دروس الصمود في ملف معتقلي حراك الريف
واجه معتقلو حراك الريف منذ اللحظة الأولى من اعتقالهم محاكمات صعبة، اختاروا خلالها أن يحولوا الدفاع عن أنفسهم إلى دفاع عن الحق والكرامة. لم يقتصر خطابهم على مجرد الحديث عن التهم المنسوبة إليهم ،بل أصروا على توضيح أن احتجاجهم كان نابعا من مطالب اجتماعية مشروعة، وأن الصوت الذي رفعوه لم يكن تهديدا للدولة بل دعوة للعدالة
لقد قلبوا جلسات المحاكمة من قاعات لنقاش الملفات القانونية إلى منصة لإظهار أن الإنسان يمكنه مواجهة الظلم بالعقل والحق، وأن الدفاع عن الكرامة لا يحتاج إلى الضجيج فقط بل إلى الصبر والرصانة.
مع دخولهم السجن، أثبت المعتقلون أن الصمود لا يقتصر على مواجهة المحاكمة، بل يمتد إلى الحياة اليومية في أقسى الظروف. لقد نظموا أيامهم، وحافظوا على وعيهم من خلال القراءة، والتعلم، والمراسلة، ليحولوا السجن من مكان للعزلة إلى فضاء للمقاومة الفكرية. هذه القدرة على إدارة الألم والتضييق ، أظهر أن القوة الحقيقية تكمن في إرادة الإنسان، وأن حريته ليست فقط في الانطلاق الجسدي بل في امتلاك الذات والوعي.
وخلال هذه التجربة، واجه المعتقلون أصعب صور الفقد، من رحيل أم محمد الحاكي إلى وفاة العم أحمد الزفزافي. لم يكن الألم شخصيا فقط، بل اختبارا لقدرتهم على حمل قضية أكبر من الحزن الفردي. وقد ظهر تأثير صمودهم على المجتمع من خلال الحضور الجماهيري الكبير في جنازة عمي أحمد رحمه الله، ما أكد أن هذه القضية لم تعد قضية أفراد بل قضية ذاكرة جماعية، وأن التضامن مع المعتقلين أصبح رمزا للعدالة التي يطالب بها الجميع.
وفي مواجهة الألم والقيود، استثمر المعتقلون المعرفة كأداة للمقاومة المستمرة. واصل ناصر الزفزافي دراسته الجامعية محققا نتائج مشرفة، فيما سلك نبيل أحمجيق طريق البحث الأكاديمي حتى الدكتوراة،معتمدا على دراسة الحراك وحقوق الإنسان. هذه الخطوة لم تكن مجرد نجاح شخصي، بل رسالة واضحة أن الفكر لا يقيده السجن، وأن التعليم يمكن أن يكون سلاحا لمواجهة الظلم وبناء وعي جديد. إنها درس في القدرة على تحويل الظروف القاسية إلى فرصة للتعلم والنمو، ما يجعل صمودهم نموذجا يحتذى به.
وقد تأكدت استمرارية هذه القضية من خلال ظهور الجيل الجديد، جيل “زيد”، الذي رفع صور المعتقلين في وقفات ولقاءات، مؤكدا أن القضية لم تنته، وأن رموزها ما زالت حية في الوعي الجماعي. هذا الجيل لم يعش تجربة حراك الريف بشكل مباشر، لكنه التقط الرسالة، ورفع الشعلة، ليؤكد أن صمود المعتقلين ألهم أجيالا جديدة، وأن قضية العدالة والكرامة لا تموت، بل تنتقل عبر الأجيال.
كل هذه الدروس المتراكمة تضع المجتمع والدولة أمام مسؤولية واضحة. لقد أثبت المعتقلون أن الاحتجاج السلمي ليس جريمة، وأن الصمود في وجه الظلم لا ينهزم، وأن الإفراج عنهم أصبح خطوة لا مفر منها لاستعادة الثقة وإغلاق ملف أضر بالعلاقات بين الدولة والمواطنين.ات.
إن استمرار الاعتقال يتعارض مع القيم الإنسانية والحقوقية، ويترك أثرا عميقا على ذاكرة شعب برمته، بينما الإفراج عنهم سيكون اعترافا بالحق، وتصحيحا للظلم، وإشارة قوية إلى أن العدالة ليست شعارات على الورق بل ممارسات ملموسة.
إن تجربة معتقلي حراك الريف ليست مجرد قصة عن السجن أو المحاكمة، بل دروسا حية في الصمود، وإرادة الإنسان، والوفاء للقيم التي ناضل من أجلها.
لقد حولوا الألم إلى وعي، والقيود إلى قوة، والفقد إلى التزام مستمر، وأثبتوا أن الإنسان قادر على مقاومة الظلم بحضوره، بصموده، وفكره. وهذه الدروس تجعل من الإفراج عنهم ليس مجرد مطلب إنساني، بل ضرورة اجتماعية وقيمة وطنية تستحق كل دعم ومساندة.