قراءة في مشروع القانون رقم 64.23 المتعلق بإحداث الوكالات الجهوية للتعمير والإسكان:
استمرار مركزية دور الإدارة على حساب الجماعات الترابية وإخلال بالمبدأ الدستوري للتفريع
منذ إحداث أول وكالة حضرية في المغرب سنة 1984، وهي الوكالة الحضرية للدار البيضاء، والتي تلاها بشكل متدرج إحداث المزيد من الوكالات الحضرية، إلى أن بلغ عددها حاليا 30 وكالة تغطي مجموع التراب الوطني، لم تعرف هذه الوكالات أي تغيير في اختصاصاتها ومجالات تدخلها، إلى أن جاءت جلسة العمل التي ترأسها صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله بتاريخ 17 أكتوبر 2023، والتي خُصِّصت لقطاع الإسكان والتعمير. وقد قدّمت فيها وزيرة إعداد التراب الوطني والتعمير والإسكان وسياسة المدينة، السيدة فاطمة الزهراء المنصوري، بين يدي جلالة الملك، الخطوط العريضة للبرنامج الجديد للمساعدة في مجال السكن، الذي يأتي في إطار تنزيل إرادة جلالة الملك في تعزيز قدرة المواطنين على الولوج إلى سكن لائق.
وكما ورد في نص بلاغ الديوان الملكي الصادر بهذه المناسبة، فقد تقرر، من أجل التمكّن من تنزيل هذا البرنامج ومواكبة عملية تجديد التخطيط العمراني والمجالي، إحداث 12 وكالة جهوية للتعمير والإسكان، مع الأخذ بعين الاعتبار خصوصيات المجال الحضري والعالم القروي على حد سواء.
وهو ما حدّد المعالم الرئيسة للإصلاح المطلوب للوكالات الحضرية والمتمثّل في:
- تحويلها إلى مؤسسات جهوية.
- إدماج الإسكان لأول مرة ضمن مجالات تدخلها.
- جعل تنزيل برامج المساعدة على السكن ومواكبة تجديد التخطيط العمراني والمجالي من أولويات اشتغالها.
وقد أعدّت وزارة إعداد التراب الوطني والتعمير والإسكان وسياسة المدينة مشروع القانون رقم 64.23 المتعلق بإحداث الوكالات الجهوية للتعمير والإسكان تنفيذا لهذه التوجيهات.
فإلى أي حد يمكن اعتبار هذا المشروع مستجيبا للأهداف المنتظرة؟ وإلى أي حد يمكن اعتبار المقاربة المعتمدة فيه ملائمة للواقع، والاختصاصات المضمّنة فيه منسجمة مع هذه المقاربة ومراعية للتطور المؤسساتي والمقتضيات الدستورية ؟ تلك هي الأسئلة التي سيحاول هذا المقال تناولها.
تغييرات محدودة جدا شكلا ومضمونا في الاختصاصات :
لقد حدّدت المادة 3 من مشروع القانون مهام الوكالات الجهوية للتعمير والإسكان في:
- القيام بالدراسات الاستشرافية والاستراتيجية التي لها علاقة بميادين تدخلها، مع الأخذ بعين الاعتبار الدراسات والبرامج المُنجَزة على مستوى الجهة، وكذا الاستراتيجيات الوطنية وتوجهات السياسة العامة لإعداد التراب. (جديد)
- إعداد مشاريع وثائق التعمير المنصوص عليها في النصوص القانونية الجاري بها العمل، وتتبع تنفيذ التوجهات والمقتضيات الواردة بها، وكذا العمل على تقييمها ومراجعتها وفق الشروط المقررة في القوانين والأنظمة الجاري بها العمل.
- إبداء الرأي الملزم في ملفات طلبات الحصول على الرخص والأذون المعروضة عليها، وذلك وفق الإجراءات والكيفيات المحددة بموجب النصوص التشريعية والتنظيمية الجاري بها العمل، مع مراعاة الاختصاصات المسندة للجنة الجهوية للاستثمار المُحدثة بموجب القانون رقم 47.18 المتعلق بإصلاح المراكز الجهوية للاستثمار وبإحداث اللجان الجهوية الموحدة للاستثمار، في مجال مشاريع الاستثمار وإنجازها.
