رسائل حفل افتتاح “كان” المغرب 2025.. حين أطفأت الرباط الضوء لتشعل إفريقيا
لم يكن المطر الذي بلّل الرباط مساء هذا الأحد 21 دجنبر 2025 سوى ستارة إضافية لعرض أراد أن يبدأ من “العدم”: ظلامٌ دامس يهبط على مركّب الأمير مولاي عبد الله، وصمتٌ يضغط على آلاف الحناجر، كأن الملعب يختبر نفسه قبل أن يطلق أول ومضة
في تمام لحظة محسوبة بالثواني، بدا مركّب الأمير مولاي عبد الله كأنه يبتلع ضجيجه بنفسه: ظلامٌ دامس، وصمتٌ مهيب، ومدرّجاتٌ تُمسك أنفاسها قبل أن تُطلقها دفعة واحدة.
لم يكن هذا افتتاح بطولة فقط؛ كان بداية سردية أرادت أن تقول للمُشاهدين داخل الملعب وخارجه: هنا المغرب، “مملكة الضياء”. وهنا إفريقيا التي تُعيد تعريف نفسها عبر كرة القدم.
على الشاشات العملاقة ارتسمت صورة الملك محمد السادس، ثم انطلق شريط مقتطف من خطاب سابقو ألقاه ذات عودة إلي الاتحاد الإفريقي في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، خلال القمة 28 للاتحاد، عنوان “إفريقيا قارتي، وهي أيضا بيتي”.
جملة قصيرة، لكنّها كانت مفتاح القراءة لكل ما تلاها: ضوءٌ يخرج من السياسة إلى الثقافة، ومن الرمزية إلى الفرجة، ومن الملعب إلى القارة.
افتتاحٌ صُمّم ليُرى مرتين
المرّة الأولى: بعين المتفرّج الذي يلاحق الألوان والطبول والألعاب النارية.
والمرّة الثانية: بعين من يريد أن يفهم “لماذا هكذا؟” وما الذي أراده الإخراج من هذه الحكاية التي تبدأ بالفانوس وتنتهي بالخريطة الذهبية لإفريقيا.
اختار المنظّمون عنوانا داخليا يكاد يكون بيانا: “ضياء الرياضة”. والضياء هنا ليس إضاءة تقنية فحسب، بل فكرة ناظمة: كرة القدم كضوء جامع، والمغرب كبوابة تُضيء الطريق.
قبل أن يبدأ العرض، كانت قصة التنظيم تُكتب في ممرات الملعب وخارج بواباته. وفق بلاغات التنظيم، فُتحت الأبواب منذ الساعة الثانية ظهرا لتفادي الاختناق وضمان دخول سلس، فيما ضُبطت لحظة انطلاق الافتتاح في 18:30، قبل مباراة الافتتاح التي حُددت في 20:00 بين المغرب وجزر القمر.
هذه التفاصيل الباردة في ظاهرها (فتح الأبواب/ساعة الانطلاق) كانت جزءا من “كواليس المعنى”: الجمهور لم يكن مجرد مُشاهد، بل عنصرا في السينوغرافيا—وسيظهر ذلك لاحقا حين ستشتغل أساور أضواء الـLED في المدرجات كأنها نبضٌ كهربائيٌّ واحد.
“مملكة الضياء”… كيف صُنعت الحكاية؟
انطلق العدّ التنازلي لانطلاق فعاليات الحفل بالأبيض والأسود. اختيار الأبيض والأسود لم يكن زينة جمالية فقط. كان بمثابة “تصفير” للذاكرة البصرية: محوٌ مؤقّت للألوان كي يأتي الضوء لاحقا كاكتشاف. ثم تأتي القصيدة/الترتيل الذي يفتح الباب لشخصية محورية: “سراج الضياء”، الحارس، والدليل، وحامل التقاليد.
في هذا المشهد، لا يظهر “سراج الضياء” بصفته فردا، بل كأيقونة: كهلٌ يخرج من ينابيع الحكمة والخبرة، ويمسك الفانوس لا لأنّه الأقوى جسدا، بل لأنّه الأقوى ذاكرة.
