الفراولة المُرّة
حقول إسبانية تقطف زهرة شباب أمهات مغربيات اضطرّهن الفقر إلى مفارقة أطفالهن
*يونس مسكين وسعيد المرابط
في كل شتاء، حين تتهيّأ الحقول البلاستيكية في الجنوب الإسباني لموسم الفراولة، تتحرّك قوافل نسائية من القرى المغربية نحو موانئ العبور.
آلاف الأمهات، منهن المتزوّجات والأرامل والمطلقات، يتركن وراءهن أطفالا صغارا وأبوابا موصدة بالديون، ليعبرن البحر بعقود قصيرة الأمد، ممهورة بختم الوكالة الوطنية لإنعاش التشغيل والكفاءات، وبوعود عن أجر محترم وسكن لائق وتأمين صحي. لكن ما إن تطأ أقدامهن ضيعات “هويلفا” بالأندلس، حتى يبدأ الوجه الآخر للقصة: ساعات عمل طويل في بيوت بلاستيكية خانقة، وأجور زهيدة، ومساكن تفتقر لأبسط شروط الحياة، وغياب شبه تام لأي متابعة صحية أو قانونية.
خلف تلك الصورة المشرقة لحمرة الفراولة التي تزيّن رفوف المتاجر الأوروبية، هناك واقع يشي بأن هذا النظام ليس سوى ماكينة استغلال محكمة: إسبانيا تتباهى بأرقامها في التصدير – إذ تنتج مقاطعة هويلفا 97% من الفواكه الحمراء المصدّرة إلى أوروبا – والمغرب يتفاخر بأرقام التشغيل – أكثر من 15 ألف عاملة تُرسل كل موسم – بينما تُطحن النساء بين رحى فقر يرسلهن من قراهن واستغلال يستقبلهن عند حدود الضيعات.
قصص هؤلاء النساء ليست مجرد تفاصيل متناثرة، بل حلقات في سلسلة طويلة من القهر المنظم: فاطمة التي فرت من “سجن البلاستيك” لتعمل خادمة في مالقة بغير أوراق، عالية التي عادت إلى قريتها في “عين اللوح” مثقلة بحمل ومرض بعد سنوات من الكدح، وزهرة التي رُحّلت قسريا وهي على سرير السرطان لتجد نفسها في بيت إسمنتي عار بضواحي مكناس، تواجه الموت بلا ضمان ولا سند.
بين الروايات الرسمية التي تتحدث عن “الهجرة الدائرية المنظمة” وبرامج مثل “PRELSI” التي تضع المترجمين في خدمة أرباب العمل بدل العاملات، وبين الواقع الميداني حيث تسقط العدالة وتتوارى الرقابة وتُكمّم الأفواه، يتضح أن ما يُقدَّم كفرصة تمكين اقتصادي ليس سوى “مستودع بشري” مفتوح، تُستنزف فيه الأجساد كما تُستنزف التربة.
هذا التحقيق يأخذ القارئ في رحلة بين الضفتين: من المكاتب المكيفة في الرباط ومدريد حيث تُصاغ الأرقام والاتفاقيات، إلى القرى المعزولة في المغرب حيث يُنتقى “اليد العاملة المناسبة”، وصولا إلى الضيعات الإسبانية حيث يُختبر صبر النساء وحدود أجسادهن.
هي محاولة لرفع الستار عن مأساة موسمية تتكرّر كل عام، لكنها لم تجد بعد من يضع لها نهاية تحفظ كرامة النساء وحقهن في العمل والعيش.
نحن الآن في سنة 2019، الحرارة لا تطاق داخل البيوت البلاستيكية التي تغطي مزارع الفراولة الشاسعة، التغير المناخي يلقي بثقله على أوروبا، ورغم ذلك على فاطمة (اسم مستعار)، أن تتحمل وهي تبدأ العمل منذ السادسة صباحًا، وتشتغل عشر ساعات دون توقف.
كانت هذه الأم ذات الـ38 سنة، تمسك بيدها اليمنى الثمار، وبيسراها تمسح العرق المتصبب عن جبهتها، ولكن بعد طول تحمل، قررت الفرار، بحثًا عن لقمة عيش كريمة لأبنائها اليتامى.
منذ تلك السنة، لم ترَ فاطمة أبناءها الثلاثة في المغرب، بعدما جاءت تحمل عقدا، وأملا، وصورة وردية رسمتها لها وكالة “أنابيك” (ANAPEC) في مدينة العرائش، ولكن سرعان ما اصطدمت بواقع أقسى من الأرض التي كانت تنحني فوقها كل يوم.
“قالوا لي غادي تخلصي مزيان وكلشي موفر والأمان، ولكن لقيت راسي فبراكة مع ثلاثة د النسا اخرين، لا ضو لا ما لا كونطرادا طويلة”، (ستكسبين مالا وفيرا، وكل شيء مؤمّن. لكن الحقيقة، هي أننا كنا نعيش في كوخ صغير، ثلاث نساء على نفس الفرشة… لا كهرباء، ولا ماء، ولا حتى عقد دائم)، هكذا تلخص فاطمة القصة بدارجة مغربية واضحة.
قرّرت فاطمة أن تهرب من “سجن البلاستيك”، كما تصفه، لتبحث عن حلول أخرى، بطريقة غير نظامية، ولكنها أقل بكثير من حياة سجن الفراولة ذاك، ولذلك رأت أن الفرار هو الحل!
تُقيم فاطمة الآن في مدينة مالقة، تشتغل في بيوت الجالية المغربية هناك، تطبخ وتنظف، وتنتظر الحصول على وثائق الإقامة، عبر قانون التسوية الأخير، وتقول لـ”لسان المغرب”، إن هروبها من “حقول الذل كان قرارا حكيما”.
إنها قصص معاناة مزدوجة تُطوى بين ضفّتين: فقر يدفعهن من قراهنّ نحو عبور البحر، واحتقار يستقبلهنّ عند البيوت البلاستيكية. مغربيات يتركن وراءهن أطفالا وأفواها جائعة ونفقات مؤجَّلة وديونا صغيرة تكبر، ليجدن أنفسهن أمام ساعات عمل طويلة، وأجورٍ تُمنح كصدقات، وأوراق لا يفهمن لغتها، وتهديد دائم بالترحيل إن مرضن أو احتججن.
بين نظرة مجتمعٍ يلوم الضحية عند العودة خالية الوفاض، وخوف من مستقبل بلا سند، تتآكل أعصاب هؤلاء النساء في صمت: من تنام في العراء بعد «فترة اختبار» قاسية، ومن تُجبر على توقيع تنازل لا تدركه، ومن تُرحَّل وهي على سرير العلاج، ومن يتحوّل حملها إلى ذريعة لإقصائها.
هناك، تلمع الفراولة على الرفوف كبضاعة ممتازة، وهنا تُختزل أجساد العاملات إلى رموز شحن وأرقام ملفّات.
هذا التحقيق يرفع الستار عن تلك النهاية التي تبدأ من العوز، وتمرّ عبر الاستغلال، وتنتهي ـ أحيانا ـ بمشهد مأساوي لا يليق بكرامة إنسان.

من المغرب إلى العراء
في شهر يناير من كل عام، تسافر آلاف النساء المغربيات من القرى، والمدن الفقيرة في المغرب، إلى مزارع الأندلس لجني الفراولة، في إطار عمل موسمي يُعرف بـ”التوظيف في البلد الأصل”، عبر عقود عمل مؤقتة تمتد من 5 إلى 6 أشهر.
تعود بداية هذه التجربة، حسب دراسة للباحثة آمال قدّاوي همّت عيّنة من العاملات المغربيات المتحدّرات من منطقة بركان شرق المغرب، إلى العام 2002، حين وقّعت الوكالة الوطنية لإنعاش التشغيل مع إسبانيا، اتفاقية شراكة لتشغيل مهاجرات مغربيات لجني التوت والفراولة؛ تم بموجبها تشغيل 330 امرأة عاملة بعقد عمل محدود المدة، فكانت النتيجة أن 75% من هذا العدد لم يعدن لبلادهن.
وفي سنة 2004، تم تشغيل 474 امرأة عاملة وهن الأخريات، أغلبهن لم يعد الى المغرب، بل اختفت فئة منهن قبل الالتحاق بالحقول الفلاحية الإسبانية.
وفي سنة 2006، اعتمدت الوكالة الوطنية لإنعاش التشغيل والكفاءات مشروع “Cartaya AENEAS” وهو برنامج الدعم التقني والمالي للدول النامية في مجال الهجرة، بلغت تكلفته المالية حوالي 1.5 مليار أورو.
يهدف هذا الأخير إلى رصد تدفقات الهجرة السرية، وضمان عودة المهاجرات العاملات إلى بلدانهم فور الانتهاء من مراسم العمل وفق الاتفاقية الموقعة بين المملكة المغربية وإسبانيا. ولعل أهم شروط العمل وفق هذه الاتفاقية هي:
- عقدة عمل محددة المدة بين 3 و6 أشهر، بأجر ما بين 34 إلى 37 أورو في اليوم لمدة ست ساعات ونصف من العمل، قابلة للارتفاع والتعويض
- سكن يوفره المستخدم، وعطلة يوم واحد في الأسبوع، مع توفير وسيلة نقل من مكان السكن إلى حقل العمل
- تأمين طبي مضمون من إسبانيا والمغرب لفائدة المستخدم خلال مدة العمل، مع إمكانية استفادة الزوج والأبناء من تأمين المرض الذي تم تفعيله سنة 2009.