- مراقبة أعمال تقسيم وتجزئة الأراضي وإقامة المجموعات السكنية والمباني عندما تكون في طور الإنجاز، وذلك للتحقق من مطابقتها لأحكام النصوص التشريعية والتنظيمية الجاري بها العمل والرخصِ بالتجزيء أو التقسيم أو بإقامة المجموعات السكنية أو البناء المسلَّمة لأصحاب الشأن.
- اقتراح تعيين مراقبي التعمير لممارسة مهام مراقبة مخالفات التعمير والبناء طبقا للنصوص التشريعية والتنظيمية الجاري بها العمل.
- المساهمة في إعداد التصورات حول العرض الترابي الجهوي، بتنسيق مع مختلف الفاعلين الترابيين المعنيين، وكذا المساهمة في برمجة تنفيذه.
- المساهمة في إعداد الاستراتيجيات والبرامج المتعلقة بتأهيل وتنمية المجالات القروية، وبلورتها في إطار مشاريع مندمجة، من أجل ضمان تناسق واستدامة التدخلات بالمجالين الحضري والقروي.
- المساهمة في تفعيل السياسة الوطنية لتيسير الولوج إلى السكن، وكذا في وضع وتنزيل مختلف البرامج الرامية إلى محاربة السكن غير اللائق.
- برمجة مشاريع التهيئة المرتبطة بتحقيق الأهداف التي ترمي إليها وثائق التعمير، ومواكبة المجموعات ذات النفع الاقتصادي، وكذا باقي الهيئات العامة والخاصة المنصوص عليها في القوانين والأنظمة الجاري بها العمل، من أجل تنفيذ هذه المشاريع، بتنسيق مع السلطات والجماعات الترابية ومختلف الهيئات المعنية.
- المساهمة، بتنسيق مع الفاعلين الترابيين المعنيين، في إعداد الدراسات المتعلقة بجرد التراث المعماري والمشهدي الجهوي والمحلي وحمايته وردّ الاعتبار إليه وتثمينه.
- تقديم المعلومات والمعطيات، وكذا الدعم التقني اللازم والمواكبة الفعلية للسلطات والجماعات الترابية والهيئات المعنية، في إعداد ومراجعة مختلف وثائق التخطيط والتنمية الترابية.
- تقديم المساعدة والتأطير التقني اللازم لحساب الدولة أو الجماعات الترابية أو أي شخص اعتباري آخر من أشخاص القانون العام أو الخاص، وكذا القيام بالدراسة القبلية للمشاريع، سواء ذات الطابع العام أو الخاص، قبل إيداع ملفات طلبات الحصول على الرخص والأذون المتعلقة بها.
- رصد الديناميات المجالية وجمع وتحليل المعطيات وتحديد المؤشرات المجالية وتعميمها ونشرها.
- المساهمة في أي مؤسسة يطابق نشاطها الأهداف المرسومة للوكالة والمهام المسندة إليها.
يُلاحَظ، بشكل عام، أنه تم الاحتفاظ بجميع الاختصاصات السابقة للوكالات الحضرية في مجالي التخطيط والتدبير العمرانيين، وكذلك في مجال المراقبة وتقديم المساعدة للجماعات الترابية، مع بعض الملاءمات المرتبطة بالمستجدات، سواء في مجال اختصاص هيئات أخرى كالمراكز الجهوية للاستثمار في مجال التدبير العمراني أو فيما يتعلق بمقتضيات قانونية استجدت بعد آخر قانون للوكالات الحضرية كما هو الشأن بالنسبة لمجال مراقبة المخالفات، وكذا توسيع نطاق تقديم المساعدة والتأطير كما هو محدد في البند 12 من المادة الثالثة المشار إليها أعلاه.
أما في مجال الإسكان، الذي يُعدّ ضمّه إلى مجالات تدخل الوكالات أهم تغيير على هذا المستوى، فقد اقتصر على ما ورد في بلاغ الديوان الملكي، وبصيغة عامة، وفي بند وحيد من المادة 3: «المساهمة في تفعيل السياسة الوطنية لتيسير الولوج إلى السكن، وكذا في وضع وتنزيل مختلف البرامج الرامية إلى محاربة السكن غير اللائق». فدور الوكالات سيقتصر إذن على المساهمة في السياسة الوطنية لتيسير الولوج إلى السكن وفي وضع وتنزيل مختلف البرامج الرامية إلى محاربة السكن غير اللائق.