الفكرة الأكثر ذكاء في هذا البناء الرمزي كانت تحويل جغرافيا التنظيم إلى سرد بصري. المدن المستضيفة الست تُستدعى عبر مضلّعات سداسية تنسجها أشعة الفانوس، لتُذكّر المُشاهد بأن البطولة ليست “مدينة واحدة” بل بلدٌ كامل يفتح أبوابه. وبهذا المعنى، كان ربط المدن بالضوء استعارة مباشرة لربط إفريقيا بكرة القدم.
والواقع أن البطولة موزّعة فعلا على ست مدن، وتمتد على تسعة ملاعب.
توريثٌ مُصمَّم على الخشبة
هنا ينتقل العرض من “إعلان الفكرة” إلى “تمثيلها” من خلال شخصيتين أساسيتين:
• سراج الضياء: رمز الإرث، والوقار، والحكمة… الرجل الذي يبدأ ولا ينتهي.
• نجم: شرارة الشباب، يجسّدها لاعبٌ معاصر، كلّه طاقةٌ وابتكار، وملامح “المغرب القادم”.
اللحظة الفاصلة هي لحظة التسليم.. تسليم الكرة/الفانوس من يد الكهل إلى يد الشاب. وهي ليست مجرّد حركة مسرحية؛ بل ترجمة لفكرة دولة تُعلن أن بناء المستقبل لا يكتمل إلا بتسلّم الجيل الجديد للشعلة.
من الناحية الإخراجية، هذه اللحظة كانت أيضا “قفلا” على مستوى الضوء: ما إن يرفع “نجم” الكرة المتوهجة التي تسلّمها من سراج الضياء، حتى ينفجر الملعب في بياض قاطع—وكأن الإضاءة تقول: الآن يبدأ الزمن الجديد.
لو كان هذا العرض مسألة تقنيات فقط لكان شبيها بعشرات حفلات الافتتاح حول العالم. لكنه استخدم التكنولوجيا بوصفها لغة دلالية:
• أكثر من 170 لوحة LED تتفاعل مع الإيقاع والحركة لتصنع “موجات” ضوئية.
• أساور LED للجمهور بتقنية RFID: هنا خرج الجمهور من خانة التفرّج إلى خانة “التمثيل”. حين تُضاء المدرجات بقرار واحد، يصبح الجمهور كتلة واحدة، وهو لبّ الرسالة: الوحدة ليست شعارا، بل صورة تُرى.
• مصابيح علوية (12 مصدرا) ترسم أشعة في السماء، رقمٌ سيعود لاحقا مع “حراس الضياء” الاثني عشر في مشهد “We Are Different”.
هذه ليست مصادفات تصميمية؛ إنها بنية تكرار: الرقم نفسه ينتقل من الضوء إلى الأشخاص إلى الفكرة.
“مصدر الضياء”.. المغرب يحكي نفسه
في هذا المشهد، يبدأ الملعب من الصفر. ظلام، ثم ضوءٌ أول يخرج من كرة متوهجة تجمع رمزين في شكل واحد: فانوس مغربي/كرة قدم.
بهذا الدمج البسيط، يضع العرض تعريفه الخاص: كرة القدم ليست دخيلة على الثقافة، بل تتحول إلى قطعة من تراثها.
هنا يظهر الاختيار السردي الأكثر شاعرية: صوت شابة لا ترى بل تسمع. صوتٌ يعلّق على الرحلة. هذا التفصيل يبدّل زاوية المشاهدة: نحن لا نتفرّج بأعيننا فقط؛ نحن “نسمع” المغرب.
وتنتقل الرحلة عبر أربعة عوالم مختلفة:
• الصحراء بذهب كهرماني وقوافل وظلال سراب.
• الأطلس بلونه الترابي وحركات تلتقط صدى الألحان الأمازيغية.
• المدن بأزرق “ماجوريل” وومض الأسواق والفوانيس.
• السواحل بأخضر فيروزي وحركة مد وجزر.
هنا تشتغل “خريطة الملعب” كلوحة حيّة: الأرضية تصبح جغرافيا، والراقصون يتحولون إلى “علامات مكانية”، والشاشات تُكمل ما تعجز عنه الخشبة.
حين يرتفع الفانوس عاليا، يظهر اللونان: الأحمر والأخضر. خريطة رقمية للمغرب تتلألأ، وألعاب نارية تمتزج بإضاءات الـLED وحركة الراقصين. الرسالة كانت واضحة: هذا احتفال وطني—لكنّه أيضا تقديم “هوية” بلد مضيف.
