من الإليزيه إلى لاسانتيه.. قصة السجن والإفراج في اعتقال ساركوزي
في سابقة بالتاريخ السياسي الفرنسي، دخل الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي أسوار السجن في أكتوبر 2025، ليصبح أول رئيس للجمهورية الخامسة يقضي عقوبة سالبة للحرية. غير أن بقاءه خلف القضبان لم يتجاوز ثلاثة أسابيع، قبل أن يغادره يوم 10 يونيو 2025، في ظروف أثارت تساؤلات كثيرة حول تفاصيل قضيته.
قصة الدخول والخروج
بدأت فصول قصة دخول وخروج ساركوزي سجن لاسانتيه في باريس، في 25 شتنبر 2025، حين أصدرت محكمة الجنايات في باريس حكمًا يقضي بإدانة نيكولا ساركوزي بتهمة التآمر الجنائي في قضية التمويل الليبي لحملته الانتخابية الرئاسية عام 2007.
ورغم تبرئته من تهمة الفساد المباشر، فقد اعتبرت المحكمة أن السماح لمعاونيه بالسعي وراء دعم مالي من نظام معمر القذافي يُعد “تصرفًا ذا خطورة استثنائية”، لتصدر في حقه حكمًا بالسجن خمس سنوات، من بينها ثلاث سنوات نافذة.
وسرعان ما تبع الحكم قرار رمزي، بتجريد ساركوزي من وسام جوقة الشرف الفرنسية (Ordre national de la Légion d’honneur)، في إجراء نادر بحق رئيس سابق للجمهورية.
عشية دخوله السجن، كشفت تقارير إعلامية فرنسية أن ساركوزي قام بزيارة إلى الرئيس إيمانويل ماكرون في قصر الإليزيه. الزيارة التي لم يُكشف عن تفاصيلها الدقيقة وُصفت بأنها “وداع سياسي وإنساني”، وأثارت تفاعلًا واسعًا في الأوساط الفرنسية، باعتبارها تجمع بين رئيسين أحدهما يستعد لدخول السجن والآخر يقود الدولة.
تنفيذ العقوبة فورًا
بدأ ساركوزي تنفيذ الحكم، يوم 21 أكتوبر 2025، ليقضي أيامه الأولى في مركز احتجاز مخصص للشخصيات العامة، وسط إجراءات أمنية مشددة وحراسة خاصة.
قررت المحكمة تنفيذ العقوبة فورًا، رغم أن الحكم كان قابلاً للاستئناف، مبرّرة قرارها بوجود “خطورة استثنائية” للأفعال المنسوبة إلى الرئيس الأسبق، وبأن استمرار حرية المتهم قد يعرقل سير العدالة أو يسمح بتنسيق مع أطراف أخرى في القضية. ليوُضع ساركوزي خلف القضبان بينما كان فريق دفاعه يستعد لتقديم استئناف رسمي أمام محكمة أعلى.
خلال الأسابيع الثلاثة التي قضاها في السجن، تناقلت الصحف الفرنسية تفاصيل عن ظروف إقامة ساركوزي، الذي خُصصت له زنزانة فردية مزودة بمكتب صغير وكتب.
كما تحدثت التقارير عن تدهور في معنوياته في الأيام الأولى، قبل أن يتأقلم مع الوضع ويبدأ بمراسلة محاميه يوميًا لإعداد طعن شامل في الحكم.
طلب إخلاء سبيل
وفي 31 أكتوبر 2025، بدأ القضاء الفرنسي النظر في طلب إخلاء سبيل مؤقت تقدم به دفاع الرئيس الأسبق.
رفضت النيابة العامة الطلب في البداية، معتبرة أن احتجازه “هو السبيل الوحيد لضمان عدم التأثير على التحقيقات”، إلا أن هيئة الدفاع شددت على أن موكلها لا يشكل خطرًا على سير العدالة وأنه مستعد لأي شكل من أشكال المراقبة.
وبعد مداولات استمرت أيامًا، قررت محكمة الاستئناف في باريس الموافقة على الإفراج عن نيكولا ساركوزي بشروط محددة، تشمل الإقامة تحت المراقبة القانونية واستخدام سوار إلكتروني، إلى حين البت في الاستئناف.
وخلال جلسة النظر في طلب الإفراج، كانت النيابة العامة قد أوصت بالإفراج المشروط برقابة قضائية عن ساركوزي، الذي شارك في الجلسة عبر تقنية الفيديو من سجن لا سانتيه في باريس.
وقال ساركوزي إن “السجن صعب للغاية، بل هو شاق”، مضيفا “أناضل من أجل سيادة الحقيقة”، مشيدا في الوقت نفسه بـ”إنسانية” موظفي السجن الذين جعلوا من “هذا الكابوس أمرا يمكن تحمّله”. ويعدّ ظهور ساركوزي عبر الشاشة من داخل السجن، سابقة في تاريخ الجمهورية الفرنسية الخامسة، إذ لم يُسجن أي رئيس سابق من قبل.
غادر ساركوزي أسوار السجن، يوم الاثنين 10 نونبر 2025، بعد نحو 21 يومًا فقط من دخوله، وسط إجراءات أمنية مشددة وتغطية إعلامية واسعة.
وأدين ساركوزي الذي يبلغ من العمر 70 عاما بالتآمر فيما يتعلق بجهود من مستشاريه ومساعديه المقربين للحصول على تمويل لحملته الرئاسية في 2007 من معمر القذافي، مع تبرئته من جميع التهم الأخرى بما في ذلك الفساد وتلقي تمويل غير قانوني للحملة الانتخابية.