وحيث إن الوزارة ستحتفظ بتمثيليات مجالية لها، ونظرا لوجود عدة مؤسسات وشركات عمومية متخصصة في مجالي الإسكان ومحاربة السكن غير اللائق، فمن الواضح أن دور الوكالات في هذه المجالات سيكون محدودا جدا، ولن يختلف كثيرا عن الأدوار التي تقوم بها حاليا في إنجاز، أو المساهمة في إنجاز، دراسات إعادة الهيكلة والدراسة القبلية للمشاريع ذات الصلة.
ينسحب الأمر ذاته على الاختصاص المستجد الوارد في البند 7 من المادة نفسها، الذي ينص على «المساهمة في إعداد الاستراتيجيات والبرامج المتعلقة بتأهيل وتنمية المجالات القروية وبلورتها في إطار مشاريع مندمجة من أجل ضمان تناسق واستدامة التدخلات بالمجالين الحضري والقروي».
وهذا يفيد أنه لم تقع أي مراجعة ذات أهمية في اختصاصات الوكالات الحضرية، وأن الاختصاصات الجديدة وردت جميعها بصيغة «المساهمة»، بما يفيد أنها خارج مجال اختصاصها الأصلي، وأن هناك جهات أخرى تحتفظ بالاختصاص، والوكالات تساهم معها فقط.
استمرار مركزية دور الإدارة على حساب الجماعات الترابية والإخلال بالمبدأ الدستوري للتفريع:
إن مراجعةً عميقة لدور واختصاصات الوكالات الحضرية في علاقتها بأدوار واختصاصات الجماعات ظلّت مطروحة منذ انطلاق تجربة الوكالات الحضرية، وكان يفترض أن يشكّل المشروع الحالي فرصة للقيام بعدد من المراجعات الأساسية في هذا الصدد تستحضر مبادئ الدستور وطبيعة مجال التعمير وتطور تجربة الجماعات الترابية بالمغرب واختصاصاتها.
غير أن شيئا من ذلك لم يتم؛ إذ ما يزال مجال التخطيط الحضري اختصاصا للإدارة، بالرغم من أن الجماعات هي التي تتحمّل الجزء الأكبر من مسؤولية تنفيذ مقتضياته ذات التكاليف المادية الثقيلة، من قبيل إحداث الطرق والعديد من المرافق العمومية من حدائق وساحات ومواقف سيارات وباقي المرافق الجماعية.
كما لا يزال الدور الرئيس في البتّ في مختلف طلبات التراخيص من اختصاص الوكالات، بمعية باقي الإدارات التقنية، مع تحويل جزء معتبر من دراسة هذه الطلبات ذات الصلة بمشاريع الاستثمار إلى المراكز الجهوية للاستثمار، ليكون دور الجماعات أقرب إلى دور الوسيط بين المواطن صاحب طلب الترخيص والإدارة، منه إلى دور المؤسسة ذات الاختصاص الأصلي في الترخيص كما ينص عليه القانون التنظيمي الخاص بالجماعات.
والحاصل أن مجال التعمير بطبيعته يتطلب التدبير عن قرب (une gestion de proximité)، سواء تعلّق الأمر بمجال التدبير، أي دراسة وتسليم مختلف تراخيص البناء والتجزيء ومراقبة المخالفات، أو تعلق الأمر بالتخطيط العمراني؛ فهما مجالان يتطلبان معرفة وثيقة بالواقع وقدرة على المعاينة والمتابعة المباشرتين، وهو ما لن يتأتّى لمؤسسة مجال إشرافها جهوي أو حتى إقليمي، بل يتطلب تدبيرا عن قرب لا يمكن أن تقوم به إلا مصالح التعمير لدى الجماعات.
ويتأكد هذا الأمر، بالإضافة إلى الاعتبار الموضوعي، بالمقتضى الدستوري الوارد في الفصل 140 من الدستور، الذي ينص على أن «للجماعات الترابية، وبناء على مبدإ التفريع، اختصاصات ذاتية واختصاصات مشتركة مع الدولة واختصاصات منقولة إليها من هذه الأخيرة».