بعد التقاط الأنفاس، يخرج نداءٌ إفريقي، وتنهض الإيقاعات، وتعود الشاشة الدائرية العملاقة في السقف إلى الحياة. الكرة المتوهجة ترتفع، ثم تتشعّب إلى اثني عشر شعاعا يتجه كل واحد منها نحو شخصية من “حراس الضياء”.
هنا يتجسد شعار البطولة: We Are Different. لا يقول: “نحن متشابهون”، بل يقول: “اختلافنا هو طاقتنا”، ثم يحوّل ذلك إلى لوحة ألوان.
وفي قلب هذه الذروة، جاءت فقرة “Le Show” التي تصدّرها نجوم عالميون هم: فرانش مونتانا، ودافيدو، وريدوان.
والمعنى هنا متنوّع:
• فرنش مونتانا: جسر المهجر والهوية المغربية/الإفريقية.
• دافيدو: صوت ال”أفروبيتس” كمنتج ثقافي أفريقي عالمي.
• ريدوان: “العقل الإنتاجي” الذي يذكّر بأن إفريقيا ليست صوتا فقط، بل صناعة أيضا.
في الذروة، تتحول الأرضية إلى خريطة متوهجة لإفريقيا. يقف “نجم” في الوسط بزي ذهبي، وقد اكتمل تحوّله من رمز للمغرب إلى قائد رمزي لمستقبل القارة. ثم تأتي الدائرة التي شكّلها 24 لاعبا شابا، كل منهم يحمل كرة ذهبية باسم بلده، لتكتمل صورة “القارة الواحدة” داخل الملعب.
هذه اللقطة، الدائرة حول الكأس، ليست مجرد ترتيب جميل؛ إنها أقدم أشكال المعنى في الثقافة البشرية: الحلقة التي تمنح الانتماء، وتساوي بين الواقفين، وتؤسس لشعور “نحن”.
الوحدة حين تصبح لحنا
بعد تلاشي الذهب، يدخل الصوت: الأغنية الرسمية. وتظهر ثلاثة أصوات: أنجيليك كيدجو وجيلان ولارتيست، بوصفها تشكيلة تمثل شمال وغرب ووسط القارة في لقاء واحد.
في هذه الخاتمة، يشتغل الجمهور مرة أخرى كجزء من العرض: أساور مضيئة، ومدرجات تغني، وصورة تقول إن “النهضة” ليست خطابا سياسيا فقط، بل شعورا جمعيا يمكن أن يُبثّ في ثلاث دقائق موسيقى.
يقدّم هذا الافتتاح المغرب باعتباره بلدا “يتدرّب” على أكبر من بطولة. إنه امتحان صورة وقدرة تنظيم. تقارير دولية ربطت “كان 2025” بكونه محطة اختبار قبل مونديال 2030، وباستثمارات بنيوية كبيرة، وبسعي واضح لتكريس الرياضة كأداة “قوة ناعمة”.
مع انطفاء آخر الومضات الذهبية، وذوبان خريطة إفريقيا في إيقاع الأغنية الرسمية للدورة، بدا كأن العرض يسلّم المشعل بدوره: من الخشبة إلى المستطيل الأخضر، ومن “الرمز” إلى “اللعب”.
ما جرى في الافتتاح لم يكن استعراضا للزينة بقدر ما كان تمرينا على المعنى، ودرسا بصريا في أن الوحدة يمكن أن تُرى وتُسمع وتُحسّ، لا أن تُرفع شعارا فقط.
هكذا، أنهى المغرب ليلته الأولى كما بدأها: بالضياء. ضياءٌ يُشبه الفانوس الذي مرّ من يد “سراج الضياء” إلى يد “نجم”، لكنه في الحقيقة مرّ إلى يد البطولة نفسها: بطولة تدخل الآن زمن المنافسة، بعدما كُتبت مقدمتها على إيقاع “نحن مختلفون… ونلعب كواحد”.
ومن هنا، تبدأ الحكاية الثانية: حكاية الكرة حين تتحرّر من المجاز، وتختبر على العشب صدق كل ما وعد به الضوء.