حلم 2030 الذي نستحق
غالبا ما تلوح سنة 2030 في الخطاب العام من زاوية واحدة، تتعلّق بتنظيم كأس العالم لكرة القدم وما يرافقه من ملاعب وطرقات وفنادق. لا بأس في ذلك، فالبلد يحتاج إلى أحلام جماعية ترفع المعنويات وتحرّك الاقتصاد. لكن هناك “مونديال” آخر أقل ضجيجا، وأكثر مصيرية، هو تعميم التعليم الأولي. والمطمئن في القصة أننا نمضي نحو الفوز به عن استحقاق.
أطفال اليوم في التعليم الأولي سيكونون تلاميذ الإعدادي في 2030، ثم شبابا يتحسسون سوق الشغل بعد ذلك بسنوات قليلة. والطريقة التي نستثمر بها في أقسامهم اليوم ستحدد، إلى حد بعيد، نوع المواطنين الذين سنصوّت معهم، ونتقاسم معهم الشارع والعمل والفضاء العام في الغد.
وبينما اعتدنا ربط كلمة “الأوراش الكبرى” بالطرق السيّارة والموانئ والملاعب، يمرّ أحيانا خبر يبدو عاديا، كمثل ما أعلنته مؤسسة نور الديتن بوطيب أمس، في زحمة الأحداث، لكنه في الحقيقة يختزن ما هو أهمّ وأبقى من كل الإسمنت والحديد. يتعلّق الأمر بأكثر من 24 ألفا من الأقسام، وأزيد من 400 ألف طفل مستفيد، وما يفوق 24 ألف مربية ومربّ، تشرف عليهم شبكة تضم 793 مشرفا تربويا.
ما يقوم به المغرب في هذا المجال ليس مجرّد توسيع “عرض مدرسي” لفئة 4–5 سنوات؛ بل نحن أمام نموذج مغربي خاص في طريقة الوصول إلى الطفل الذي يعيش في أقصى الهامش، في قرية أو دوار جبلي، وتحويل حقه في التعليم الأولي من شعار إلى تجربة ملموسة، أي قسم نظيف، وفضاء ملائم، ومعلّمة تتحدّر، غالبا، من نفس القرية، وتتحدث لغته الأم ولهجة أسرته، وتعرف وجوه أمهاته وجدّاته وأسماء جيرانه. هذا الكسر الهادئ للمنطق الإداري الكلاسيكي، الذي يرسل المعلّم من أقصى البلاد إلى أدناها، ليس تفصيلا ثانويا، بل هو قلب الابتكار.
والنتيجة واضحة: أطفال التعليم الأولي أقل عرضة للتسرّب وتكرار السنة، ويحققون نتائج أفضل في القراءة والحساب والسلوك مقارنة بمن يلتحقون بالمدرسة بدون هذا القنطرة التمهيدية. هذه حقيقة يؤكدها العلم، وما يجري في هذه الأقسام الصغيرة ليس رفاهية تربوية، بل استثمار من بين الأعلى مردودية في أي سياسة عمومية.
تقارير اليونيسف والبنك الدولي تكاد تجزم بأن الطفل الذي يستفيد من سنة واحدة على الأقل من تعليم أولي جيّد، أقل عرضة بكثير للانقطاع عن الدراسة أو تكرار المستوى، وأكثر حظا في امتلاك المهارات الأساسية في القراءة والحساب والتعبير، بما يرافق ذلك من أثر على دخله وفرصه في الحياة لاحقا.
والأهم أن هذه المرحلة تختزل لحظة حاسمة في تشكّل الدماغ؛ فمعظم الدراسات تشير إلى أن أكثر من 80 في المئة من بنية الدماغ تتكوّن قبل سن السادسة، وأن كل درهم يُستثمر في تنمية الطفولة المبكرة يدرّ عائدا اقتصاديا واجتماعيا قد يصل إلى 7 أو 10 أضعاف على المدى البعيد، وفق ما خلصت إليه أعمال بعض الاقتصاديين.
