القرار 2797: تحول معياري يعيد رسم الإطار القانوني والسياسي لقضية الصحراء المغربية
يُشكّل قرار مجلس الأمن رقم 2797 (2025) بشأن قضية الصحراء المغربية منعطفًا حقيقيًا، ويُمثل ولادة معيارية فاصلة في طريقة تعاطي المجلس مع هذا الملف. فهو نصٌّ يُسهم بفاعلية في بناء واقع قانوني وسياسي جديد، يخرج من دائرة الغموض الدبلوماسي الذي طبع المقاربات السابقة، ليؤسس لمنهج واضح لا لبس فيه نحو الحل النهائي. ولأول مرة، ينتقل مجلس الأمن من مرحلة “الاعتراف” بمبادرة الحكم الذاتي المغربية إلى مرحلة “التأسيس” عليها. وهو تحول لغوي في الظاهر، لكنه في العمق يحمل وزنًا قانونيًا كبيرًا، إذ يعيد تعريف أطراف النزاع وموضوع التفاوض، بل وحتى المبادئ الكبرى التي يستند إليها القانون الدولي، بما ينسجم مع منطق الواقعية والأمن والاستقرار.
يتجلى جوهر هذا التحول في الصياغة الدقيقة التي اعتمدها القرار. فالانتقال من وصف المبادرة المغربية بأنها “جدية وذات مصداقية” – وهي عبارة تكرّرت لسنوات – إلى اعتبارها صراحة “الأساس” الذي يجب أن تُبنى عليه العملية السياسية، ليس مجرد تعديل لغوي في الخطاب الأممي، بل تحوّل جوهري في طبيعة المفاوضات ذاتها. فالنقاش لم يعد يدور حول “من يملك السيادة”، بل أصبح محصورًا في “كيفية تطبيق الحكم الذاتي الحقيقي تحت السيادة المغربية”. لقد صارت المبادرة المغربية المرجعية الأساس للمسار السياسي، وما سواها تفاصيل تقنية تتعلق بتنفيذها، وهو ما يضع حدًّا للمقترحات التي تجاوزها الواقع والتطور السياسي.
لكن هذا التحول لم يخلُ من انتقادات، أبرزها ما يراه البعض مساسًا بمبدأ “حق تقرير المصير”. فوفق هؤلاء، يُعدُّ تكريس الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية، في نظرهم، تقويضًا للمبدأ الكلاسيكي لتقرير المصير أو انحيازًا يغلق الباب أمام خيار الاستقلال. بل إن بعضهم يصفه بأنه “إقصاء لإرادة السكان”، كما عبرت جبهة البوليساريو في بيانها الرسمي معتبرة بعض عناصر القرار “خطرة وغير مسبوقة”. غير أن هذا الطرح، يغفل حقيقتين أساسيتين: الأولى، أن القانون الدولي نفسه – في قراراته المرجعية مثل القرار 2625 – لا يحصر مفهوم تقرير المصير في الانفصال وحده، بل يتيح “اختيار أي مركز سياسي آخر بحرية”، وفقاً لتفسير قرار الجمعية العامة 2625. والثانية، أن الإصرار على التفسير التقليدي في قضية استمرت نصف قرن ولم تُفضِ إلى أي حل عملي، هو في ذاته تكريس للجمود وإهدار لحق السكان في الأمن والتنمية. فالقرار 2797 لا يُلغي مبدأ تقرير المصير، بل يعيد تأطيره في سياق واقعي جديد، مقدّمًا تفسيرًا يمكن وصفه بـ “تقرير المصير الوظيفي”، أي ممارسة السكان حقهم في تدبير شؤونهم المحلية والاقتصادية والثقافية ضمن إطار السيادة الوطنية. فالحكم الذاتي، بما يضمنه من تمثيل فعلي للسكان في إدارة شؤونهم، يُجسّد عمليًا جوهر ومقصد تقرير المصير، في مقابل مقاربات انفصالية أثبتت عدم واقعيتها لعقود.
