انطلاقة (ناجحة) نحو الحلم
خرجنا من ليلة الافتتاح بابتسامة عريضة، والنتيجة جاءت كما يشتهي المغاربة: فوزٌ وشباك نظيفة وبداية تُطمئن؛ لكن إذا نزعنا عن المشهد زينة الضوء وطبول الفرجة، سنكتشف أن ما جرى في الرباط لم يكن “حفلا” ولا “مباراة” بالمعنى البسيط، بل اختبارا مكثّفا لثلاثة أشياء دفعة واحدة: قدرة المغرب على صناعة صورة تُقنع إفريقيا والعالم، وقدرة المنتخب على حمل ضغط الافتتاح دون أن يتكسر، وقدرة المدرجات على أن تكون اللاعب رقم 12 لا ديكورا.
هنا بالضبط تصبح التفاصيل أهم من العناوين: كرة في شكل فانوسٌ يُسلَّم (خلال حفل الافتتاح) من يد “سراج الضياء” إلى يد “نجم”، كي يقول إن الإرث لا يتعثر؛ ووليّ العهد، الأمير مولاي الحسن، حاضر كي يضع الاستمرارية في الصورة؛ وركلة جزاء ضائعة كي تذكّرنا أن الحلم لا يسير مستقيما… ثم فجوة صامتة في المدرجات تفتح سؤالا لا يقل صعوبة عن سؤال اللقب: كيف نربح الكأس إذا كان جمهورها الحقيقي يُباع خارج الشباك قبل أن يُشجّع داخل الملعب، فتجري المباراة بشبابيك مغلقة ومدرجات فارغة؟
في صباح هذا اليوم الموالي للافتتاح، الاثنين 22 دجنبر 2025، وبعد أن هدأ ضجيج الألعاب النارية وجفّت مدرجات الرباط من مطر الأحد، يمكن أن نقول ببرودة: المغرب دشّن “كان 2025” كما كان يجب أن يدشّنه: بلدٌ يدخل البطولة وهو يعرف أن كل خطوة تُصوَّر وتُقاس وتُقارن.
البرودة نفسها تُلزمنا بقاعدة بسيطة مفادها أن البداية الجميلة لا تعني أن الطريق صار مفروشا، بل تعني فقط أن الانطلاقة لم تتعثر، وأن ما بعدَها هو الامتحان الحقيقي.
لقد كان الافتتاح، الذي جرى تصميمه وهندسة فصوله بأذرع وعقول مغربية رغم المساهمة الدولية، رسالة قبل أن يكون فرجة. عبارة “إفريقيا قارتي، وهي أيضا بيتي” المقتبسة من خطاب الملك أمام قمة الاتحاد الإفريقي عام 2017، لم تمرّ كديكور على الشاشة، بل كعنوان سياسي-رمزي يضع الكرة داخل معنى أوسع. المغرب لا “يستضيف” فقط، بل يقدّم نفسه كفضاء جامع، ويطلب من القارة أن ترى نفسها في مرآة جديدة.
قصة الفانوس و”سراج الضياء” و”نجم” جاءت لتقول ما لا يُقال في البلاغات: الاستمرارية ليست خطبة، بل انتقال سلس للشعلة من ذاكرة إلى طاقة، ومن جيل إلى جيل. وحين حضر ولي العهد الأمير مولاي الحسن في قلب لحظة البداية، صار الرمز أكثر كثافة: الدولة نفسها تتكلم بلغة الحضور، لا بلغة الشعارات، وتضع فكرة انتقال الإرث في الصورة لا في الكلام.
بروفة التنظيم بدت متماسكة في المجمل: ضبط الزمن، تدبير الدخول، تحويل المدرجات إلى جزء من المشهد عبر الأساور الضوئية، وإخراج قادر على أن يُقنع المتفرج المحلي والدولي بأن المغرب يراكم خبرته بوعي، وبأنه يختبر نفسه الآن تحت ضغط يشبه ضغط 2030 أكثر مما يشبه ضغط بطولة قارية عادية. هذا النوع من التنظيم لا ينجح بالحظ، بل بالانضباط. وهو ما حدث إلى حد بعيد.
