الوجه الآخر للاقتصاد الكروي الإفريقي الذي يباع (أحيانا) تحت الطاولة
في مساء خريفي من شهر نونبر عام 2019، كان مقر الاتحاد الإفريقي لكرة القدم بالقاهرة يعيش وضعا أشبه بقنينة ضغط على وشك الانفجار.
داخل قاعة الاجتماعات المغلقة، كان النقاش محتدمًا وحادا بين أعضاء المكتب التنفيذي للمنظمة الكروية المثيرة للجدل، الملفات متناثرة على الطاولة، والوجوه متوترة. فجأة، أعلن الرئيس أحمد أحمد القرار الذي سيهزّ القارة الإفريقية بأكملها، وستكون له تداعيات على مستقبل الكاف وكرة القدم في القارة السمراء، وهو إلغاء العقد التاريخي مع شركة الفرنسية “لاكراديير” ، الوكيل الحصري لحقوق البث والرعاية حتى عام 2028.
لم يكن القرار مجرد حل حاسم لاختلالات عميقة في الصفقة، بل نقطة تحول فارقة فتحت صندوق أسرار عقود الرعاية في ال”كاف”. صندوق تغلب عليه التسريبات المثيرة عن صفقات مغلقة خلف الأبواب، ورشاوى محتملة، وضغوط سياسية واقتصادية، ومبالغ فلكية لم يعرف أحد على وجه الدقة أين وجهتها.
منذ مطلع الألفية الجديدة وحتى اليوم، مرّت عقود الرعاية هذه بمسار متقلب بدأ بهيمنة شركات الاتصالات، مرورًا بدخول شركات النفط، ووصولًا إلى احتكار الوكالات الفرنسية قبل أن ينفتح الباب أمام رعاة جدد من شركات المراهنات وشركات التكنولوجيا.
بين هذه المحطات المشوبة بالغموض والأسئلة، تكشف التفاصيل أن كرة القدم الإفريقية التي تعيش وضعا متخلفا على مستويات عدة، تحولت إلى ساحة للمساومات وصفقات النفوذ، وصراعات الأجنحة ومناطق البلدان 54 المكونة للاتحاد الإفريقي لكرة القدم.
الكاف في عهدة حياتو
ترك عيسى حياتو، الرئيس السابق للاتحاد الإفريقي لكرة القدم (الكاف)، الذي تولى قيادة المنظمة القارية لمدة 29 عامًا، بين 1988 و2017، إرثا متناقضا يجمع بين حصيلة جيدة لتطوير كرة القدم الإفريقية، وبين اختلالات الإدارة المالية والشفافية.
فخلال سنوات “حكمه”، توسعت البطولات الإفريقية وزادت عائداتها بشكل كبير، خاصة من حقوق البث والرعاية، لكن هذه المكاسب لم تتحول إلى استقرار مالي دائم للكاف، إذ كشفت مراجعات مالية وتقارير لاحقة عن مخالفات واضحة في إدارة الموارد والعقود.
أشار تقرير لشركة “برايس ووترهاوس كوبرز” الصادر عام 2019، إلى أن الكاف خلال عهد حياتو كان يفتقر إلى الشفافية في إدارة عقود الحقوق التجارية، ما ترك المنظمة عرضة للنقد والاتهامات بالفساد، خصوصًا في توقيع اتفاقيات طويلة الأمد مع شركات تجارية دون مناقصات مفتوحة، وهو ما دفع العديد من المراقبين إلى التشكيك في نزاهة العمليات التجارية للاتحاد.
في أعقاب انتخاب أحمد أحمد رئيسًا للكاف عام 2017، برزت عيوب الهيكلة المالية بشكل جلي. فقد صرح فوزي لقجع، رئيس الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم، بأن الوضع المالي للاتحاد لم يكن سليمًا، موضحًا أن الموارد المتاحة كانت مقتصرة على عوائد بطولات كأس الأمم الإفريقية ودوري أبطال إفريقيا، بينما بقيت الكثير من العقود والحقوق التجارية غير مُدبّرة بالشكل الأمثل.