وحيث إن «التفريع» مبدأٌ إداري وسياسي يتمثل في توزيع الصلاحيات والاختصاصات بين مستويات الحكم المختلفة، وخاصة من السلطة المركزية إلى الجماعات المحلية، بحيث تكون هذه الاختصاصات منوطة بالجهة الأقدر على ممارستها بفعالية بسبب قربها من المواطنين. وحيث وردت الإشارة إليه في الدستور في سياق الحديث عن توزيع الاختصاصات بين الدولة والجماعات الترابية. كما نصّت المادة 77 من القانون التنظيمي رقم 113.14 المتعلق بالجماعات بوضوح على أنه «تُناط بالجماعة داخل دائرتها الترابية مهام تقديم خدمات القرب للمواطنات والمواطنين في إطار الاختصاصات المسندة إليها بموجب هذا القانون التنظيمي، وذلك بتنظيمها وتنسيقها وتتبعها».
فالطبيعي أن كل اختصاص من اختصاصات القرب يجب أن يُمارَس من طرف الجماعات الترابية، مع اعتماد ما يلزم من تدابير قانونية وتنظيمية لضمان احترام الجماعات للمقتضيات القانونية في مجال تدبير التعمير، كما هو الشأن بالنسبة لباقي المجالات من قبيل:
- تعزيز وسائل المراقبة الإدارية على عمل الجماعات في هذا المجال
- تعزيز دور المصالح التقنية للجماعات وتحميلها الكاملة المسؤولية على دراسة الملفات والتأكد من احترامها للقوانين والأنظمة الجاري بها العمل، مع جعل توقيع المسؤول عنها إلزاميا في الرخصة والتصاميم إلى جانب توقيع الرئيس أو من يفوضه في ميدان التعمير
- إلزام الرئيس بتوجيه نسخ من كل ملفات التراخيص ” الرخصة والتصاميم” وجوبا للوكالة الجهوية للتعمير والإسكان والعمالة، مع إعطاءهما صلاحية مراقبة هذه الملفات، بحيث يمكن للوكالة والعمالة اعتماد نظام للمراقبة عبر اختيار عينة من الملفات المتوصل بها، وإن تم تسجيل خلل فيها يتم ترتيب الجزاءات القانونية في حق الرئيس والمصالح التقنية.
- بالنسبة للجماعات التي تشكو من غياب مصالح تقنية أو محدوديتها يمكن إلزامها باللجوء للمساعدة التقنية للوكالة وفق مقتضيات قانونية وتنظيمية محددة.
- بالنسبة للمشاريع ذات الأهمية الكبرى، التي يتم تحديدها بمراعاة خصوصيات وواقع كل مجال، يمكن اشتراط طلب رأي الوكالة فيها أو مساعدتها التقنية في دراستها قبل الترخيص، مع تدقيق الجوانب التي تكون إلزامية الاحترام في رأيها.
نحو تموقع استراتيجي لوكالات التعمير والإسكان يحقق القيمة المضافة المرجوة:
إن تحويل الاختصاصات في مجال التدبير العمراني إلى الجماعات، احتراما لطبيعة هذا المجال ولمقتضيات الدستور ولمبادئ الديمقراطية، سيمكّن من تخفيف عبء مهام تستنزف حاليا الجزء الأكبر من موارد الوكالات البشرية ومن عملها، بما يسمح لها بالتفرغ لمهامها الأولى، والمتمثلة أساسا في الإشراف على كل ما يتعلق بمجالات التخطيط المجالي وتتبع الديناميات المجالية ورصدها، بالإضافة إلى ما جاء في توجيهات صاحب الجلالة من تكليفها بتفعيل السياسة السكنية بمختلف مكوّناتها.
خاصة وأن الدينامية العمرانية التي يعرفها المغرب والتوسع السريع لمدنه وتجمعاته الحضرية وللتحديات والرهانات التي يطرحها هذا التوسع، والحاجة الماسة لتطوير تهيئة مختلف مجالاته ومعالجة اختلالاتها تتطلب مؤسسات ذات خبرة عالية في مجال التعمير ومعرفة دقيقة ومتراكمة بالمجالات التي هي مسؤولة عنها وعن تهيئتها. والوكالات بالنظر لاستغراقها في ميدان التدبير العمراني ظلت غير قادرة على الارتقاء لأداء هذه الوظيفة.
وقد كان مؤملا أن يشكل هذا الإصلاح فرصة لذلك ولكن للأسف يبدو أنها ستضيع وسيستمر الوصع على ما هو عليه.