ماركسيون على سنة الله ورسوله!
في بلد اختار، نظريا على الأقل حسب نص الدستور، أن يجعل من البرلمان قلب حياته الديمقراطية، لا يمكن لما جرى في جلسة الأسئلة الشفوية هذا الإثنين فاتح دجنبر 2025 أن يُعامل كحلقة روتينية من الشغب السياسي.
ما رأيناه كان خلاصة مكثّفة للأزمة. وزير للعدل يحوّل تعقيب نائبة برلمانية إلى مادّة للتهكّم ويصفه بأنه “بيان ثورة”، ورئيس جلسة منتم إلى فريق من المعارضة يطرد نائبا من معارضة أخرى من القاعة، وينعت فريقه برمّته بال”ماركسيين على سنة الله ورسوله”، ثم تعليق للجلسة يتحوّل إلى عراك عنيف وملاسنات خادشة في الأروقة.
كانت البداية عادية. سؤال لفريق التجمع الوطني للأحرار حول القانون المنظم لمهنة العدول، وجواب حكومي، ثم تعقيب من النائبة هند الرطل بناني باسم المجموعة النيابية للعدالة والتنمية، يعتبر أن المشروع انقلاب على مخرجات الحوار، وتغييب للضمانات، وإجهاز على مكتسبات، وتقزيم لدور العدول، وتمييز غير مبرر بين المهن، وإقصاء للمرأة العدل من مراكز القرار والركوب على ملفها سياسيًا، وتجميد لملفات الدكاترة في اتجاه إقصائهم نهائيًا…
عبارات حادّة نعم، لكنها في قلب وظيفة البرلمان: مساءلة الحكومة عن اختياراتها التشريعية في ضوء الدستور.
كان المنتظر من وزير العدل في هذه اللحظة أن يشرح للمغاربة ما الذي تغيّر بين مخرجات الحوار والنص النهائي، وكيف يضمن مشروعه حقوق العدول والنساء والدكاترة، وكيف يحترم الدستور.
كان المنتظر منه أن يناقش بالحجة، وفي حدود ما يسمح به الوقت، لا أن يلخّص كل ذلك في نكتة سياسية من نوع “بيان مجلس الثورة”. فتعليق الوزير نقل النقاش من سؤال: “هل مشروع القانون منصف وعادل؟” إلى سؤال: “من أنتم حتى تناقشوا هذا القانون؟”. ولم يعد الخلاف حول مضمون النص، بل حول شرعية النقد نفسه.
الوزير، أي وزير، ليس معلقا سياسيا في قناة إخبارية، بل عضو في حكومة مسؤولة أمام البرلمان. والجلسة الأسبوعية للأسئلة الشفوية واحدة من آخر النوافذ العلنية التي تربط المواطن بالمؤسسات، فإذا تحوّلت إلى فضاء للسخرية، فإن الرسالة التي تصل للناس بسيطة: لا جدوى من الأسئلة، ولا احترام لمن يجرؤ على ممارسة حقه في الرقابة.
تدخل النائب عبد الصمد حيكر عبر الآلية الطبيعية: نقطة نظام. وذكّر بأن العلاقة بين الوزراء والنواب هي علاقة احترام متبادل، وأن المواطن ينتظر أجوبة لا عبارات قدحية، وأن وصف تعقيب برلمانية بأنه “بيان ثورة” يمسّ الاحترام بين المؤسسات.
كان من الممكن أن يتدخل رئيس الجلسة ليعيد النقاش إلى سكّته، فيطلب من الوزير الالتزام بلغة تليق بالمقام، ويحمي حق المعارضة في التعبير حتى وهي ترفع النبرة.
لكن الذي وقع هو العكس تماما. نقطة النظام تحوّلت بدورها إلى “تهمة”. ورئيس الجلسة مرّ بسرعة من التنبيه إلى التهديد بالطرد، قبل أن يأمر أعوان المجلس بإخراجه بالقوة من القاعة.
في لحظة طيش جماعي، تحوّل النظام الداخلي لمجلس النواب، من إطار لتنظيم حق الجميع في الكلام، إلى عصا في يد من يملك سلطة التسيير.
وبلغ الانزلاق قمته حين سمح رئيس الجلسة لنفسه بأن يصف نواب حزب المصباح بأنهم “ماركسيون على سنة الله ورسوله”.
هنا لم نعد أمام زلة لسان عابرة، بل أمام استعمال لموقع الرئاسة لتصفية حسابات إيديولوجية تجمع، في جملة واحدة، بين التنقيص الفكري والاستفزاز الديني.
مهما حاولنا حصر ما وقع داخل القاعة في خانة الانفعال، فإن ما تلاه في الأروقة يسقط آخر الأعذار. تعليق الجلسة لم يكن استراحة، بل تحول إلى عراك عنيف وملاسنات خادشة، انتهت إلى مشهد وزير داخلية يجرّ وزير العدل بعيدا عن مكان المواجهة حتى لا تنفلت الأمور أكثر.
وزير يُبعد من ذراعه داخل البرلمان حتى لا يجد نفسه في قلب اشتباك مع نواب معارضة؛ هذه وحدها صورة كافية لشرح مستوى التدهور الذي بلغه المشهد.
هذا بالضبط هو ما يفرغ السياسة من معناها، ويحوّل القانون إلى أداة لتبرير الغلبة. فالدستور حين يتحدث عن “ربط المسؤولية بالمحاسبة” وعن مكانة خاصة للمعارضة، لا يقصد هذا النوع من المشاهد.
الدستور الذي يمنح المعارضة حقوقا واضحة في المراقبة والتعبير، يصبح بلا معنى إذا كانت نقطة نظام تنبه إلى واجب الاحترام المتبادل كافية لطرد نائب من القاعة. والحديث عن تشجيع المشاركة المواطنة يتحول إلى مزحة ثقيلة عندما يرى الناس ممثليهم يُهانون ويُسخر من تعقيباتهم ويُقتادون خارج القاعة، قبل أن يجدوا أنفسهم داخل عراك يحتاج إلى تدخّل وزير الداخلية شخصيا لجرّ وزير العدل بعيدا عنه.
الخسارة هنا جماعية. الحكومة خرجت بصورة وزير لا يحتمل تعقيبا معارضا فيلجأ إلى الاستهزاء. والمعارضة خرجت منقسمة، جزء فيها يغلق الأبواب على جزء آخر بدل أن تتوحد على قاعدة الدفاع عن الحق في المساءلة. والبرلمان كمؤسسة ظهر، مرة أخرى، كفضاء يفلت فيه الخطاب والسلوك، ويحتاج إلى “سلطة تنفيذية” لتمنع الانهيار الكامل. والمواطن الذي تابع هذه المشاهد لم ير نقاشا حول قانون مهنة العدول يهم العدالة والمساواة، بل رأى مشهدا يقول له: هذا برلمانك، وهذه طريقتنا في تدبير الخلاف.
ما جرى في هذه الجلسة امتحان مكشوف لصدق حديثنا عن دولة المؤسسات، وجرس إنذار أخير قبل أن يتحول البرلمان إلى ديكور مكلف لا يصدقه أحد.
إنصاف الديمقراطية هنا يعني شيئا واحدا: كفّ هذا المسار الانحداري، ووضع حدود واضحة للغة الإهانة والتشفي، وترميم ما تبقّى من ثقة الناس في أن قبة البرلمان مكان لصون الكرامة وصناعة الحلول، لا مسرحا لـ”ثورة ماركسية على سنة الله ورسوله”.