شروط سوف تتطوّر، حسب جواب الوكالة على أسئلة قمنا بتوجيهها إليها عبر وزارة الإدماج الاقتصادي والمقاولة الصغرى والتشغيل والكفاءات، لتصبح منذ 2018 كالتالي:
- أجر يومي متوسّط يصل إلى 57.95 يورو؛
- تعويض عن الساعات الإضافية؛
- تغطية صحية واجتماعية كاملة؛
- تكوينات في مجال الصحة والسلامة المهنية؛
- مساواة قانونية مع باقي الأجراء الإسبان في الحقوق والواجبات.
قبل سفرهن، تُقدَّم لهؤلاء العاملات، في المغرب، وعود بظروف عمل ملائمة وضمانات مهنية، لكن سرعان ما يتبدّد هذا الحلم عند الاصطدام بالواقع القاسي في الحقول الإسبانية.
تبدأ خيبات الأمل أحيانا مع أولى أيام العمل، وأحيانا أخرى في حالات المرض، حيث تتحوّل العلاقة التعاقدية إلى سلطة أحادية يملك فيها ربّ العمل قرار الترحيل، أو تجبر العاملات على البقاء بثمن قد يكون هو كرامتهن.
الحالات التي وقفت عليها “لسان المغرب” والتقت بها مباشرة، تثبت انعدام أي أثر لعقود التشغيل باللغة العربية، أو دورات التكوين المسبق، أو أدنى تلقين لأبجديات اللغة الإسبانية… وكلّها معطيات بسطتها أمامنا “عالية” التي سنزورها في منطقة “عين اللوح” الجبلية، بعدما خاضت التجربة لخمس سنوات وعادت منها مريضة ومهملة.
وفق جمعيات حقوقية إسبانية، من بينها منظمة العاملات في هويلفا (Jornaleras de Huelva en Lucha)، ورابطة حقوق الإنسان في الأندلس (Apdha)، “لا تلبث تلك العقود أن تتحول إلى فخ قانوني محكم”.
فخلال أول 15 يوما من العمل، تكون العاملة تحت “فترة اختبار”، إذا لم تُعجب ربّ العمل، تُطرد فورا دون تعويض، ولا يحق لها الانتقال للعمل في مكان آخر.
والنتيجة؟
كان هذا هو سؤال “لسان المغرب”، خلال إعداد هذا التحقيق، والجواب، حسب المصادر التي استشرناها، العديد من المغربيات يجدن أنفسهن في وضعية غير نظامية، نائمات في العراء، أو في أكواخ من الخشب والبلاستيك تسمى “تشابولاس”، بلا أجور ولا وثائق قانونية ولا أمل.
من الحقول إلى الإقصاء المؤسسي
عالية (اسم مستعار)، 44 سنة، عاملة موسمية مغربية، تنحدر من قرية “عين اللوح” بالأطلس المتوسط، وصلت في يناير 2025 إلى بلدة “بالوس دي لا فرونتيرا” (إقليم هويلفا)، ضمن المستفيدات من الهجرة الدائرية عبر عقود عمل من البلد الأصل، لتكتشف في أواخر شهر أبريل الماضي، أنها حامل في الشهر الخامس، بعد أن أمضت أسابيع وهي تجمع الفراولة في ضيعة تابعة لشركة “Frescoronel Quintero”.
ذهبنا إلى أعالي جبال الأطلس بحثا عن عالية قصد اللقاء بها مباشرة، وهي العائدة حديثا إلى المغرب دون علاج ولا تعويض.
تبدأ الطريق إلى “عين اللوح” ضيقة ومتعرّجة، كأنها تشقّ الجبل بصبر قديم. نغادر آخر محطة حضرية ومعها اختفى الإسفلت الأملس. حفرٌ متفرقة، وحواجز ترابية، وشريط شبكة هاتفية يتقطّع بين الحين والآخر، فيما سيارات الأجرة المشتركة تمضي مثقلة بالأجساد والأكياس.
كلّما اقتربنا من “عين اللوح” تتبدّل الوجوه والألوان. أكواخ متباعدة بسقوف قصديرية، ومواش هزيلة ترعى في سفوح جافة، وأطفال يلوّحون بدلاء الماء على حافّة الطريق، ونساء يحملن حطبا يفوق طاقة أكتافهن. وعلى جانبي الطريق، باعة موسميون يفترشون الأرض: بصل، وتفاح صغير الحجم، وأعشاب طبية، وكل شيء معلّق بمزاج الموسم والمطر.
في مثل هذه المناطق يتم البحث عن العاملات “الملائمات” للحقول الإسبانية. دراسة أنجزتها وكالة “أنابيك” بشراكة مع منظمة الهجرة العالمية ونُشرت عام 2022، كشفت أن أكثر من نصف ملفات الترشيح المقدمة من النساء الراغبات في العمل الموسمي بإسبانيا مصدرها وكالات محلية في مدن بعينها مثل سيدي قاسم، والعرائش، وسيدي سليمان، والخميسات، وقلعة السراغنة، والجديدة.
فالمناطق التي تعرف تاريخيا بزراعة الفراولة، وخاصة القريبة من القنيطرة ومولاي بوسلهام حيث الحضور الإسباني قائم منذ عقود، تظل الأكثر تزويدا للحقول الأندلسية باليد العاملة النسائية.
هذا ما يفسر أن جهة الرباط-سلا-القنيطرة وحدها أرسلت في 2021 أكثر من ثلث العدد الإجمالي (حوالي 4175 امرأة)، فيما حلّت جهة طنجة-تطوان-الحسيمة في المرتبة الثانية بـقرابة ألفي عاملة موسمية.
نعود إلى قصة عالية، التي وجدناها عند أطراف عين اللوح، حيث تتساوى البيوت في التواضع: جدران متصدّعة، نوافذ صغيرة بعوارض حديدية، وفناءات ترابية تُجفّف فيها ملابس قليلة اللون.
هنا، تُقاس المسافات بزمن السير على الأقدام: إلى المدرسة نصف ساعة، إلى المستوصف ساعة، وإلى أقرب إدارة يوم كامل بين ذهابٍ وإياب.