ورغم خروجه من السجن، فإن المعركة القانونية لم تنته بعد، إذ من المرتقب أن تبدأ جلسات الاستئناف مطلع 2026، لتعيد فتح ملف التمويل الليبي الذي ظل يطارد ساركوزي منذ أكثر من عقد.
بداية القصة
وتعود فصول القصة الكاملة إلى متابعة الرئيس الفرنسي الأسبق، رفقة ثلاثة وزراء سابقين، منذ سنوات، على خلفية شبهات تتعلّق بتلقّيه تمويلا من الزعيم الليبي السابق معمر القذافي لحملته الانتخابية التي أوصلته إلى السلطة في العام 2007.
في هذه القضية المثيرة، يُشتبه في أنّ الرئيس الأسبق أبرم عبر مقرّبين منه “اتفاق فساد” مع القذافي، يموّل بموجبه الأخير حملته الانتخابية، مقابل تلميع صورته على الساحة الدولية.
ولطالما نفى ساركوزي تلقيه دعما ماليا من ليبيا وطعن بهذه الاتهامات مرات عدة. كما وصفها بـ”الكذبة”، بينما أكد محاميه حينها أنّ الرئيس السابق “ينتظر بفارغ الصبر جلسات الاستماع التي تستمرّ أربعة أشهر”، مضيفا أنّه “سيقاوم الإطار المفتعل الذي رسمه الادعاء، ولا يوجد أي تمويل ليبي لحملته”.
وكان ساركوزي لحظتها، يواجه عقوبة بالسجن عشر سنوات وغرامة مقدارها 375 ألف يورو، فضلا عن الحرمان من الحقوق المدنية (وبالتالي عدم الأهلية) لمدّة خمس سنوات، تهمة الفساد واختلاس أموال عامة وتمويل غير مشروع لحملته والانتماء إلى عصابة إجرامية.
لقاء في طرابلس
بعد عشر سنوات من التحقيقات، قضى قاضيان في غشت 2023 بأنّ التهم كافية لتقديم 12 رجلا أمام العدالة، بمن فيهم الوزراء السابقون كلود غيان وبريس هورتيفو وإريك وورث.
وستتعمّق المحكمة في ملف يعتبر متشعّبا ويرتبط بحقبة سابقة، عندما كانت ليبيا تحت حكم معمّر القذافي لمدّة 40 عاما تقريبا.
بدأ الأمر عبر لقاء في العاصمة الليبية طرابلس في العام 2005 خُصّص رسميا لموضوع الهجرة غير النظامية، بين العقيد معمّر القذافي ونيكولا ساركوزي الذي كان وزيرا للداخلية في ذلك الوقت، والذي كان يستعدّ للترشّح للانتخابات الرئاسية في العام 2007.
وقتها، تمّ التوصل إلى “اتفاق”، بحسب الاتهام الذي استند إلى تصريحات سبعة من كبار الشخصيات الليبية السابقين بشأن رحلات سرية أجراها كلود غيان مدير حملة ساركوزي الرئاسية وبريس هورتيفو وهو مقرّب من الرئيس الأسبق، وأيضا إلى ملاحظات لوزير النفط الليبي الأسبق شكري غانم الذي عُثر على جثته في نهر الدانوب في العام 2012.
وتمَظهر هذا الاتفاق في البداية على شكل “إعادة تأهيل” للقذافي على الساحة الدولية، إذ استقبله ساركوزي بعد انتخابه رئيسا بحفاوة بالغة، في إطار زيارة مثيرة للجدل لباريس، كانت الأولى له منذ ثلاثة عقود.
كما انعكس في عقود كبرى ومساعدة قضائية لعبد الله السنوسي مدير الاستخبارات الليبية المحكوم عليه بالسجن مدى الحياة غيابيا في فرنسا لدوره في الهجوم على طائرة فرنسية عام 1989 أودى بحياة 170 شخصا بمن فيهم 54 فرنسيا.
ويبلغ عدد الأطراف المدنية في المحاكمة حوالى 20 فردا.
رجلان
ومن بين المتهمين، رجلان يملكان خبرة في المفاوضات الدولية الموازية، هما رجل الأعمال الفرنسي الجزائري ألكسندر جوهري والفرنسي اللبناني زياد تقي الدين الذي فرّ إلى لبنان حيث لا يزال موجودا.
وفي أحد حسابات هذا الأخير، عُثر على ثلاثة تحويلات مالية من السلطات الليبية بقيمة إجمالية بلغت ستة ملايين يورو. كما تحدث عن “حقائب” أُعطيت إلى كلود غيان، كانت تحتوي على “فواتير كبيرة”.
كذلك، أظهرت التحقيقات أنّ أموالا نقدية مجهولة المصدر كانت متداولة في مقر حملة ساركوزي الانتخابية. وقال إريك وورث الذي كان وزير للمال في ذلك الوقت، إنّها كانت “تبرّعات مجهولة المصدر” بقيمة بضعة آلاف من اليورو فقط.
وقال فيليب بوشيز الغوزي محامي غلود غيان، إنّ هذا الأخير “سيُظهر أنه بعد أكثر من عشر سنوات من التحقيق، لم يتم إثبات أي من الجرائم المتهم بها”، منددا بـ”مجموعة من الادعاءات والفرضيات وغيرها من التقديرات”.
أما نيكولا ساركوزي، فينفي كل شيء. وبالنسبة إليه، فإنّ الاتهامات ليست سوى “انتقام” من قبل الليبيين بسبب دعمه الثورة في زمن الربيع العربي الذي أطاح القذافي الذي قُتل في أكتوبر 2011.
وينفي محاموه التمويل غير الشرعي، ويؤكدون أنه لم يعثر على “أي أثر” له في حسابات حملته الانتخابية.