أظهر هذا الواقع فجوة كبيرة بين الطموح الرياضي للكاف وبين الإدارة المالية، ما وضع الاتحاد في مواجهة مباشرة مع الهيئات الرقابية واللجان التنظيمية الإفريقية والدولية.
ومع استمرار التحقيقات، واجه حياتو اتهامات بالفساد، حيث فرض عليه الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا)، عقوبة إيقاف وغرامة مالية عام 2021 تتعلق بانتهاكات في توقيع الاتفاقيات التجارية للاتحاد. لكن هذه العقوبات ألغتها محكمة التحكيم الرياضي (طاس) في 2022، مما أثار تساؤلات واسعة حول نزاهة الإجراءات القانونية والرقابة المالية على الكاف.
يعكس هذا التناقض بين الاتهامات والعقوبات الملغاة مدى التعقيد الذي يكتنف إدارة الاتحاد الإفريقي لكرة القدم خلال فترة حياتو، ويُبرز الصعوبات التي تواجه أي تحقيق في ملفات الفساد المالي داخله.
وعلى الرغم من النجاحات التنظيمية، يظل إرث حياتو موضع جدل مستمر، إذ يجمع بين صورته كمعمّر للبطولات الإفريقية ومطور لها، وبين حقيقة أن الإدارة المالية خلال فترته، كانت هشّة وغياب الشفافية فيها أضر بمصداقية الكاف.
وضعت حالات الفساد، وإدارة العقود التجارية الطويلة دون منافسة نزيهة، الاتحاد في مواجهة مباشرة ومستمرة مع الأجهزة القضائية، وفرضت على المسيرين اللاحقين لما بعد فترة حياتو، مهمة شاقة لإعادة بناء الثقة والشفافية المالية.
يُظهر هذا الإرث المزدوج للكاميروني حياتو، أن تطوير كرة القدم الإفريقية لم يكن بتلك الصورة الوردية التي تم الترويج لها، خصوصا خلال فترات تألق المنتخبات الإفريقية عالميا، وقد اتضح ذلك في بعض المحاولات المتفرقة لإعادة تنظيم الكاف وإصلاحه ماليا، وظهر جليا أن ذلك لن يكون ممكنا دون مراجعة شاملة للسياسات الإدارية والمالية التي وضعت في عهد عيسى حياتو.
أحمد أحمد.. البديل الفاسد
منذ انتخابه رئيساً للكاف في عام 2017، بدا أحمد أحمد بمثابة القائد الجديد الذي سيُحدث تحولاً في مؤسسات كرة القدم الإفريقية. وقد استهل عهدَه بإطلاق خطاب إصلاح شامل، لكنه سرعان ما تحول إلى رئيس في قلب آلة فساد أكثر انتشارا من الفترة السابقة.
في صيف 2018، أُزيل الغطاء عن مفاجأة صادمة: صفقة شراء المعدات الرياضية لبطولة إفريقيا للمحليين “الشان” في المغرب، تمّ إلغاؤها لصالح عرض شركة فرنسية، رغم أن عرض منافس آخر كان أقل كلفة بكثير. كشف هذا التلاعب عن شبكة مصالح مشبوهة تربط رئيس الإتحاد الإفريقي بأطراف خارجية متعددة.
في قلب تلك الشبكة، برز اسم شركة فرنسية بعيدة عن عالم كرة القدم، ما أثار تساؤلات حول طبيعة العقد وفَوائِده المالية. تم التمويه على التحويلات المالية بعمليات موزعة بين بنوك إفريقيا ودبي وفرنسا. وكشفت التحقيقات أن المبالغ الضخمة التي تدفقت إلى تلك الوجهات، هي جزء من ترتيبات عمليات كبيرة للتهرب الضريبي.