في “صالون” بين متواضع، تجلس أمامنا امرأة في عقدها الرابع، ملامحها هادئة لكن يكسوها أثر معاناة واضحة. ترتدي قميصا فاتح اللون تتخلله زخارف بسيطة، وتغطي رأسها بوشاح (حجاب) بدرجات الأزرق الفاتح المائل إلى الأخضر، وعيناها واسعتان تعكسان مزيجا من التعب والصرامة، كأنهما تختزن سنوات من الصمت والانتظار.
تحدّثت إلينا بيديها أكثر من لسانها، وكانتا تحملان بدورهما إشارات لا تخطئها العين: آثار عمل شاق يظهر على البشرة، مع تشققات طفيفة، إضافة إلى لون الحناء التقليدي الذي يذكّر بجذورها الأمازيغية.
خلال حديثها، كانت تحرص على استعمال يديها للتأكيد، فتنقل بكلماتها وصمتها معا صدق التجربة وحرارة المعاناة. بينما صوتها حازم، يخرج كأنه شهادة وصرخة في آن واحد، محاولة أن تمنح لمعاناتها ومعاناة أخريات وجها وصوتا، ولو من وراء حجاب الخصوصية.
بسطت أمامنا، فوق مائدة طعام متواضعة، كل عقود عملها في المرات الخمس السابقة، وطلبت ألا تُنشر صورتها، ليس خجلا ولا خوفا من رواية الحقيقة، بل حرصا على حماية حياتها الشخصية وأفراد أسرتها من أي تبعات محتملة.
تنفي عالية في حديثها الموثّق بكاميرا “لسان المغرب” وجود أية مضايقات من النوع الذي شاع الحديث عنه، بما فيها التحرش والاستغلال الجنسي، وهي التي تردّدت على الحقول الإسبانية لخمس سنوات متتالية.
لكن، وفي متمّ شهر ماي 2025، سقطت عالية وسط الحقل بعدما تعثرت بقطعة حديد، ما تسبب في ارتطام ركبتيها وضغط على بطنها خلّف نزيفا مهبليا. ورغم خطورة الوضع، رفضت المشرفة نقلها إلى المستشفى، وأمرت السائق بإعادتها إلى السكن.
طلبت زميلة لها مساعدة خاصة، فتم نقلها من طرف مغربي يقيم هناك إلى مركز صحي محلي، لكن المركز رفض استقبالها لغياب ممثل الشركة.
بعد يومين، منحها طبيب إسباني إجازة مرضية، لكنها سُجّلت بتشخيص عام “آلام في الظهر”، دون أية إشارة للحمل، الذي كان في أسبوعه الـ 24، أي في الشهر الـ 6، والذي شخص بأنه خطير وقد يؤثر على صحتها وعلى الجنين، ولم تتم الإشارة أيضًا إلى الحادث. ورغم تقديمها المستندات للضمان الاجتماعي، لم تتلق أي إعانة مالية حتى اليوم.
خلال يونيو الماضي، حصلت على مواعيد متفرقة تخص الرعاية الأولية، بينها موعد أول مع القابلة في 25 يونيو، لكن لم يوفّر لها مترجم، ولم تفهم ما قيل لها في الاستشارات، كما لم تتسلم نتائج الفحوصات أو الأشعة، ولم يُفعَّل بروتوكول متابعة حملها عالي الخطورة، رغم إصابتها السابقة بسكري الحمل.
وفي الـ 14 من يوليوز، أبلغتها الخدمات الصحية الأندلسية (SAS) بقرار “إنهاء الإجازة المرضية” عبر رسالة نصية قصيرة.
لم يكتف القرار باعتبارها متعافية، بل منعها أيضا من الاستفادة من إجازة مرضية جديدة لستة أشهر، حتى وإن وُصفت لها من طبيب الأسرة، إلا بإذن خاص من وحدة تقييم العجز.
كان هذا القرار استثنائيا؛ واعتبره خبراء قانون استشارتهم “لسان المغرب”، “آلية إقصاء مؤسسي”، الهدف منها “إسقاط حماية الحوامل والعاملات الأجنبيات من النظام العام”.
عند نهاية الموسم “أتت صاحبة الشركة وزوجها وطلبا مني المغادرة. طلبتُ منهما منحي فرصة لمتابعة وضعي الصحي ووضع الحمل، لكنهما هدداني إن لم أغادر إلى المغرب فلن أعود للعمل أبدا”، تسرد عالية.
الشهادة الموثقة لدينا على لسان عالية، ورغم أنها تتعلّق بقصة مرضها وترحيلها، إلا أنها تكشف الكثير من التفاصيل المعبّرة، كأن تكون اللغة حاجزا وسببا لمعاناة مضاعفة، تعجز معها العاملات حتى عن نقل معاناتهن (نقولو “شنو ضارنا” بتعبير عالية).
وبينما تتحدث التقارير الرسمية عن تكوين ودعم لغوي للعاملات؛ تكشف لنا هذه السيدة كيف أنها لم تكن تتوفر حتى على حساب بنكي، ولا تتلقى أجرها عبر تحويل قانوني، بل ظلّت تتسلّم أجرتها “كاش” في ظرف كأي عامل غير نظامي.

وبينما يتيح القانون الإسباني لهذه الأخيرة أن تظل في إسبانيا إلى أن تطمئن على حملها وتضع جنينها، إلا أن صاحبة العمل ضغطت عليها للعودة إلى المغرب، وهدّدتها بالحرمان من أي عمل مستقبلا في مزارع إسبانيا. ورغم هذا التهديد، تمسكت العاملة المغربية بالبقاء لإتمام مواعيدها الطبية وللمطالبة بمستحقاتها.
ورغم أنها تعمل منذ خمس سنوات في نفس المزرعة بموجب عقود موسمية، لم يزرها أي جهاز رقابة أو وساطة رسمي في مكان إقامتها. الزيارة الوحيدة التي تذكرها كانت من منظمة حقوقية تدافع عن العاملات، لكن الزيارة قوبلت “برد عدائي من مسؤولة المزرعة”، ومنذ ذلك الحين عشن في عزلة تامة عن أي دعم أو حماية.
حسب الوثائق التي توفرت لصحيفة “لسان المغرب”، تكشف حالة عالية، عن سلسلة من الانتهاكات: حرمان من العلاج بعد حادث شغل، وإجازة مرضية بلا تعويض، ومتابعة صحية ناقصة، وغياب الترجمة، وتمييز بسبب الحمل، وقرار رسمي يقنن الإقصاء بدل إصلاحه؛ نتج عنه إهمال، وحرمان من الحقوق، وتزوير تقارير طبية.
قضية هذه العاملة ليست حادثا فرديا، بل نموذج متكرر في حقول “هويلفا” حيث تعمل آلاف المغربيات. ولكنها تُظهر كيف يتقاطع الإهمال الطبي، والضغط المهني، والقصور المؤسسي، في إنتاج دائرة مغلقة من الحرمان، حيث يتحول الحمل إلى سبب إضافي للهشاشة بدل أن يكون موجبًا للحماية.
الأمومة مقابل العمل!
تعتبر الوكالة الوطنية لإنعاش التشغيل والكفاءات (ANAPEC)، الطرف الذي يشرف على اختيار العاملات، بناء على طلبات تقدّمها المزارع عن طريق السفارة الإسبانية في الرباط.
الشروط واضحة لكنها قاسية: يجب أن تكون المرأة المترشحة للعمل في سن بين 18 و44 سنة، وأن تكون أمًا، ويفضل أيضا أن تكون أرملة أو مطلقة؛ أي راعية وحيدة لأطفالها.
سألنا “أنابيك” لماذا تعتمد شروط مثل التوفّر على أبناء، في المرأة التي تتقدّم لطلب العمل وفق هذه العقود؟ فكان الجواب أن اعتماد معايير اجتماعية كالأمومة، أو وضعية الأرامل والمطلقات، لا يرمي إلى التمييز، بل هو “تفضيل إيجابي مؤطر بمنطق العدالة الاجتماعية”.
كيف ذلك؟ تواصل “أنابيك” في جوابها: “هؤلاء النساء يتحمّلن، في الغالب، مسؤولية إعالة أسر في ظروف اقتصادية صعبة، وندرك جيّدا حجم التحدّيات اليومية التي يواجهنها في الوسط القروي. من الواجب أن تعطى الأولوية لهذه الفئات في الولوج إلى فرص العمل التي من شأنها تحسين أوضاعهن وأوضاع أسرهن”.
فيما تشرح آنا بينتو، الحقوقية الإسبانية التي تدافع عن العاملات بشراسة، أن هذه الشروط ليست عشوائية، بل مدروسة “لضمان العودة”، وترجع ذلك إلى أن “الأم التي تترك أبناءها في المغرب، حسب منطق المشغلين، لن تفكر في البقاء في إسبانيا، كما أنهم ينظرون إليها على أنها ستكون أكثر خضوعا، وأقل تمرّدا، وأرخص تكلفة اجتماعية”.