كما أن ربط مجلس الأمن صراحة بين “الحكم الذاتي الحقيقي” و“السيادة المغربية” يمنح الموقف المغربي شرعية دولية يصعب تجاوزها، من خلال اعترافٍ ضمنيٍّ واضح بالسيادة بدلالة قانونية قوية. فمفهوم السيادة في القانون الدولي الحديث لا يُثبت فقط عبر الإعلانات الرسمية، بل أيضًا عبر الاعتراف بممارسة الدولة لسلطتها الفعلية وقدرتها على إيجاد حلول سياسية داخل إقليمها. وباعتماد هذا الربط، يقرّ المجلس عمليًا بأن المغرب هو الطرف الذي يمتلك سلطة صياغة الحل النهائي، وأن بقية الأطراف مدعوّة للتفاوض معه حول آليات التنفيذ، لا حول مبدأ السيادة ذاته. وهكذا، يُكرّس القرار المكانة القانونية لاتفاقية مدريد، ويعزّز الشرعية التاريخية والسياسية التي تستند إلى بيعة سكان وادي الذهب سنة 1979.
ويترتب على هذا التكريس القانوني إعادة رسم خريطة الأدوار ومراكز الأطراف المعنية. فالمغرب ينتقل من مجرد “طرف في نزاع” إلى موقع “صاحب السيادة الشرعي” الذي يقترح الحل على أرضه، فيما تتغيّر طبيعة توصيف جبهة البوليساريو لتصبح طرفًا سياسيًا مدعوًّا للمشاركة في مناقشة آليات الحكم الذاتي، لا “ممثلاً حصريًا” يفرض خيارًا أحاديًا. أما الجزائر، التي امتنعت عن المشاركة في التصويت رغم عضويتها غير الدائمة في المجلس، فقد انتقلت طوعًا أو اضطرارًا من موقع “الطرف الرئيسي في النزاع” إلى موقع “الدولة الداعمة والمجاورة”، وهو تحول ذو دلالات قانونية واضحة في السياق الدولي.
ويُثار انتقاد آخر يتعلق بـ“شرعية” هذا التحول الجذري في مقاربة مجلس الأمن. لكن هذا الانتقاد يتجاهل أن القانون الدولي ليس نصًا جامدًا، بل منظومة تتطور باستمرار استجابة لمتطلبات السلم والأمن. فالقرار 2797 لا يشكّل قطيعة مع ما قبله، بل تتويجًا لمسار تراكمي تبنّاه المجلس تدريجيًا على مدى عقدين. كما أنه يطوي عمليًا صفحة “تصفية الاستعمار” في هذا الملف، إذ لم يعد ينظر إلى الإقليم باعتباره “أرضًا محتلة”، بل كقضية سياسية معقدة تتطلب حلاً تفاوضيًا واقعيًا. والأهم أن هذا التحول في التوصيف القانوني يُتيح مرجعية جديدة لإغلاق الملف نهائيًا داخل اللجنة الرابعة لتصفية الاستعمار، باعتبار أن النزاع لم يعد من هذا النوع التقليدي، بل أصبح مسألة سياسية محددة الإطار القانوني. فاستمرار وجود الملف في تلك اللجنة كان مصدر تشويش على المسار السياسي، بينما يفتح القرار 2797 الطريق لتسويته في إطار قانوني أكثر نضجًا ووضوحًا.
ولتدعيم هذا المسار التفاوضي بدل الاستفتاء التقليدي، يمكن استحضار سابقة سيدي إفني، التي طُرحت إلى جانب الصحراء المغربية في لجنة تصفية الاستعمار منذ 1963. ففي قرار الجمعية العامة رقم 2072 (XX) الصادر سنة 1965، لم يُطلب تنظيم استفتاء، بل دُعيت إسبانيا والمغرب إلى حلّ المسألة عبر التفاوض، وهو ما تحقق فعليًا سنة 1969 باسترجاع المغرب لإقليم سيدي إفني. هذه السابقة تؤكد أن اللجوء إلى التفاوض السياسي لتسوية قضايا السيادة ممارسة راسخة في التجربة الأممية، والقرار 2797 يأتي امتدادًا وتطويرًا لهذا النهج.