وقد أُدين إثرها الرئيس أحمد أحمد بعدما أُبلغت الفيفا بأنه سمّح بتحويل 20,000 دولار إلى حسابات شخصية لرؤساء اتحادات أفريقية—تحت مسمى “هبات” غير مبررة. وفي عملية مشبوهة أخرى، نظم رحلة عمرة رمضانية إلى مكة المكرمة لـ15 من رؤساء الاتحادات المسلمين، على نفقة الكاف بتكلفة تجاوزت 100,000 دولار، وهو تمويل اعتبر مشبوها وخارج قواعد النزاهة.
وفي ملف آخر، أثيرت صفقة فساد أخرى تتعلق بشراء سيارات فاخرة. فقد كشفت التقارير عن شراء سيارات مرسيدس فاخرة لمكتب الكاف في مدغشقر، بمبالغ تجاوزت مئات الآلاف من الدولارات، دون توثيق رسمي أو موافقة من اللجنة التنفيذية للاتحاد.
يُضاف إلى ذلك سجل من الإنفاق غير المبرر على “مكاتب وهمية”، واستحواذ على ممتلكات فاخرة دون أية رقابة فعلية، بما في ذلك فيلا فاخرة تم إدخالها ضمن ممتلكاته في المغرب كهدية شخصية.
في يونيو 2019، تم توقيف أحمد أحمد في فندق بباريس من قبل الشرطة الفرنسية على خلفية مزاعم فساد وثّق التحقيق الميداني أنّها مرتبطة بعقود معدات مزيفة وعلاقات سرية، لكن أُطلق سراحه لاحقاً دون توجيه اتهامات رسمية.
وقع كل هذا الانفجار الفضائحي خلال فترة رئاسية أعلن فيها عن إصلاحات هيكلية على الكاف، من تغيير جدول كأس الأمم الإفريقية إلى إدخال تقنية الفار… لكن هذه الإصلاحات سرعان ما طرحت الأسئلة المشككة، وبدا أنه حتى المتحمسين ل”العهد” الجديد في الكاف، هم ضحايا ادعاءات إصلاح تبخّرت أمام تسونامي الفساد الجارف.
الكاف وصفقة MTN
أبرم الاتحاد الإفريقي لكرة القدم في أكتوبر 2004، عقد رعاية مع شركة MTN الجنوب إفريقية، بلغت قيمته 12.5 مليون دولار أمريكي، ليصبح بذلك أكبر عقد رعاية في تاريخ الرياضة الإفريقية آنذاك.
لم يكن هذا العقد مجرد اتفاق تجاري؛ بل كان بداية لمرحلة جديدة في تاريخ كرة القدم الإفريقية، حيث دخلت الشركات متعددة الجنسيات بقوة إلى الساحة الرياضية القارية.
شمل عقد MTN حقوق رعاية بطولات الكاف الكبرى، بما في ذلك كأس الأمم الإفريقية، ودوري أبطال إفريقيا، وكأس الاتحاد الإفريقي. كما تضمن العقد حقوق البث التلفزيوني والإعلانات على الملاعب، مما منح MTN ظهورًا واسعًا في القارة الإفريقية. وكان لهذا التوسع في الرعاية التجارية تأثير كبير على صورة البطولات الإفريقية، حيث أصبحت تحمل هوية الشركات الراعية بشكل واضح.
بعد انتهاء عقد MTN، دخلت شركة “أورنج” الفرنسية على الخط عام 2009، لتوقع عقدًا يمتد لثماني سنوات مع الكاف، قيمته غير معلنة. جعل هذا العقد بطولات الكاف تحمل اسم “Orange”، مما عزز من وجود الشركة في السوق الإفريقية، وتكريسا للنفوذ الفرنسي في القارة على حساب قواعد المنافسة الحقيقية.
ويُظهر تعميق البحث في هذه العقود، نمطًا من الصفقات التي تفتقر إلى الشفافية. فالمناقصات كانت شبه غائبة، والأرقام المالية غالبًا ما كانت تُعلن جزئيًا. كما أن بعض هذه الصفقات كانت ترتبط بعلاقات سياسية ودبلوماسية بين الحكومات الإفريقية وشركات الاتصالات متعددة الجنسيات.