“إنه نموذج استغلالي مبني على الجندر والفقر في آن واحد”، تلخص بينتو الصورة في تصريحها لـ”لسان المغرب”.
في كتابها “نساء الفراولة”، تكشف الباحثة المغربية شادية أعراب، أستاذة الجغرافيا الاجتماعية بالمركز الوطني للبحث العلمي بفرنسا (CNRS)، أن هذا النظام “يُبنى على معايير تمييزية صارمة”، حيث “يتم انتقاؤهن غالبا من بين النساء الفقيرات والأميات، ما يجعلهن في وضع هشّ يسهّل إخضاعهن.
وتشير أعراب إلى أن هذه “الهجرة المُقننة، لا تراعي سوى منطق الإنتاج، في حين تُقصي كرامة النساء من أولوياتها”.
أما الباحثة المغربية إلهام الشجري، المتخصصة في قانون العمل والضمان الاجتماعي بجامعة “مرسية”، فقد وثقت في دراستها (سنة 2020) ما وصفته بـ”نظام استغلالي ممنهج”.
وتكشف الشجري أن العاملات “يعملن لساعات طويلة، تصل إلى عشر ساعات يوميا، داخل البيوت البلاستيكية وتحت درجات حرارة مرتفعة، مقابل أجور زهيدة لا تعكس الأرباح الضخمة التي تتجاوز 437 مليون يورو سنويا من صادرات الفراولة”.
وتضيف الدراسة أن “ظروف السكن مزرية، وأن الانتهاكات لا تتوقف عند حدود الاستغلال الاقتصادي، بل تشمل التحرش والاغتصاب، بل وحتى حالات إجهاض قسري؛ حيث شكّلت المغربيات 90 بالمائة من حالات الإجهاض في بعض مناطق هويلفا سنة 2016”.
وتُجمع الباحثتان على أن النظام، وإن كان قانونيا على الورق، يظل ظالما على الأرض؛ إذ يحاصر النساء بشروط تمييزية، ويدفعهن إلى قبول ظروف عمل غير إنسانية، فيما يُفلت الجناة من العقاب بسبب الخوف من الترحيل والحواجز اللغوية.
ورغم صدور أوامر من وزارة العمل الإسبانية لتحسين الظروف، إلا أن التغيير الملموس ظل محدودا، وبقيت كرامة النساء خارج الحسابات.
وتكشف دراسة باحثة مغربية أخرى، هي آمال قداوي، والتي همّت عاملات من منطقة بركان، كيف تستثمر النساء أموالهن، في حال عودتهن بما أن غالبية العاملات في التجارب الأولى كنّ يفضّلن البقاء في إسبانيا في وضعية غير قانونية، أولا في شراء المنزل عن طريق شراء غرفة معيشة أو أدوات منزلية (ثلاجة تلفزيون، هاتف فرن…. إلخ)؛ ويربطن المنازل بشبكة الكهرباء أو شبكة المياه الصالحة للشرب لمن لم يكن لديهن. أما بعضهن فيدخرن مالهن، حتّى يمكنهن شراء شقة صغيرة أو بقعة أرضية لبناء منزل.
“جعلوني أرى الموت ثم تخلّصوا مني”
أثناء إعداد هذا التحقيق، وبينما كانت “لسان المغرب”، تفتش في كثبان المعطيات، وتجمع الشهادات، كانت عاملة مغربية أخرى تُرحَّل قسرا نحو الوطن، بعدما تم تشخيص مرضها بسرطان متقدم المراحل.
كانت تلك المرأة التي حدثتنا في بيتها المتواضع في بلدة “بودربالة” التي تقع في ضواحي مدينة مكناس؛ بحديث لم يكن يكشف عن مغرب يعيش بسرعتين، بل عن مغاربة يعيشون خارج مقياس السرعة، ولا يملكون سوى بعض الأحلام في غد أفضل سرعان ما تحولت إلى كابوس.
في بيت متواضع بجدران عارية تفوح منها رطوبة الفقر، استقبلتنا السيدة زهرة، إحدى نساء قرية بودربالة النائية ضواحي مكناس. جلست على فراش بسيط مغطى بأغطية سميكة متعددة الألوان، وقد بدا أن كل ركن في الغرفة يحكي عن حياة يومية قاسية، يثقلها الحرمان وشح الإمكانات.

كانت زهرة ترتدي فستانا قرويا مزركشا بالأحمر والأرجواني، وقد لفّت رأسها بوشاح بيج يغطي شعرها ويترك وجهها مكشوفا.
ملامحها مرهقة، وعيناها غارقتان في تعب طويل، كأنهما مرآة لسنوات من العمل الشاق والهموم المتراكمة. بدت مستندة إلى الحائط، بيد تحمل رأسها المنهك، فيما الأخرى مسترخية على جسدها، في وضعية تنطق بالإنهاك أكثر مما تقول الكلمات.
إلى جوارها، تظهر بقايا الحياة اليومية: هاتف قديم، أدوية وعلب دواء متناثرة، ودفتر يشي بمحاولات تنظيم ما تبقى من تفاصيل حياتية وسط ضيق الحال. حضورها كان صريحا وبسيطا، بلا أقنعة، كأنها تقول بملامحها وصمتها أكثر مما قد تبوح به الشفاه.
لا تتحدث زهرة عن معاناتها الشخصية فقط، بل تجسد من خلال قصتها صورة أوسع لنساء قريتها اللواتي يواجهن قسوة العيش بلا سند، ويستقبلن كل يوم بأمل ضئيل وإصرار صامت.

ضربنا موعدا مع زهرة بعد وساطات واتصالات أقنعتها وكسبت ثقتها. تنطلق الرحلة نحو “بودربالة” من مكناس باتجاه الضواحي الشرقية غير بعيد عن مدينة الحاجب، حيث يتبدد العمران شيئا فشيئا، وتتحول البنايات الصلبة إلى بيوت متفرقة، يتسع بينها الفراغ بقدر ما يضيق الأفق.
على جانبي الطريق، تتناثر الحقول الفلاحية، وبعض بساتين الزيتون التي قاومت رغم كل شيء، فيما الأطفال حفاة يتسابقون وراء السيارات العابرة كأنها حدث نادر.
تتعرج الطريق بين منحدرات صغيرة وسهول منبسطة، لكن علامات البؤس تظل ثابتة: سيارات مهترئة محملة بما يفوق طاقتها، بقايا أسواق مهجورة، وآبار تقليدية يعلوها الصدأ. وحين تدخل حدود بودربالة، تكتشف بلدة تكاد تكون منسية؛ شوارع ضيقة يغطيها الغبار، دكاكين متواضعة بالكاد تفتح أبوابها ولا تبيع سوى الضروريات البسيطة.

هناك، على يمين الطريق الرئيسية ننعطف نحو حي شعبي، تتوارى زهرة في بيت غير مكتمل البناء، دلّتنا عليه عبر الاتصال الهاتفي، بعدما توجهنا إلى بيتها السابق، والذي اكتشفنا أنها اضطرت لتركه لاستعادة مبلغ “الرهن” الذي كان في حوزة المالك، واضطرت لكراء هذا البيت غير المكتمل حتى تنفق أموال “رهنها” السابق على علاجها المكلّف.
جدران عارية إلا من لون الإسمنت، أثاث كل ما فيه بضع بطاطين قديمة ومتآكلة مفروشة فوق أرضية أسمنتية باردة، وأجواء توحي بأن الحياة هنا لا تعيش بل تتشبث بالبقاء.
حين جلسنا أمامها وهي مستلقية على فراش المرض، لم تكن شهادتها صدى لمعاناتها في الحقول الإسبانية فقط، بل أيضا مرآة لمعاناة هذه الأرض التي خرجت منها.
بدا واضحا أن الطريق إلى بودربالة لم يكن مجرد طريق جغرافي، بل رحلة في صميم الأسباب التي تدفع نساء مثل زهرة إلى اقتلاع أنفسهن من جذورهن، بحثا عن فرصة عمل، وعن كرامة تُسرق منهن مرتين: مرة في الوطن، ومرة في الغربة.

