يرضوا بنصف رغبة. لم يرضوا بأنصاف الأعذار. لأنهم لعبوا كعائلة، وهذا ليس شعارا. عائلة تعني أن غياب واحد يؤلم الجميع، وأن عودة واحد تفرح الجميع، وأن القائد ليس فقط من يحمل الشارة، بل من يوزع المعنى.
حين عاد حكيمي وسط ذلك التصفيق الهائل، لم يكن مجرد تغيير في تشكيلة. بل كان عودة نبض. عودة ابتسامة. عودة قائدٍ يعطي للحياة داخل الفريق طعما إضافيا. واللاعبون قالوا ذلك ببساطة، قالوا إنهم مستعدون أن يقاتلوا من أجل مدربهم. وهذه الجملة، في بلدٍ كامل، ليست جملة عابرة. هي درس في الوفاء المهني. في الثقة. في فكرة أن القيادة ليست أن تُصدر الأوامر فقط، بل أن تكون “حقيقيا” مع الناس.
لهذا، ونحن نكتب تحت تأثير نشوة لا نخجل منها، نملك الحق أن نحلم بصوت مرتفع. نملك الحق أن نقول إننا نريد هذا المنطق في كل مكان. نريد مؤسسات تُصغي ثم تُصلح. تُخطئ ثم تعترف. تُحاسب ثم تُنصف.
نريد مشاريع تشبه ملعب مولاي عبد الله من حيث الإتقان لا من حيث الاسمنت.
نريد رجال تدبير لا يكتفون بوعدٍ جميل، بل يحولونه إلى واقعٍ صالح للاختبار.
نريد قادة يفهمون أن الجماعة لا تتحرك بالخوف، بل بالثقة.
وأن الثقة تُصنع بالصدق وبالنتائج.