وتشير شهادات بعض المسؤولين السابقين إلى أن التفاوض كان يتم خلف الكواليس، وأن أي منافس محتمل كان يُستبعد قبل أن يبدأ السباق.
اتضح بعد مدة أن عقود الرعاية بين الكاف وشركات الاتصالات الكبرى مثل MTN وOrange لم تكن مجرد اتفاقات تجارية واستثمارية عادية، بل كانت جزءًا من استراتيجية أوسع للهيمنة على المشهد الرياضي الإفريقي. كما أثّرت هذه الصفقات بشكل كبير على هوية البطولات الإفريقية، وجعلتها أكثر ارتباطًا بالشركات الراعية منها بالثقافة الرياضية القارية.
النفط يدخل المنافسة
في عام 2016، دخلت شركة النفط الفرنسية العملاقة “طوطال” عالم كرة القدم الإفريقية بقوة، عبر عقد رعاية يمتد حتى 2024، لتتحول بطولة الأمم الإفريقية إلى Total Africa Cup of Nations بدءًا من نسخة الغابون 2017.
ما بدا في البداية إنجازًا اقتصاديًا كبيرًا، كشف سريعًا عن أبعاد أكثر قتامة في صناعة الرياضة الإفريقية، حيث النفط ليس مجرد مورد بل أداة لتوسيع الاحتكار والسيطرة على السوق. الصفقة التي شملت عشر بطولات تحت مظلة الكاف كانت ضخمة جدا، لكن خبراء المنافسة في منطقة ال”كوميسا” لم يترددوا في وصفها بأنها “مخالفة صريحة لمبادئ الشفافية”، مع الإشارة إلى أن طول العقد وغياب المناقصة العامة منح شركة طوطال موقعًا احتكاريًا شبه حصري.
لم يترك العقد، وفق مصادر متعددة، مجالًا لأي منافس آخر، إذ تضمن بندًا غامضًا يمنح الشركة “الأولوية في الرفض” عند تجديد الرعاية، ما يعزز قبضتها على السوق ويجعل من الصعب على أي لاعب جديد الدخول إلى فضاء التسويق الرياضي الإفريقي.
ورغم التحذيرات التي وجهتها لجان المنافسة والهيئات الرقابية، مضى الكاف في الصفقة مدفوعًا بمغريات أموال النفط، متعاملًا مع الملاحظات وكأنها هامشية وغير جوهرية، مما أثقل الكاف بالمزيد من الشبهات حول النزاهة والشفافية.
من الناحية المالية، كانت الأرقام ضخمة بشكل استثنائي: ما بين 15 و20 مليون دولار لكل نسخة من البطولة، إضافة إلى امتيازات دعائية تشمل الإعلانات عبر شاشات الملاعب والوصلات التسويقية الموجهة للجماهير، دون نظام واضح لتوزيع العوائد على الاتحادات الوطنية المشاركة.
أثار هذا الغياب الواضح للشفافية شكاوى مستمرة من دول أقل ثراءً وأندية متوسطة، شعرت أنها تُهمّش أمام مصالح الشركات الكبرى والدول التي تستفيد أكثر من هذه الصفقات، ما خلق فجوة متنامية بين أندية الصفوة والأندية المحلية.
ومع مرور السنوات، لم يقتصر تأثير الصفقة على المال فقط، بل امتد إلى الهيمنة على السوق بأكمله، حيث جددت “طوطال” عقدها لاحقًا لتصبح الراعي الرئيسي حتى 2028، مؤكدة سيطرتها المستمرة على المشهد الكروي الإفريقي حاليا.
لم تكن هذه السيطرة مجرد رعاية، بل تمثل استراتيجية أوسع لتوسيع النفوذ التجاري للنفط في رياضات القارة، وتحويل كرة القدم إلى ملعب لمصالح الشركات الكبرى، على حساب القيم السامية للرياضة وتنافسها الشريف.