الأصلية
كانت شهادة زهرة لـ”لسان المغرب” مؤلمة وصادمة، وتختزل معاناة إنسانية عميقة لامرأة مغربية هاجرت بحثا عن لقمة العيش، لكنها واجهت الإهمال، والاستغلال، والمرض، والخذلان، في لحظة احتاجت فيها للرعاية والكرامة، بعدما كلّفتها هذه التجربة المهنية زواجها الذي فضّ بعد خلافات طويلة مع الزوج.
“قالوا لي: إذا أردتِ العودة لرؤية أبنائك، فمرحبا، وإذا أردتِ العودة في تابوت… أيضا مرحبا”. بهذه العبارة الباردة لخّص مترجم مغربي يعمل لصالح برنامج “PRELSI”؛ كلام الطبيب الإسباني لزهرة؛ العاملة المغربية التي كانت قبل شهور تجمع الفراولة في ضيعات “هويلفا”، قبل أن تصبح فجأة “حالة ميؤوسا منها” تُعاد بصمت إلى بلدها، كأنها شيء غير مرغوب فيه.
“لا أريد موتا صامتا”
تنحدر زُهرة من مدينة الحاجب، نواحي مكناس، سافرت إلى إسبانيا لأول مرة، سنة 2018، عبر وكالة “أنابيك”. سافرت لأنها كانت تبحث عن مورد للعيش، وعلاج لابنها المريض في مكناس.
تقول إنها قدّمت الطلب في لحظة يأس، تركت ابنها في المستشفى، وذهبت تُراهن على عقد عمل موسمي، بعدها تم استدعاؤها إلى مكناس، قُبل ملفها، وسافرت رفقة مجموعة من النساء إلى الضيعات الإسبانية.
كانت زهرة تتلقى، في كل سنة، اتصالا جديدا يدعوها للعمل، فتذهب في يناير وتعود في يونيو، فقد أصبحت تعرف طريقة العمل وأصبحت المزارع تعرفها.
عملت زهرة، التي انتصف عقدها الخامس، في جني الفراولة مقابل 53 يورو في اليوم، في ظروف قاسية، لكنها تصف مسؤول العمل بـ”buena gente”، (شخصٌ طيب)، لم تكن تشتكي، بل كانت تعتبر العمل فرصة للحياة.
خلال موسم 2025، بدأت تشعر بأعراض مرضية في الكلى أو المسالك البولية، زارت الأطباء مرات عديدة، لكنها لم تحصل سوى على المهدّئات. كانت تعود للعمل رغم الألم! وفي شهر أبريل، تفاقمت حالتها، لتصاب يوم 11 ماي الماضي، بنوبة مفاجئة نتج عنها دخولها في غيبوبة.
نُقلت زهرة إثر ذلك إلى المستشفى، وهناك خلصت نتائج الكشف والفحوصات إلى أنها مصابة بسرطان في الأمعاء وعنق الرحم والمثانة، مع انتشار محتمل إلى الرئتين.
مكثت 11 يوما في المستشفى، وكان المشرف الإسباني يزورها باستمرار. أخبروه لاحقًا أن زُهرة يجب أن تعود إلى المنزل، وألا تتعرض لأي ضغط، لأن حالتها لا تتحمل ذلك.
وبعد أيام قليلة، تم تحديد موعد لها من أجل العلاج الكيميائي، وصلت إلى المستشفى، رفقة مترجم مغربي، وهناك أخبرها الطبيب – بواسطة المترجم – أن مرضها لا علاج له.
قال لي بالحرف: “سرطانك سريع الانتشار، وقد وصل إلى الرئتين والكبد، حتى لو بدأنا العلاج، فلن يتبق لك أكثر من شهر؛ إذا أردت أن تري أبناءك مجددا، فعودي، وإن أردتِ الموت هنا، فأنتِ حرة”، تؤكد زهرة في حديثها معنا.
على الطرف الآخر من المكالمة سمعت ابنتها الكبرى ما قاله المترجم… فقالت لها باكية: “إذا كان الموت قادمًا لا محالة، فعودي إلينا، دعينا نحتضنك ونودعك، دعينا نراك”.
اتخذت زُهرة قرارها، وافقت على العودة، لكنها لم تكن تعرف أن الموافقة تعني أيضًا التوقيع على أوراق لا تعرف مضمونها.
تقول لـ”لسان المغرب”: “كنت لا أرى أمامي سوى الموت، ولكنني لم أكن قادرة على التفكير، وقّعت على الوثائق دون أن أعلم على ماذا تنطوي”.
في أحد الصباحات، أُعيدت زُهرة إلى منزل المشرف، لتنقل بعدها في حافلة إلى الباخرة، رفقة باقي العاملات، دون أية مساعدة طبية تُذكر، وهي في وضع صحي حرج، الوجهة: المغرب.
على الضفة الأخرى، وتحديدا في طنجة، استقبلها بعض المحسنين، وأعادوها إلى بلدة بودربالة، لم تحصل على أجرها لشهري أبريل وماي، ولم تُعوض عن إصابتها، ولم يُعرض عليها أي دعم!
هكذا بكل بساطة، وفق شهادتها.

عادت زُهرة إلى بلادها وهي تظن أن الموت مسألة أيام، لكن المفاجأة كانت في الفحوصات الطبية التي أجرتها في المغرب، والتي أظهرت أن السرطان لم يصل إلى الرئتين، وأن حالتها قابلة للعلاج.
بدأت حصص العلاج الكيميائي، وأنفقت حوالي 60.000 درهم استعادتها من رهن للبيت الذي كانت تقيم فيه.
تقول في حديثها لـ”لسان المغرب”: “لقد تركت المنزل الذي كنت أقطنه بالرهن، ولا أملك شيئا، لا عمل، ولا ضمان، ولا دخل، حتى كراء البيت لم أستطع دفعه، وصاحب المنزل طلب مني المغادرة”.
تعيش زُهرة اليوم على تبرعات المحسنين، في انتظار العلاج، وهي تحمل بطاقة إقامة في إسبانيا، لا تمنحها شيئًا.
لم تتلقّ أي دعم من الـ”أنابيك”، ولا من أية مؤسسة عمومية، ولم يُفتح تحقيق في حالتها، هي الآن تطلب فقط فرصة للعلاج، و العيش بكرامة بين أبنائها.
في ختام حديثها الموجع لـ”لسان المغرب” تقول هذه المرأة المنتمية للمغاربة “غير المرئيين”، إنها لم تطلب شيئًا كبيرا، “أطلب فقط أن أُعالج، وأن أعيش؛ لا أريد أن أموت صامتة، بعد كل هذا التعب، بعد أن اشتغلت ومرضت، ثم رُحّلت وكأنني لا شيء”.
حين يتولى الذئب رعاية الحملان
عن سؤال “ماذا حدث؟”، و”كيف حدث؟”، يكشف لـ”لسان المغرب”، الصحافي الإسباني بيريكو إيتشيباريا، خيوط هذه القصة من زاوية أخرى، زاوية تقنية وإدارية أكثر؛ مؤكّدا أن ما تعرضت له زهرةُ “لا يمكن اعتباره حادثا معزولا، بل هو تجسيد لنموذج ممنهج من الانتهاك المنظم”.
يقول إيتشيباريا إن زهرة “مسجَّلة في الضمان الاجتماعي الإسباني، شُخّصت حالتها بسرطان من الدرجة الرابعة، وكان من المفترض أن تبقى في إسبانيا لتلقي الرعاية الصحية اللازمة”.
غير أن ما حدث، يضيف بيريكو، هو العكس تماما، حيث إنه “لم تُسجّل لها أية إجازة مرضية، ولم يفتح لها أي ملف عجز مؤقت، ولم تحصل على أي تعويض أو ضمان اجتماعي، بل تم ترحيلها إلى المغرب بشكل مفاجئ، دون حماية”.
ويؤكد الصحافي الإسباني، المتخصص في قضايا العمال الزراعيين في “هويلفا”، أن جهات عدة، من بينها برنامج “PRELSI” التابع للوبي الفراولة في إقليم هويلفا، “هي من حرّكت عملية الترحيل، وروّجت لاحقا لرواية مفادها أن زهرة عادت طواعية، وأنها تخلّت بإرادتها عن حقوقها”.
ويضيف إيتشيباريا أن جمعيات مدنية، من بينها “جمعية النساء المهاجرات” (AMIA)، كانت على علم بالقضية قبل ساعات من ترحيل زُهرة، وأبلغته بقضيتها، بعد أن عبّرت هذه الأخيرة عن “خوفها الشديد من الترحيل القسري، وطلبت المساعدة”.