ثم جاءت المباراة لتضع المعنى على أرض الواقع: منتخب مضيف، تحت مطر وبأعصاب مضغوطة، أمام خصم متكتل ومنظم، وركلة جزاء تضيع في الدقائق الأولى كأنها تريد أن تذكّرنا بأن البطولة لا تعترف بالنوايا الحسنة.
مع ذلك، فاز المغرب بثنائية نظيفة. إبراهيم دياز فكّ القفل، وأيوب الكعبي أنهى النقاش بضربة مقصية ساحرة. هنا بالضبط تُقاس “الانطلاقة الناجحة”، ليس لأن كل شيء كان مثاليا، بل لأن الفريق صحّح مساره داخل المباراة، ورفع الإيقاع في الشوط الثاني، ولم يسمح للعثرات الصغيرة أن تتحول إلى هشاشة كبيرة.
هذا كله جميل. لكن الوفاء للموضوعية يفرض أن نلتقط الظلّ الذي كاد يُفسد الصورة، أو على الأقل يجرّحها: الجمهور.
وهنا يطلّ العطب الذي لا ينفع معه التجميل. المدرب وليد الركراكي بات يكرر الشكوى من ضعف المساندة الجماهيرية، وهذه ليست جملة عابرة في مؤتمر صحافي؛ إنها مؤشر على خلل في “الضغط” الذي يفترض أن يصنعه بلدٌ مضيف في بطولة على أرضه.
مباراة الافتتاح قدّمت الدليل البصري القاسي: مدرجات كبيرة، وحماس موجود، لكن مع مقاعد شاغرة تُقدَّر بحوالي تسعة آلاف مقعد. وهذا الرقم، مهما حاول البعض تصغيره، ليس تفصيلا عندما يكون الرهان هو أن يتحول الملعب إلى لاعب إضافي، فتجد نفسك في النهاية أمام 13 في المئة من المقاعد بدون جمهور.
المقلق أن المشكلة ليست “برودة جماهير” بقدر ما هي برودة تدبير. حين يسقط جزء معتبر من التذاكر في يد المتاجرين في السوق السوداء، يصبح الدخول امتيازا لا حقا، ويُقصى جمهور الكرة الحقيقي الذي يدفع بالصوت لا بالصورة، الذي يأتي ليُشجع لا ليلتقط “ستوري” يتبجّح به.
هكذا تصبح النتيجة معروفة سلفا: أسعار خارج المنطق، ومقاعد بلا قاعدين، ومدرجات تُرى أكثر مما تُسمع. وهنا يتحول خلل بيع التذاكر من مشكلة تنظيمية إلى عبء رياضي مباشر، لأن منتخبا يبحث عن اللقب يحتاج إلى جمهور يصنع الاندفاع، لا إلى فراغ يُذكّر اللاعبين بثقل الواجب بدل أن يحرّرهم منه.
نجحنا في الانطلاقة، نعم. وفي الصورة العامة، صحيح. لكن النجاح لا يُقاس بالمشهد الأول، بل بالقدرة على إصلاح ما يهدد المشهد الثاني. وإذا كان حفل الافتتاح قد روى حكاية انتقال الشعلة بين الأجيال بسلاسة، فإن الامتحان الآن هو أن نُنجز انتقالا آخر أكثر واقعية: من جمهور ممنوع بالتذاكر والسمسرة، إلى جمهور حاضر بحقّه الكامل، لأن المنتخب الذي يريد الكأس لا يحتاج فقط إلى دياز والكعبي وبونو…
بل يحتاج كذلك إلى مدرجات تفعل ما لم تفعله كل المؤثرات: أن ترفع الفريق حين يهبط الايقاع، وأن تخلق “الضوء” الحقيقي صوتا لا يُشترى في السوق السوداء.