فضيحة لاغارديير
في واحدة من أكثر القضايا الرياضية إثارة للجدل في القارة السمراء، فجّرت أوراق قضية احتكار حقوق بث البطولات الإفريقية، التي تورط فيها الكاميروني عيسى حياتو، الرئيس السابق للاتحاد الإفريقي لكرة القدم “كاف”، ومعه السكرتير العام المغربي هشام العمراني، سلسلة من المفاجآت التي تكشف كيف تم تسليم سوق البث الرياضي الإفريقي لشركة فرنسية واحدة مقابل مليار دولار، متجاهلين عروضًا مالية أعلى، وضاربين بقوانين المنافسة عرض الحائط.
بدأت القصة عام 2015 حين وقّع حياتو مذكرة تفاهم مع شركة “لاغارديير سبورت” الفرنسية، مُمهّدًا الطريق لاتفاقية تمنحها حقوق البث الحصري لبطولات الاتحاد الإفريقي من عام 2017 حتى 2028 مقابل مليار دولار فقط.
في المقابل، تقدّمت شركة “بريزنتيشن” المصرية بعدة عروض رسمية لشراء نفس الحقوق بقيمة مليار ومائتي مليون دولار كحد أدنى، مع التزام بدفع مئة مليون دولار مقدمًا، حتى لو باعت الحقوق بخسارة.
ورغم تفوق العرض المصري ماليًا وضماناته الأكبر، تم تجاهله تمامًا، ووجّه الاتحاد الشركة إلى التواصل مع لاغارديير نفسها، في خطوة وصفت لاحقًا بأنها “تواطؤ مقصود” لخنق المنافسة.
دخل جهاز حماية المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية في مصر على الخط مبكرًا، حيث وجّه رسائل رسمية لل”كاف”، طالب فيها بطرح الحقوق عبر مزايدة علنية شفافة، تضمن تكافؤ الفرص بين جميع الشركات الإعلامية.
لكن في شتنبر 2016، فوجئ الجهاز بإعلان الاتحاد الإفريقي تجديد عقده مع “لاغراديير” دون أي مزايدة أو مراجعة قانونية، ما دفع الجهاز إلى تقديم بلاغ عاجل للنائب العام ضد حياتو والعمراني، متهمًا إياهما بارتكاب مخالفات جسيمة لقانون حماية المنافسة، وخاصة المادة الثامنة.
كشفت التحقيقات أن مسؤولي “الكاف” تجاهلوا عمدًا عروض شركات أخرى، وفضّلوا بيع حقوق البث مجتمعة لشركة واحدة تتحكم في السوق الإفريقي بأكمله، مانعين أي تقسيم جغرافي للحقوق يتيح للمستثمرين المحليين دخول المنافسة.
نتيجة لهذا الاحتكار، حُرم ملايين المشاهدين في مصر وباقي الدول الإفريقية من متابعة بطولات قارية أساسية في ظل أسعار اشتراكات باهظة فرضتها الشركة الفرنسية.
لم تتوقف القضية عند حد المخالفات الإدارية، بل وصلت إلى ساحات القضاء. فقد أصدرت محكمة القاهرة الاقتصادية حكمًا تاريخيًا بتغريم حياتو والعمراني 200 مليون جنيه لكل منهما، وألزمت الكاف بدفع الغرامة بالتضامن.
وفي حيثيات الحكم، أكدت المحكمة أن منح حقوق بث حصرية لمدة 12 عامًا متصلة يمثل انتهاكًا صريحًا لقوانين المنافسة، ويخلق “وضعًا مسيطرًا” يحرم السوق من أي منافسة حقيقية، بل ويكرّس تبعية البث الرياضي الإفريقي لشركة واحدة فقط.
المثير أن المقارنة مع الاتحاد الأوروبي كشفت تناقضًا صارخًا: فبينما تقسم اتحادات أوروبا حقوق البث بين أكثر من منافس، ما يضمن شفافية وعدالة في التوزيع، أصرّ الكاف على احتكار السوق الإفريقي لصالح لاجاردير.
كانت النتيجة إضعاف المنافسة، وخروج مستثمرين محليين محتملين من السباق، وإغلاق باب العروض التنافسية المستقبلية حتى عام 2028.