عندنا، وخلال أقل من عقد، قفزت نسبة التمدرس في سن 4–5 سنوات من أقل من النصف إلى مستويات تقترب من التعميم الوطني، مع طفرة لافتة في العالم القروي، حيث ارتفعت النسبة من ثلث الأطفال تقريبا إلى أكثر من أربعة أخماس، في سياق تعبئة وطنية لتعميم التعليم الأولي أطلقت سنة 2018 بقرار ملكي، وأكدتها خارطة طريق “أطفالنا 2030” التي تتبناها المؤسسة.
لا تكمن قيمة هذا النموذج في نتائجه البيداغوجية فقط، بل أيضا في الطريقة التي يُموَّل ويُدار بها. بدل الاعتماد الحصري على منطق “المناصب المالية” في الوظيفة العمومية، أو ترك المجال لرأس المال الخاص ليحوّل التعليم الأولي إلى سلعة مدفوعة الثمن، اختار هذا المشروع طريقا ثالثا: تعبئة المجتمع المدني الحقيقي المنتشر في القرى والمدن الصغيرة، والاستفادة من موارد مالية خيرية ومسؤولية اجتماعية لدى القطاع الخاص، ضمن هندسة تُجزّئ الكلفة الإجمالية إلى مشاريع ميكروسكوبية يمكن لأي مؤسسة أو فرد أن يتبنّى واحدا منها أو جزءا منه.
هنا يأتي دور “بنك المشاريع” الذي أعلنته المؤسسة في ندوتها أمس، والذي لا يكتفي بجمع التبرعات، بل يقدّم قائمة شفافة بمشاريع ذات أولوية، من تزويد وحدات معزولة بالألواح الشمسية، إلى تجهيز أقسام بألعاب تربوية، أو إدخال الروبوتات التعليمية إلى مئات الأقسام… يمكنك أن تلج المنصة وتختار بكل حرية أين تريد أن تضع تبرّعك والمؤسسة توصله إلى وجهته مع إمكانية التتبّع والتقييم.
بهذا المعنى، نحن أمام انتقال هادئ في ثقافة الإحسان والعمل الخيري. لسنوات طويلة، ظلّ جزء معتبر من السخاء الفردي والجماعي يتّجه تقليديا نحو بناء المساجد، وهو عمل نبيل لا ينازع أحد في أهميته الروحية والاجتماعية. لكن هذه التجربة تفتح أفقا جديدا: يمكن للمغربي، فردا أو مقاولة أو جمعية، أن يضيف إلى صدقاته لبنة أخرى، هي تمويل مقعد لطفل في قسم أولي، أو تجهيز وحدة قروية بعين ماء أو طاقة شمسية أو حقيبة صحية.
طبعا، الصورة ليست وردية بالكامل، وهناك أسئلة مشروعة حول هشاشة عقود عدد من المربّيات، والحدود الفاصلة بين التدبير المُبتكر والانسحاب الفعلي للدولة من مسؤولياتها، وحول مخاطر اختلاف مستويات الجودة بين جهة وأخرى…
لكن قيمة هذه التجربة أنها تبني حجتها على معطيات قابلة للقياس، وأنها لا تكتفي بالتبشير، بل ترافق عملها بمنظومة تقييم تُظهر أن نسب التأخر المدرسي وإعادة السنة لدى أطفال التعليم الأولي داخل هذا النموذج تبقى ضعيفة جدا مقارنة بغيرهم، وأن أثر سنتين كاملتين من التعليم الأولي يظل واضحا في نتائج التلاميذ في القراءة والرياضيات والسلوك بعد سنوات من مغادرتهم القسم الأولي.
ربما حان الوقت لالتقاط هذا الشعاع الصغير وسط العتمة، والإقرار بأن هذا البلد، قادر حين يتقاطع فيه وضوح الرؤية التدبيرية مع ابتكار مؤسساتي وتعبئة مدنية وذكاء مالي، على إنتاج نماذج ناجحة تستحق أن تُحمى وأن تُعمّم. وإذا كان لنا أن نحلم بمغرب مختلف في 2030 وما بعدها، فربما علينا أن نرى في كل قسم للتعليم الأولي وحدة إنعاش حقيقية لمستقبل المغرب.