لكن ورغم ذلك، “تم إخراجها من المزرعة التي كانت تقيم فيها، دون محام، ودون تدخل من الجهات الصحية أو العمالية أو القضائية”، يوضح الصحافي.
ويرى هذا الأخير أن ما جرى لزهرة “ليس مجرد خطأ إداري أو تقصير فردي، بل نتيجة مباشرة لمنظومة تُفوّض حماية حقوق العاملات إلى هيكل تابع لأرباب العمل، دون رقابة مؤسساتية”، وهو ما يمكن أن نصفه “تكليف الذئب برعاية الحملان”.
ويصف برنامج “PRELSI” بأنه ليس جهة مستقلة، بل “ذراع تنفيذية للوبي اقتصادي يتحكم في ظروف العمل والسكن، وحتى الوصول إلى العلاج، وأصبحت له سلطة تحديد من يتم ترحيله ومن يُعالج، في غياب أي قدر من الشفافية”.
ويختم إيتشيباريا شهادته لـ”لسان المغرب”، بالتأكيد على أن زُهرة “كانت تملك حقوقًا واضحة، بناء على اشتراكاتها في الضمان الاجتماعي الإسباني، وتشخيصها الطبي الموثق، وكان من حقها البقاء في إسبانيا لتلقي العلاج والرعاية الطبية اللازمة”.
لكن النظام، حسب قوله، “حوّل حقوقها إلى استمارات بيروقراطية، وجعل من التنازل الإجباري حيلة قانونية لطردها في صمت”.
قناع الرعاية على وجه الاستغلال
كان المترجم الذي ساهم في طرد زهرة، ومعاناة غيرها، حسب ما تحراه مُعد هذا التحقيق، تابعًا لبرنامجٍ رسمي يسمى “PRELSI”، أُطلق في يناير 2020، على يد اللوبي الفلاحي المعروف بـ”الاتحاد المهني Interfresa”، ويهدف إلى تحسين ظروف العمل وفقا لما يقول إنه “المسؤولية الأخلاقية والاجتماعية والعمالية”، ويتضمّن وسطاء يُجيدون الإسبانية والعربية والدارجة، يتمركزون في المزارع لتسهيل التواصل مع العاملات المغربيات.
ووفق شهادات عاملات مغربيات، وتأكيدات حقوقيين استشارتهم “لسان المغرب”، فإن “PRELSI” “يعمل كآلية للرقابة على العاملات بدل أن يوفر لهن حماية حقيقية”، إنه “عصا لوبي الفلاحين الكبار”.
تُعرّف الناشطة الحقوقية الإسبانية أنا بينتو من منظمة “Jornaleras de Huelva en Lucha”، في حديثها مع “لسان المغرب”، برنامج “PRELSI”، بأنه “مجموعة من المترجمين، توظفهم الشركات، وهم في الواقع يتصرفون كمدافعين عن أصحاب العمل وليس عن العاملات”.
وتوضح بينتو أنه عندما تحاول إحدى العاملات تقديم شكوى أو ملاحظة تجاوز، “غالبا ما يتم إبلاغ صاحب العمل أولا، والضغط عليها حتى تصمت؛ مما يؤدي إلى تراجعها عن الشكوى لاحقًا”.
وترى بينتو أن “إعادة تصميم هذا النظام أصبحت ضرورة”، ضمانا لمرافقة مستقلة للعاملات، ولمعرفة حقوقهن باللغة العربية، مع “وجود رقابة شفافة من نقابات أو مؤسسات حقوقية في مراكز العمل والسكن، تكون عينًا على هذا النظام”.
من مكتبه في بيته، بمدينة هويلفا، يشرح لـ”لسان المغرب”، الصحافي الإسباني المتخصص في الصناعة الزراعية بالأندلس، وأحد الأصوات البارزة في الدفاع عن حقوق العاملات المغربيات في الحقول، بيريكو إيتشيفاريا، ماهو هذا البرنامج.
هو اختصار لـ Plan de Responsabilidad Ética, Laboral, Social e Igualdad، وقد أسسته Interfresa الجهة الممثلة لصناعة الفراولة في إقليم الأندلس، منذ سنوات ضمن آلية التعاقد من البلد الأصل contratación en origen، الذي يُستخدم سنويا لتوظيف ما بين 10 آلاف و15 ألف عاملة مغربية كل سنة”.
ويضيف بيريكو أن “نظام التوظيف هذا يُنتقد بقوة لكونه يقوم على هشاشة قانونية حقوق النساء، إذ يتم اختيار أمهات صغيرات بهدف ضمان عودتهن، ويعانين من عزلة كبيرة، مع اعتماد كامل على أرباب العمل في المعيشة والإقامة والوثائق القانونية”.

وفي مقابل، ما تدّعيه “Interfresa”، من أن القائمين على البرنامج يعملون على “احترام الحقوق وتعزيز السلام الاجتماعي داخل الضيعات الزراعية، وأن النظام يطبق بنطاق واسع، وأن 90 بالمائة من المزارع تلتزم به”؛، يؤكد بيريكو لـ”لسان المغرب”، أنه “يُستخدم كوسيط يوحي بالعزل والرقابة”.
فعند محاولة تقديم شكوى، يُطلب أولًا نقل التفاصيل إلى أصحاب العمل قبل اتخاذ أي إجراء رسمي، وهو ما يؤدي غالبا إلى تراجع العاملة عن الشكوى بسبب الخوف “في حالات كثيرة شاهدنا طردا وترحيلا لعاملات قدمن شكاوى أو انتقادات لظروف العمل”.
ما يقوله هذا الصحافي الإسباني، تعززه بيانات وتقارير الـ”SAT” (النقابة الأندلسية للعمال) التي تؤكد بالحرف أن النظام “مصمم لدفن القضايا وإضعاف الشجاعة في التقدم بشكاوى، وليس لحماية حقوق العاملات”.
“مستودع بشري”
وراء حقول الفراولة، والصورة البراقة لحمرة هذه الفاكهة؛ تختبئ إذن معاناة قاسية للعاملات الموسميات، القادمات من المغرب، حيث إن ما يفترض أن يكون تجربة عمل منظَّمة تحكمها القوانين الإسبانية والأوروبية؛ يتحول إلى واقع من المأساة الإنسانية؛ في سكن غير لائق، مع غياب الرعاية الصحية، وتعرض النساء لأشكال من الاستغلال والإهمال المؤسساتي، في فضاء أقرب ما يكون إلى “مستودع بشري”، منه إلى سوق عمل قانوني.
ويرى شادي بخاري، الناطق باسم مجموعة “BORDER RÉSISTANCE” (حدودٌ مُقاومَة)، في تصريح لـ”لسان المغرب”، بخصوص وضعية العاملات الموسميات، أن “إقليم هويلبا، تحول من إقليم يقع في دولة أوروبية، تخضع للقوانين الإسبانية والأوروبية إلى فضاء أشبه بمستودع للمواد الخام تمارس فيه أنشطة استخراجية مدمرة للأرض والبيئة، وتستغل فيه أجساد النساء العاملات، المغربيات خاصة، أشد استغلال، إضافة إلى نساء مهاجرات من جنسيات أخرى”.
ويؤكد الناشط في مجال الهجرة، أن “السكن الذي يفترض أن يوفره المشغل حسب القانون لا يستوفي الشروط الأساسية، حيث تقيم العاملات في مساكن مؤقتة وغير صالحة للسكن” ، تفتقر للماء والكهرباء والتهوية والحمامات، مما يشكل خطرا مباشرا على الصحة الجسدية والنفسية”.

“تعرضت هذه المساكن الهشة أكثر من مرة لحرائق خلفت عشرات المشردين، دون أية استجابة سريعة أو حلول بديلة من السلطات المحلية”، يوضح بخاري.
ويشير الناشط إلى “غياب شبه تام للمتابعة الصحية، رغم أن العقود تنص على تأمين صحي؛ حيث إن كثيرا من العاملات لا يحصلن على بطاقات صحية، أو يحرمن منها بعد انتهاء العلاج، مما يضطرهن إلى دفع تكاليف العلاج والأدوية بأنفسهن، رغم هشاشة وضعهن الاقتصادي والاجتماعي”.
وأكد المتحدث أن “العاملات يتعرضنَ أيضا لأشكال متعددة من الإهمال المؤسساتي والعنصرية اليومية، والتي تمتد لتشمل صمتا إداريا عن الانتهاكات، وأحيانا تواطؤا مع شبكات أصحاب الأراضي.
كما أن غياب آليات الرقابة يفتح المجال أمام ممارسات تمس جوهر كرامتهن، منها التهديد، والتضييق على التواصل مع الجمعيات، والحرمان من أي آلية لتقديم شكاوى”.
الصورة وردية من الرباط
في مقابل كل هذه القصص المأساوية، تقدّم السلطات المغربية معطيات ترسم صورة وردية. فقد فتحت “لسان المغرب”، ملف المراسلات مع الوزارات الإسبانية المعنية، من العمل إلى الداخلية ثم الخارجية، لكن كل جهة اختارت التنصل ورمي المسؤولية على الأخرى، راسلنا الجميع دون جواب حتى هذه اللحظة؛ وأمام هذا التهرب، توجهنا نحو المؤسسات المغربية بصفتها طرفا مسؤولا بشكل مباشر عن هذا الملف.
في ردها على أسئلة مجلة “لسان المغرب”، أكدت وزارة “الإدماج الاقتصادي والمقاولة الصغرى والتشغيل والكفاءات”، أن المغرب “يولي أهمية كبيرة لحماية كرامة العاملات الموسميات وضمان حقوقهن القانونية والاجتماعية، سواء داخل البلاد أو أثناء الهجرة الموسمية إلى إسبانيا”.
وأوضحت الوزارة أن عملية الهجرة الموسمية “تتم وفق معايير واضحة وشفافة تشمل عدة مراحل محكمة”، موضحة أنها تبدأ من “استقبال طلبات المرشحات عبر الوكالة الوطنية لإنعاش التشغيل والكفاءات (أنابيك) بالتنسيق مع السلطات المحلية، مع إعطاء أولوية للفئات الأكثر هشاشة اجتماعيا وأسريا لضمان تكافؤ الفرص وتحقيق العدالة الاجتماعية”.
وأضافت الوزارة أن التكوين والتحسيس القبلي للعاملات “يُعد جانبا محوريا في حماية حقوقهن، حيث تُنظم ورشات تعليمية وتوعوية بالعربية والأمازيغية لتسهيل فهمهن لحقوقهن وواجباتهن، بما يشمل طبيعة العمل وشروط العقد والأجر والتعويضات والتأمين، بالإضافة إلى مخاطر الهجرة غير النظامية والإجراءات الإدارية مثل استخراج التأشيرات والجوازات”.