شركات المراهنات
عندما قرر الاتحاد الإفريقي لكرة القدم (الكاف) فسخ عقده التاريخي مع شركة لاغاردير الفرنسية عام 2019، كان الهدف المعلن هو “تحرير السوق” وفتح المجال أمام مزايدات أكثر شفافية. لكن النتيجة كانت عكس ذلك تمامًا.
اضطر الكاف لاحقًا إلى دفع نحو 50 مليون دولار تسويةً مع الشركة بعد نزاعات قانونية طويلة، ما ترك فجوة مالية ضخمة دفعت الإدارة الحالية إلى البحث عن ممولين جدد بأي ثمن، حتى وإن جاء المال من أبواب مثيرة للجدل.
في هذه الأجواء، برز اسم شركة 1xBet، إحدى أضخم شركات المراهنات في العالم، كشريك رسمي لبطولات الكاف الكبرى، من دوري أبطال إفريقيا إلى كأس الأمم. لكن ما يبدو للوهلة الأولى صفقة رعاية عادية، يخفي وراءه شبكة معقدة من شبهات الفساد والتهرب القانوني.
تحقيقات نشرتها صنداي تايمز البريطانية عام 2019 كشفت أن 1xBet فقدت ترخيصها للعمل في المملكة المتحدة بعد اتهامات بالترويج لمواقع غير قانونية، وبث مواد “غير آمنة” تضمنت مراهنات على مباريات رياضية لقاصرين.
سارعت أندية إنجليزية كبرى مثل ليفربول وتشيلسي حينها إلى قطع العلاقات مع الشركة. ورغم ذلك، أصبحت الشركة نفسها اليوم “راعياً رئيسياً” للكاف، في واحدة من أكثر الصفقات إثارة للجدل في كرة القدم الإفريقية.
لكن القصة لا تتوقف هنا. تحقيقات استقصائية مشتركة لـ Bellingcat وJosimar جرت عام 2023، كشفت أن 1xBet تورطت في إنشاء ما يشبه “مزارع مراهنات” تبث مئات الآلاف من المباريات الوهمية، بعضها بمشاركة أطفال لا تتجاوز أعمارهم 14 عامًا، بهدف خلق محتوى رهاني رخيص وعالي العوائد.
طرحت هذه العقود المالية نفس السؤال المعتاد: هل قام الكاف بأي تدقيق مالي أو قانوني قبل التوقيع مع 1xBet؟ وهل تم التحقيق في مصادر أموال الشركة أو طبيعة نشاطها؟
لا تُظهر الوثائق المتاحة للعموم أية عملية شفافية حقيقية. بل إن العقود نفسها تتضمن بنود تمديد تلقائي تتيح استمرار الشراكة لسنوات، دون الحاجة لإعادة التفاوض أو الكشف عن تفاصيل هذه العائدات المالية.
ما كان يحدث في إفريقيا، يعاكس تماما ما يجري في قارات أخرى. ففي إنجلترا، كانت أندية الدوري الممتاز قد قررت حظر وضع شعارات شركات المراهنات على قمصان اللاعبين ابتداءً من موسم 2026/2027، بعد ضغوط قوية من جمعيات حماية المستهلك والهيئات الرقابية.
وفي باقي أوروبا، بدأت الحكومات تفرض قيودًا مشدّدة على رعاية المراهنات، بسبب مخاوف تتعلق بالتلاعب بنتائج المباريات والتأثير على فئات القاصرين. وأشارت الكثير من التحقيقات الاستقصائية إلى أن العقود مع هذه النوعية من الشركات، غالبا ما يشوبه تضارب المصالح، وغياب الشفافية، ويفتح الباب أمام شركات تواجه اتهامات بغسل الأموال والتحايل القانوني لتصبح شريكًا رسميًا في أكبر بطولات القارة.
