story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
إعلام |

أسبوع “الكان” الأول.. المغرب أمام امتحان الصورة والنتيجة

ص ص

لم تكن ليلة الأحد 21 دجنبر 2025 في الرباط مجرد “حفل افتتاح” بالمعنى الإجرائي الذي يسبق صافرة البداية، بل كانت لحظة إعلان سردية كاملة.

المغرب لا يقدّم نفسه هنا كمضيف يفتح الملعب ويضبط البروتوكول، بل كبلد يكتب معنى الاستضافة ويؤطرها داخل فكرة أكبر اسمها “الانتماء القاري” و”القوة الناعمة”. لهذا بدأ العرض من الظلام لا من الضوء. الظلام كان مقصودًا لأنه يقوم بوظيفة درامية هي تصفير الحواس، وإفراغ العين من الزينة، ثم إعادة ملئها بضوء محسوب، كأن الرسالة تقول إن ما سيأتي ليس مجرد ألوان بل “رؤية”.

في تلك الثواني التي ساد فيها الصمت، كان هناك تمرين رمزي على السلطة البصرية: من يتحكم في الإضاءة يتحكم في الحكاية، ومن يتحكم في الحكاية يحدد كيف يرى الناس الحدث ومن خلاله يرون البلد.

من هذه العتبة، اشتغلت اللغة البصرية على استعارتين مركزيتين لا يمكن اعتبارهما تفصيلا مشهديا: الفانوس والكرة. هذا الدمج لم يكن مجرد لعبة تصميمية، بل اختصار لفكرة سياسية-ثقافية: كرة القدم لا تُقدَّم كشيء منفصل عن الثقافة المحلية، بل كشيء يُعاد إدخاله إلى “بيت الهوية”.

الفانوس رمز لدفء البيت، وللتراث وللمدينة، والكرة رمز لحداثة الفرجة والاقتصاد الرياضي. حين يجتمعان في جسم واحد، تصبح الرسالة واضحة: المغرب يريد أن يقول إن الحداثة لا تأتي ضد التراث، بل تمر عبره، وإن البطولة ليست مجرد منافسة بل مناسبة لإعادة تعريف الذات أمام الآخرين—وأمام الذات أيضاً.

بعد ذلك، جاءت فكرة المدن المستضيفة بوصفها جزءًا من السرد لا جزءًا من اللوجستيك. عادةً تُذكر المدن في البيانات والخرائط، لكن الافتتاح جعلها “أشكالًا من الضوء” تُنسج من شعاع واحد.

تبدو هذه الحركة بسيطة، لكنها عميقة الدلالة: البطولة ليست “العاصمة” وحدها ولا الملعب وحده، بل بلد موزّع يفتح نوافذه دفعة واحدة. هنا تتحول الجغرافيا إلى معنى: الضوء يربط المدن كما يربط الانتماء الأقاليم، والربط نفسه يوحي بأن الدولة ليست مجرد جهاز تنظيم، بل “مهندس وحدة” يصنعها بالفرجة كما يصنعها بالبنيات.

حتى حين اشتغل العرض على ثنائية الشيخ/الشاب (سراج الضياء/نجم) لم يكن يقترح حكاية إنسانية فقط، بل كان يبني رمزية انتقال: انتقال الشعلة، وانتقال الجيل، وانتقال المستقبل. إنه قول غير مباشر بأن الرهان ليس في تنظيم بطولة اليوم فقط، بل في تخييل “المغرب القادم” وإظهاره كأنه حاضر الآن على أرضية الملعب.

أما شعار “We Are Different”، فقد قُدّم بطريقة دقيقة: بدل أن ينحاز إلى خطاب الوحدة الساذج (نحن متشابهون)، اختار الاحتفاء بالاختلاف كقوة. هذا ينسجم مع منطق الكرة الإفريقية نفسها التي تبحث دائمًا عن صورتها في العالم، ليس كنسخة ناقصة من أوروبا ولا مجرد “مواهب خام”، بل قارة ذات إيقاعاتها وروايتها. والافتتاح هنا لم يقل إن إفريقيا واحدة لأننا نذيب الفوارق، بل قال: إفريقيا واحدة لأننا نجمع الفوارق داخل إطار مشترك. وهذه رسالة سياسية أيضًا، لأنها تلتقط جوهر الخطاب القاري الحديث: التعدد ليس عبئًا إذا كانت هناك فكرة جامعة، والجامعة هنا هي كرة القدم باعتبارها لغة مشتركة، أقل صدامًا من السياسة وأكثر قدرة على صناعة العاطفة.

لهذا لا يمكن فصل الافتتاح عن الرهان الأكبر الذي يظلل “كان 2025”. الافتتاح قدّم البطولة كحلقة داخل سلسلة، وليس مجرد تظاهرة تُستهلك ثم تنتهي، بل محطة في بناء “صورة دولة” تُراكم نقاطها بهدوء.