وتقول الوزارة إنها تستخدم “ورشات وسائل سمعية وبصرية للمستفيدات اللواتي لا يجدن القراءة أو الكتابة، لضمان وصول المعلومات لجميع العاملات، بينما تواكب شبكة متكاملة من القنصلية المغربية والجمعيات المهنية والمفتشية الإسبانية العاملات بعد وصولهن إلى إسبانيا لضمان احترام العقود وظروف العمل والسكن والحماية القانونية”.
وأكدت الوزارة أيضا، أن هناك قنوات رسمية لتلقي الشكاوى من العاملات، سواء لدى الوكالة أو القنصليات أو المجتمع المدني، حيث “تتم معالجة أي إخلال بالعقود أو سوء معاملة بالتنسيق مع السلطات الإسبانية المختصة، مع متابعة دقيقة لكل حالة على حدة”.
وأشارت إلى أن الهجرة الموسمية “ليست هدفًا بحد ذاته، بل حل مرحلي ومنظم لتحسين ظروف معيشة النساء القرويات وتمكينهن اقتصاديًا، مع مراعاة استدامة هذا النموذج، ومكافحة الهجرة غير النظامية، وضمان سلامة العاملات وحقوقهن. كما شددت الوزارة على أن الهجرة الموسمية تسهم بشكل ملموس في تحسين مستوى المعيشة، دعم التعليم، وتوسيع آفاق النساء في مناطقهن الأصلية، وتُعد نموذجًا للهجرة الدائرية المنظمة التي تجمع بين حماية حقوق المواطن المغربي وتلبية حاجيات سوق العمل الأوروبية”.
عدالة غائبة وصوت يتشكل
رغم توفّر شكاوى مدعومة بأدلة موثوقة حول انتهاكات يرقى بعضها إلى جرائم الاتجار بالبشر والاعتداء الجنسي، تعطّلت مسارات التقاضي في ملفات العاملات المغربيات بمزارع الفراولة في إقليم “هويلفا”.
فبعد أن أحيلت قضاياهن من المحكمة الوطنية إلى المحاكم المحلية، انتهى معظمها إلى ال”أرشفة” بحجة نقص الأدلة، أو توقفت بسبب غياب المشتكيات اللواتي أُعدن إلى المغرب دون أن تتم استدعاؤهن من جديد.
في حديثه إلى “لسان المغرب”، يكشف الصحافي الإسباني بيريكو إيتشيباريا، مدير موقع La Mar de Onuba، أن هذا التعثر يكشف هشاشة المنظومة القضائية أمام قضايا عابرة للحدود تثقلها الخوف والوصم الاجتماعي وضعف المؤسسات.
ويستحضر بيريكو كيف تقدمت عشر عاملات مغربيات سنة 2018 بشكاوى إلى المحكمة الوطنية تتعلق باعتداءات جنسية وإكراه على العمل في ظروف شبيهة بالعبودية داخل مزرعة Doñana 1998. ورغم ثقل الأدلة، أُعيد الملف إلى محكمة محلية حيث جُمّد التحقيق.
وفي قضية أخرى، رفعت أربع عاملات شكاوى ضد مدير مزرعة اتهمنه بالاعتداء الجنسي، لكن القضية أُرشفت بدعوى “غياب أدلة كافية”. أما عدد من الملفات الأخرى فأُغلقت ببساطة لأن الضحايا عدن إلى المغرب دون استدعاء.
ويعلق بيريكو قائلا: “الخوف من فقدان العمل أو الترحيل أو وصمة العار في مجتمعاتهن الأصلية، جعل الكثيرات يصمتن، فتوارى العدل قبل أن يبدأ”.
لكن وسط هذا السواد، برز بصيص أمل في ماي 2025، حين تم لأول مرة تأسيس فرع نقابي قانوني للعاملات المغربيات في إقليم هويلفا، بمبادرة من حركة Jornaleras de Huelva en Lucha ، وبالشراكة مع النقابة الأندلسية العمالية (SOA).
خطوة غير مسبوقة أتاحت للعاملات تمثيل أنفسهن والدفاع الجماعي عن حقوقهن، في مواجهة نظام صُمّم ليبقيهن مؤقتات وهشّات ومعزولات عن أي إطار تنظيمي.
تقول الناشطة آنا بينتو لـ”لسان المغرب”: “لقد فتحنا ثغرة في نظام ظل مغلقا وصمّاما لسنوات. الآن صار بالإمكان تغييره من الداخل”.
فالتوظيف من البلد الأصل، الذي تنظمه الحكومتان الإسبانية والمغربية منذ أكثر من عقدين، ووجه دائما بانتقادات لصرامته وضعف آلياته الحمائية. ومع غياب التمثيل النقابي أو الدعم القانوني المستقل، ظلّت العاملات المغربيات من أكثر الفئات عرضة للاستغلال والتحرش وخرق العقود بلا محاسبة.

هذا التحقيق لا يروي مأساة فردية؛ بل يرسم خريطة لاستغلال ممنهج: اختيار قائم على الهشاشة، وعقود مبهمة، وسكنٌ مهين، وإجازات مرضية تُلغى بنصّ إداري، وشكاوى تُؤرشف بدل أن تُحقق.
بين الرباط ومدريد وهويلفا، تضيع المسؤولية وتتراكم الأرباح. والمطلوب الآن واضح: ترجمة العقود وإتاحتها بلغات العاملات، ورقابة مستقلة على السكن والعمل، وقنوات تظلّم آمنة، ومحاسبة كل من حوّل “الهجرة الدائرية” إلى حلقة مغلقة من القهر.
- ملامح العاملة المغربية في الحقول الاسبانية
هي امرأة في منتصف العمر، يتراوح سنّها غالبا بين الخامسة والثلاثين والخامسة والأربعين، تحمل على كتفيها أعباء بيت كبير وأسرة ممتدة. متزوجة في معظم الحالات، أو مطلقة أو أرملة، لكنها في جميع الأحوال أمّ، والأمومة هنا ليست فقط واقعا حياتيا، بل أيضا شرطا مسبقا في عقد العمل، إذ يفترض المشغّلون أن الأم التي تترك أبناءها في المغرب ستعود إليهم لا محالة، وأنها أكثر خضوعا وأقل ميلا إلى التمرّد.
خلف هذه الفكرة الباردة تختبئ حياة معقدة لنساء يتركن القرى الفقيرة في المغرب، حيث الدخل لا يكفي، والبطالة هي القاعدة، والرجال في الأسرة ـ الأزواج أو الإخوة أو الآباء ـ بالكاد يملكون عملا عارضا في الحقول أو الورشات، وغالبا بلا عقود ولا ضمان اجتماعي.