عقوبات وملاحقات
تتراكم في مكاتب المقر الرئيسي للكاف بالقاهرة، الملفات القضائية الثقيلة حول نزاعات حقوق البث أو الغرامات. فمنذ عام 2017، أحيلت صفقة حقوق البث الطويلة الأمد إلى القضاء المصري، وسط اتهامات بإسنادها دون مناقصة مفتوحة. ومنها بدأت كرة الثلج تتدحرج، كاشفة عن شبكة معقدة من العلاقات المالية والعقود الحصرية التي تُقدَّر قيمتها بنحو مليار دولار. الصفقة التي كان يُفترض أن تضمن استقرارًا ماليًا للكاف، تحولت سريعًا إلى شرارة أزمة قانونية أطاحت بالثقة في آليات اتخاذ القرار داخل المؤسسة.
وفي عام 2018 جاءت الضربة الثانية: غرامات مالية باهظة فرضتها المحاكم الاقتصادية المصرية على شبكة رياضية كبرى ورئيسها التنفيذي، بدعوى ممارسات احتكارية تتعلق بحصرية توزيع المباريات وشروط الاشتراك.
ورغم أن الشركة المتضررة أعلنت الطعن في تلك القرارات، فإن الصراع فتح الباب أمام مساءلة علنية عن الطريقة التي تُدار بها حقوق البث الإفريقية، لتصبح القضية دولية بامتياز، تتشابك فيها اللوائح الإقليمية مع مصالح الشركات العملاقة، وتتصاعد الضغوط على الكاف من كل جانب.
لكن القصة لم تتوقف هنا، فقد تدخلت لاحقًا هيئات المنافسة الإقليمية لتكشف خللاً أعمق في هيكل التعاقدات داخل الكاف، مؤكدة أن منح حقوق بث البطولات تم في ظروف غير شفافة وبشروط احتكارية صريحة، ما أجبر الاتحاد على تعديل سياساته والالتزام بعدم منح أي حقوق مستقبلية لفترات تتجاوز أربع سنوات أو على أساس حصري مطلق.
رغم هذه القرارات، لم يكن الكاف قادرًا على إصلاح صورته سريعًا، إذ وجدت الإدارة نفسها في مواجهة أزمة داخلية أخرى لا تقل خطورة: تسريبات لتقارير تشير إلى تلاعب إداري وتراخ في آليات المراجعة المالية، بل واتهامات بتسويات سرية أُبرمت بعيدًا عن أعين اللجان الرقابية.
وفي عام 2024 انفجرت القنبلة الأكبر مع فتح تحقيق داخلي في ممارسات الأمانة العامة للاتحاد، شمل استجواب مسؤولين بارزين على خلفية شبهات فساد إداري ومالي. ورغم أن المسارات القانونية الخارجية أغلقت في 2025 دون ملاحقات جنائية، فإن التحقيقات الداخلية لم تُحسم بعد، لتترك المؤسسة في حالة ترقب دائم وتوتر داخلي مستمر.
ما زاد الطين بلة، هو كشف لجنة التدقيق والامتثال عن فجوات مالية بلغت أكثر من 16 مليون دولار في حسابات 2022/2023، وهو رقم يفوق ما أُعلن رسميًا بكثير، ما أثار الشكوك حول مصير العوائد وأسلوب توزيعها بين الأندية والاتحادات والبلدان المضيفة.
اليوم، يجد الكاف نفسه في مواجهة جهاز بيروقراطي غارق في النزاعات القانونية والغرامات المالية. وبينما تدعو معايير الحكامة الدولية إلى الشفافية والإفصاح الدوري وفتح العقود للمنافسة العادلة، تكشف الوقائع أن الوضع مختلف تمامًا. عقود طويلة الأجل، وغياب بيانات مالية منشورة، وتراجع ثقة الجماهير والمؤسسات في قدرة الاتحاد على إدارة شؤون كرة القدم في القارة بنزاهة.