في هذا المعنى، لا تكون البنية التحتية وحدها ما يُعرض، بل القدرة على تحويل هذه البنية إلى سردية، وتحويل السردية إلى ثقة. فالملاعب يمكن لأي بلد أن يبنيها إذا توفر المال والوقت، لكن ما ليس سهلًا هو أن تجعل الملاعب تقول شيئًا عنك، وأن تجعل التنظيم يبدو كأنه جزء من “هوية” وليس مجرد وظيفة.

تعادلٌ يوقظ من الحلم

بدأ المنتخب الوطني أسبوعه الأول كما يتمنى أي مستضيف أن يبدأ، أي بفوز يضع قدميه داخل البطولة بدل أن يجرّها وراءه. الانتصار على جزر القمر في مباراة الافتتاح لم يكن مجرد ثلاث نقاط في جدول، بل لحظة “تثبيت” نفسي ومعنوي تُربح فيها ما هو أهم من النتيجة: الإحساس بأن البطولة انطلقت من عندك أنت، لا من عند القلق الذي يرافق عادة المباراة الأولى.

في كأس إفريقيا تحديدًا، الافتتاح لا يختبر جاهزية اللاعبين فقط، بل يختبر مزاج بلد كامل؛ وإذا دخلت تلك البوابة بقدم ثابتة، يصبح الجمهور شريكًا في الدفع بدل أن يتحول إلى مرآة للضغط.

في تلك الليلة، بدا أن الفريق يعرف ما يريد: أن يتفادى فخ الارتباك، وأن يقطع سريعًا مع أسئلة “هل سنبدأ متوترين؟”. فوز الافتتاح يحرّر المستضيف من ثقل البداية ويمنحه أفضلية لا تُقاس دائمًا بالأرقام، هي أفضلية الهدوء.

والهدوء في بطولة إفريقيا ليس رفاهًا، بل رأس مال، لأن المنافسة هنا لا تُحسم بالمهارة وحدها، بل بكيف تُدير لحظات الشك، وبقدرتك على أن تُبقي المباراة تحت سيطرتك حتى حين تتعقد. لذلك كان الانتصار بمثابة وعد أولي بأن المسار يمكن أن يكون مستقيمًا، وبأن الفريق لا يحتاج إلى وقت طويل “ليدخل الأجواء”.

لكن مباراة مالي جاءت لتبدّل نبرة الأسبوع من الاطمئنان إلى اليقظة. هنا لم يعد الخصم فريقًا يمكن تجاوزه بالصورة أو بالاندفاع وحدهما، بل منتخبًا يعرف كيف يجعل المباراة “ثقيلة”: يغلق المساحات، ويرفع منسوب الالتحام، ويجبرك على أن تُثبت أنك قادر على الفوز حين لا تمنحك المباراة شروطك المفضلة. هذا النوع من الاختبارات هو ما يميز المرشحين عن الباقين: هل تستطيع أن تفرض نفسك حين تُسحب منك المتعة ويُترك لك فقط العمل الشاق؟

تقدّم المغرب بهدف أعاد الإحساس بأن الأمور عادت إلى السكة، وكأن المباراة تقول: الهدوء ما زال ممكنًا. لكن التعادل الذي تلا ذلك—وخاصة الطريقة التي جاء بها—ترك انطباعًا حادًا عند الجمهور: ليست المسألة في نقطة تُضاف إلى الرصيد، بل في الإحساس بأن المباراة كانت قابلة للحسم ثم أفلتت في لحظة واحدة.

لهذا بدا التعادل في المخيال الجمعي كأنه تعادل “يُنقص” أكثر مما “يُضيف”: لأن جمهور البلد المستضيف لا يتعامل مع التعادل كحدث عادي، بل كإشارة على مستوى السيطرة الذهنية وعلى قدرة المرشح على إغلاق المباراة حين تفتح له فرصة الإغلاق.

ما وراء النتيجة

بعد اللقاء، حين تحدث وليد الركراكي عن سيطرة وأداء جيد وعن “خطأ بسيط” كلّف الفريق، كان يضع الإصبع على معنى يتجاوز نتيجة 1-1. بطولات الكؤوس تُحسم بتفاصيل تبدو عابرة في الزمن لكنها ثقيلة في المصير. فقدان كرة في وسط الملعب، أو سوء تمركز، أو ارتباك لحظي، أو برودة في اللمسة الأخيرة… كلها أمور لا تملأ العناوين مثل الأهداف، لكنها قد تفعل ما لا تفعله أخطر الهجمات: تُعيد توزيع الثقة داخل المباراة، فتصير السيطرة ضغطًا بلا مكسب، وتصبح الأفضلية النفسية قابلة للانقلاب.