أما الانتقاد الثالث، الذي يرى في القرار تهديدًا محتملًا للاستقرار الإقليمي بحجة تبنيه رؤية طرف واحد، فهو تحليل لا يصمد أمام الواقع. فالوضع القائم هو في جوهره مصدر التوتر الأساسي في المنطقة، إذ يعيق التكامل المغاربي، ويستنزف الموارد في سباق تسلح غير مجدٍ، ويخلق فراغًا أمنيًا تستفيد منه شبكات التهريب والجريمة المنظمة والإرهاب في منطقة الساحل والصحراء. لذلك، فإن القرار 2797، بدعمه لمسار الحكم الذاتي والتنمية، لا يهدد الاستقرار، بل يشكل فرصة حقيقية لترسيخه.
ومن جهة أخرى، تكشف نتيجة التصويت، بأغلبية 11 صوتًا مؤيدًا من دون أي اعتراض، مع ثلاث امتناعات (روسيا، الصين، وباكستان)، عن توافق دولي واسع وغير مسبوق. أما الجزائر، التي لم تشارك في التصويت لا بالموافقة ولا بالرفض، فقد وجدت نفسها خارج دائرة التأثير، في مؤشر على تراجع قدرتها على الحشد داخل المجلس. غياب أي “فيتو” أو حتى اعتراض بسيط يعكس قبول القوى الكبرى بمضمون القرار، ولو من باب الواقعية الجيوسياسية. هذا الإجماع يمنح القرار شرعية دولية تتجاوز طابعه الإجرائي، ويؤسس لمرحلة جديدة في مسار الأمم المتحدة تجاه هذا النزاع. ومن المنطقي، في ضوء ذلك، أن يطلب المجلس من الأمين العام مراجعة استراتيجية بعثة المينورسو، لتتكيف مع هذا الإطار الجديد: من التحضير لاستفتاء تجاوزه الزمن إلى مواكبة تنفيذ الحل السياسي القائم على الحكم الذاتي.
إن هذا التحول المعياري الحاسم لم يأتِ من فراغ، بل هو ثمرة استراتيجية متكاملة قادها المغرب، تقوم على تراكم الإنجازات وتصحيح المسارات. فقد نجح في بناء انتقال تدريجي عبر محطات رئيسية: من تحرير معبر الكركرات، إلى العودة الفاعلة للاتحاد الإفريقي، مرورًا بسياسة فتح القنصليات في الأقاليم الجنوبية، وصولًا إلى إعلان أن قضية الصحراء هي “النظارة” التي يُنظر بها إلى العلاقات الخارجية للمملكة، ورفض المواقف المزدوجة. كما اعتمد المغرب نهج الحزم في علاقاته مع الشركاء، وأقرّ قوانين ترسيم حدوده البحرية، وتوّج ذلك بموجة اعترافات دولية متتالية، أبرزها الاعتراف الأمريكي، والمواقف الداعمة من إسبانيا وفرنسا وبريطانيا. كل هذه التحركات مهدت للإجماع المتزايد الذي عبّر عنه مجلس الأمن في قراره الأخير.
وباختصار، نحن أمام نصٍّ يؤسس لمرحلة جديدة في معالجة قضية الصحراء المغربية. فهو نموذج لما يمكن تسميته “الاجتهاد القانوني الواقعي”، الذي يجعل من القانون أداة لحل الأزمات لا عقبة أمامها. القرار 2797 يضع نقطة ارتكاز قانونية واضحة، ويُقلّص مساحة المناورة والعودة إلى المقاربات الفاشلة. إنه ينقل النقاش من “نزاع حول الشرعية” إلى “نقاش حول الحكامة”، ومن “قضية تصفية استعمار” إلى “قضية تدبير سياسي معاصر”. وباعتماده ودعمه الصريح للحكم الذاتي كإطار وأساس للتفاوض، يُرسّخ مجلس الأمن مسارًا واقعيًا واضح المعالم، يمكن أن يتكرس كنموذج معياري جديد في كيفية الموازنة بين مفهوم تقرير المصير، والسيادة الوطنية، ومتطلبات الاستقرار والأمن الإقليمي، بعيدًا عن منطق التجزئة والتفتيت الذي يهدد السلم والأمن في مناطق عديدة من العالم.