تبدو “الكاف” اليوم تحت ضغوطات الصورة غير النظيفة التي صنعتها حولها. فهي تجلس بين خياري كسر الحلقة المغلقة لعقود الامتياز الحصري، واعتماد سياسات شفافة قائمة على المزايدات المفتوحة والتقارير المالية الدورية، أو الاستمرار في دوامة الشبهات والغرامات والتحقيقات التي تلتهم شرعية المؤسسة وتترك كرة القدم الإفريقية عالقة بين انتظارات الجماهير الرياضية ومصالح الشركات.
عقود جديدة بدون شفافية
أبرم الاتحاد الإفريقي لكرة القدم “الكاف” في السنوات الأخيرة، سلسلة من عقود الرعاية والشراكات مع شركات ومؤسسات عالمية، تهدف إلى تعزيز موارده المالية وتوسيع نطاق تأثيره.
من بين هذه الشراكات البارزة: عقد شركة “توتال إنيرجي”، التي جددت شراكتها مع الكاف لتصبح الراعي الرسمي لبطولات الكاف حتى عام 2028، بقيمة تصل إلى 1.125 مليار دولار.
كما دخلت شركة “يونيليفر” في اتفاقية رعاية لبطولات كأس الأمم الإفريقية للرجال والسيدات لعامي 2023 و2024. وشركة “تيكنو”، التي أصبحت الشريك الرسمي لهاتف ذكي لبطولات كأس الأمم الإفريقية 2025 و2027.
ثم شركة “ميديا” الصينية، التي توسعت في محفظتها الرياضية عبر شراكة مع الكاف لبطولة 2025. وشركة “دانون” الفرنسية، التي دخلت في اتفاقية رعاية لبطولات كأس الأمم الإفريقية للرجال والسيدات، فشركة “إكسبو 2020 دبي”، التي تعاونت مع الكاف لتنظيم فعاليات رياضية وثقافية مشتركة.
كما نجد شركة الخطوط الملكية المغربية، التي أصبحت الشريك العالمي الرسمي للكاف في أبرز البطولات الإفريقية، وشركة “أديداس”، التي جددت شراكتها مع الكاف لتصبح المورد الرسمي للمعدات الرياضية للمنتخبات الوطنية الإفريقية. وشركة “تويوتا”، التي أصبحت الراعي الرسمي للسيارات خلال بطولات الكاف.
هناك أيضا شركة اتصالات المغرب، التي دخلت في اتفاقية شراكة استراتيجية مع الكاف لتوفير خدمات الاتصالات خلال البطولات التي تُقام في المغرب، وشركة الطيران الإثيوبية، التي أصبحت الناقل الرسمي للفرق والمشاركين خلال البطولات في إثيوبيا، ثم شركة المياه المعدنية المغربية “سيدي علي”، التي دخلت في اتفاقية رعاية مع الكاف لتكون المورد الرسمي للمياه خلال جميع البطولات، وشركة التأمين الإفريقية، التي أصبحت الشريك الرسمي للتأمين خلال بطولات الكاف. وآخر هذه العقود، اتفاقية الكاف مع المكتب الوطني للسكك الحديدية من أجل ضمان نقل المشجعين خلال بطولة أمم إفريقيا بالمغرب.
مع ذلك، تثير هذه العقود العديد من التساؤلات حول الشفافية، وآليات الرقابة والممارسات التجارية القانونية. فعلى الرغم من الأرقام الكبيرة التي يتم الإعلان عنها، إلا أن التفاصيل المالية للعقود غالبًا ما تكون غامضة، وعدم نشر هذه التفاصيل يضع الشراكات تحت علامة استفهام فيما يخص الشفافية في تحديد قيمة الرعاية وكيفية توزيع العوائد على مشاريع تطوير الكرة الإفريقية.
يواجه الكاف إذن، تحديات كبيرة فيما يتعلق بسلامة عقود الرعاية والشراكات. وعدم نشر التفاصيل المالية للعقود وعدم وضوح آليات توزيع العائدات على الشق الرياضي، يثيران تساؤلات مستمرة حول كيفية إدارة هذه العلاقات التجارية، ويضع المنظمة الكروية الإفريقية دائما في مرمى المشككين في مصداقية أنشطتها ومسابقاتها وجوائزه.