لهذا يمكن قراءة التعادل كجرس إنذار مبكر لا كصدمة. إنذار يقول إن المنتخب يملك مفاتيح السيطرة، لكنه يحتاج إلى مهارة أخرى أكثر قسوة: تحويل السيطرة إلى “قفل” يمنع الخصم من العودة، وتحويل الفرص إلى هامش أمان لا إلى مجرد “مؤشرات إيجابية”. الفرق الكبيرة لا تكتفي بأن تكون الأفضل؛ بل تمنع المباراة من أن تُعطي الخصم فرصة الإيمان.

مع نهاية الجولة الثانية من الدور الأول، يتضاعف ثقل هذه القراءة لأن المنتخب المستضيف لا يعيش البطولة مثل غيره.

ترتيب المجموعة لا يُقرأ عند الجمهور كمعادلة رياضية فقط، بل كاختبار لهيبة المرشح. والجمهور المغربي لا ينتظر التأهل وحسب، بل ينتظر أن يرى “نسخة حاسمة” من المنتخب، نسخة تستطيع الفوز حين تكون المباراة جميلة وحين لا تكون جميلة؛ حين تجد المساحات وحين تُغلق؛ حين تتقدم وحين تُجبَر على حماية التقدم دون أن تتحول الحماية إلى ارتباك.

أمام مالي بالتحديد طُرح السؤال بصيغته الصعبة: هل لدى المغرب القدرة على الانتصار بالواقعية حين لا يمنحك الخصم شروط الفرجة؟ هذا هو السؤال الذي يرافق المرشحين في كأس إفريقيا: ليس “هل سنفوز؟” بل “كيف سنفوز حين تصبح الطريق ضيقة؟”. وفي الأسبوع الأول، بدا أن المنتخب بدأ الجواب… لكنه لم يُكمله بعد.

تنافس تحت المطر

بعيدًا عن صخب الأهداف وجدالات الركلات والاختيارات التكتيكية، كان هناك اختبار آخر يشتغل بصمت لكنه لا يقلّ قسوة: اختبار الطقس.

أمطار متزامنة مع مباريات، وعبور جماهير، وحركة مدن تعيش على إيقاع توافدٍ غير معتاد… ومع ذلك ظلت المباريات تُلعب دون توقفات كبرى، وظلت الأرضيات صامدة بما يكفي كي لا تتحول التساقطات إلى “حدث داخل الحدث”.

في بطولة بهذا الحجم، المطر ليس مجرد حالة جوية؛ إنه امتحان للبنية التحتية ولمنطق الاستعداد كله، لأن أي انزلاق صغير—ملعب يتشبع بالماء، تمريرة تضلّ طريقها بسبب بركة، إصابة بسبب عشب فقد توازنه—يكفي كي ينقل النقاش من كرة القدم إلى سؤال التنظيم في لحظة واحدة.

ما يكتسب قيمة هنا هو بالضبط ما لا يظهر عادة على الشاشات: أن المباراة لا تتشوه بصريًا، وأن إيقاع اللعب لا يتحول إلى فوضى تقنية، وأن المدرجات لا تصبح مساحة ارتباك.

نجاح التنظيم في مثل هذه الظروف لا يُقاس بالتصفيق، بل بعدم الحاجة إلى الاعتذار. لذلك يُقال إن البطولات الكبرى تُربح أحيانًا بما “لم يقع”: لم تتعطل المباريات، لم يتحول المطر إلى أزمة في الممرات والمدرجات، ولم تصبح الطبيعة شماعة تُعلّق عليها كل هفوة. وحين تمر هذه اللحظات بلا ضجيج، فذلك يعني أن جزءًا كبيرًا من العمل سبقها: تصريف مياه فعال، عشب قادر على التنفس تحت الضغط، وتدبير لوجستي لا ينهار حين تتغير المعطيات فجأة.

لكن الدلالة الأعمق تتجاوز الجانب التقني الصرف. الأسبوع الأول قدّم المغرب في صورتين متوازيتين تسيران جنبًا إلى جنب: صورة منتخب بدأ قويًا ثم تلقى صفعة تنبيه، وصورة تنظيم يمرّ من الاختبارات الصامتة بثبات. وبين الصورتين علاقة مباشرة لا تخطئها عين: حين تكون البلد المستضيف، أنت لا تدافع عن نتيجة فقط، بل تدافع عن “وعد” كامل—وعد بأن كل شيء قابل للسيطرة: الكرة داخل الملعب، والحشود حوله، والظروف فوقه.

ومن هنا يأتي الأسبوع الثاني كأنه لحظة جواب مزدوجة. على المستطيل الأخضر، هل يتحول التعادل إلى يقظة تُنتج فريقًا أكثر حسمًا؟ وخارج المستطيل، هل يستمر التنظيم في تحويل أصعب العوامل إلى تفاصيل عابرة لا تسرق البطولة من معناها؟ لأن البطولة، في النهاية، ليست مباراة واحدة ولا مشهد افتتاح فقط؛ إنها قدرة متواصلة على ألا تسمح لأي عنصر—حتى المطر—أن يفرض سرديته على حساب السردية التي يريدها البلد المضيف.