تنحدر تلك النساء من قرى هامشية بعيدة، قروية الطابع، مثل نواحي سيدي قاسم وسيدي يحيى، في جهة الرباط–سلا–القنيطرة، التي تفرز لوحدها ثلث المهاجرات الموسميات تقريبا.
بيوت طينية أو إسمنتية متواضعة، تضم بين خمسة وعشرة أفراد. أسر ممتدة تتشارك المسكن والعمل القليل، حيث الدخل الشهري في نصف الحالات لا يتجاوز ألف درهم، أي ما يعادل 93 يورو بالكاد، وفي ثمانين بالمئة من الحالات لا يتعدى 1500 درهم. هذه الأرقام لا تعني شيئا سوى أن الهجرة الموسمية إلى حقول الفراولة الإسبانية ليست خيارا، بل وسيلة بقاء.
على المستوى التعليمي، تبدو الصورة أكثر قتامة: أكثر من نصف العاملات لا يعرفن القراءة ولا الكتابة، وقرابة ستين بالمئة لم تطأ أقدامهن المدرسة يوما. قلة قليلة وصلت إلى الابتدائي أو الإعدادي، وأحيانا اكتسبت بعضهن أبجدية متأخرة عبر حصص لمحو الأمية أو خلال الاستعداد للهجرة. لم يكن التعليم بوابتهم نحو الحياة، بل كانت الفلاحة دائما الخيار الوحيد المتاح، وغالبا بشكل موسمي، أقل من ستة أشهر في السنة، بأجر زهيد وظروف غير إنسانية.
بداية عام، تجمع هؤلاء النساء أغراضا بسيطة، يودّعن أبناءهن على أمل العودة في الصيف ببعض المال الذي قد يغطي حاجات البيت ويضمن بقاء الأسرة متماسكة. يوقّعن العقود التي تديرها وكالة “أنابيك”، وهي عقود قصيرة، خمسة أو ستة أشهر، يقدّمها المسؤولون في الرباط ومدريد كقصص نجاح للهجرة الدائرية. لكن خلف الأرقام الرسمية، تتحول التجربة سريعا إلى امتحان قاس: ساعات عمل طويلة في بيوت بلاستيكية خانقة، وأجور لا تعكس الأرباح الهائلة التي تتجاوز مئات ملايين اليوروهات، وسكن هش لا يليق بالبشر.
إنه بورتريه جماعي لنساء يجسدن التقاء الفقر والأمية والقرى المعزولة، مع سياسة دولية تدار ببرود. يتركن وراءهن أطفالا صغارا يحتاجون إلى الحنان والرعاية، ويعبرن البحر ليتحولن إلى أياد عاملة مؤقتة، بلا حماية، وبلا صوت.
كل تفاصيل هذا البروفايل تقول إنهنّ ضحايا بنية اقتصادية واجتماعية تجعل من أجسادهن جسرا بين قري فقيرة في المغرب وأسواق غنية في أوروبا، جسر هشّ يُبنى على التضحية والصمت.
- أعراب: العاملات مضطرات ولا تهاجرن بدافع الطموح

تؤكد الباحثة المغربية شادية أعراب، أن تجربة العاملات الموسميات في مزارع الفراولة الإسبانية “ليست هجرة لتحسين الظروف، بل هجرة بقاء”.
وتقول أعراب في مقابلتها مع “لسان المغرب”: “أشتغل على هذا الملف منذ خمسة عشر عاما، وما زلت أرى أن النساء يذهبن مضطرات، وليس بدافع الطموح”.
وتشير أعراب إلى أن عملية الاختيار بالمغرب “تتم عبر معايير تمييزية، إذ يُشترط أن يكنّ نساء، وغالبا أمهات، لضمان عودتهن”، وتوضح أن أغلبهن “ينحدرن من أوساط قروية فقيرة، لم يغادرن قراهن من قبل، ويصلن إلى إسبانيا دون لغة، ولا سند اجتماعي”.
وترى الباحثة أن أبرز الصعوبات تبدأ فور الوصول، من “العزلة داخل مساكن بعيدة في الحقول، واشتراط إذن المشغّل للخروج، إلى ظروف عمل قاسية وأجور غير عادلة”.
وتشدّد الباحثة المغربية في مجال الجغرافيا، على أن هؤلاء النساء “يفتقدن لأي قدرة على التفاوض بسبب الفقر والأمية وعدم إتقان اللغة”.
وتلفت أعراب إلى أن تقارير إعلامية كشفت منذ 2018 عن “حالات تحرش جنسي طالت بعض العاملات، ما أثار الرأي العام وأجبر السلطات على بعض الإصلاحات؛ لكنها ظلت محدودة”.
“الأزمة الصحية والبيئية الأخيرة زادت الوضع سوءا، مع استنزاف المياه في زراعة الفراولة وتهديد صحة العاملات بمبيدات خطيرة”، توضح أعراب.
وبشأن سبل الإصلاح، تعتبر أعراب أن “المسؤولية مشتركة بين المغرب وإسبانيا”، داعية إسبانيا إلى “تحسين ظروف السكن والنقل، وتوفير وسطاء ناطقين بالعربية، وتعليم اللغة الإسبانية”.
وتطالب الباحثة المغرب بضرورة “توعية العاملات بمضمون العقود وحقوقهن قبل السفر، ومواكبتهن عند العودة لإنشاء مشاريع صغيرة”.
وتخلص شادية أعراب، مؤلفة كتاب “نساء الفراولة”، في حديثها لـ”لسان المغرب”، إلى أن “الاستفادة الكبرى تبقى للمستثمرين الإسبان، فيما تظل النساء في موقع هشاشة، يكدحن من أجل البقاء فقط”.
- فجوة بين القانون والواقع

رغم أن قانون العمل الإسباني و”منظمة العمل الدولية”، يضمنان للعاملين الحق في أجر عادل، وظروف عمل آمنة، وسكنا لائقا، وحماية من التمييز والاستغلال، تظهر الوقائع الميدانية أن هذه الحقوق لا تُحترم بالنسبة للعاملات المغربيات.
فهناك، في حقول الأندلس، يتم توقيع عقود غير مفهومة، ويجري العمل في بيئات سيئة صحيا، مع الحرمان من الأجور أو الإجازات المرضية، إضافة إلى التمييز والاستغلال المباشر.
وينص قانون العمل الإسباني على أن العقود يجب أن تكون مكتوبة باللغة التي يفهمها العامل، مع تحديد واضح لمدة العقد، والأجر، وساعات العمل. أما “منظمة العمل الدولية” فتؤكد في اتفاقياتها على ضرورة “الموافقة الحرة والمستنيرة” وحظر أي “توقيع دون فهم كامل للشروط”.
هذا ما تنص عليه القوانين، ولكن في الواقع، وحسب ما استقته “لسان المغرب”، تُوقَّع العديد من العاملات المغربيات على عقود باللغة الإسبانية دون ترجمة، وتكتشف العاملات لاحقا أن العقود الإسبانية تختلف عن تلك الموقعة في المغرب، أو أنها بلا تاريخ انتهاء محدد، ما يمنح صاحب العمل سلطة إنهاء العقد في أي وقت.
يضع القانون الإسباني حدا أدنى للأجور، ويشترط ألا تتجاوز ساعات العمل 40 ساعة أسبوعيا، مع فترات راحة، وضمان بيئة عمل آمنة؛ بينما تطالب “منظمة العمل الدولية” بالمساواة في الأجر مع العمال المحليين، وتوفير الحماية من الحرارة والمواد الكيماوية.
أما على الأرض، فالعاملات يشتغلن أحيانا 10 ساعات متواصلة في “بيوت بلاستيكية” خانقة، مع تعرض مباشر للمواد الكيماوية، ودون فترات راحة كافية، وبعضهن لا يتقاضين أجورهن كاملة، كما حصل مع زهرة التي لم تحصل على أجر شهري أبريل وماي.
ويُلزم القانون الإسباني أرباب العمل بتسجيل العمال في الضمان الاجتماعي، بما يضمن لهم العلاج، والإجازات المرضية، وتعويضات الحوادث. وتؤكد منظمة العمل الدولية على “الحق في الرعاية الطبية للعاملين المهاجرين”، وخاصة في حالات الأمراض أو الإصابات الجسيمة.
لكن حالة زهرة تكشف عن فجوة صارخة. فرغم تسجيلها في الضمان الاجتماعي، لم تُمنح إجازة مرضية، ولم تحصل على أي تعويض، بل تم ترحيلها وهي مريضة بسرطان متقدم، في انتهاك واضح للقانون الوطني والمعايير الدولية.
وينص القانون الإسباني، ومعايير “منظمة العمل الدولية”، على أن أي سكن يوفره صاحب العمل “يجب أن يكون لائقا، وآمنا، وصحيا”، لكن شهادات العاملات تظهر أن كثيرات يعشن في أكواخ خشبية أو بلاستيكية مكتظة، بلا كهرباء أو مياه، وفي عزلة تامة عن المجتمع الخارجي، مع فرض شراء المواد الغذائية بأسعار مضاعفة من متاجر يملكها المشغّل نفسه.
يحظر القانون الإسباني أي “تمييز في العمل على أساس الجنس أو الجنسية”، و”منظمة العمل الدولية” تجرّم “استغلال الهشاشة” أو الأمومة كأداة للسيطرة، وفي المقابل، يستهدف نظام التوظيف من بلد الأصل الأمهات تحديدا، باعتبارهن أكثر خضوعا وأقل احتمالا للبقاء في إسبانيا، وهو معيار يراه الحقوقيون الذي تحدثوا إلينا “تمييزيا ومخالفا لروح القانون والمعايير الدولية”.
ويؤكّد هؤلاء الحقوقيون على أن هذه الفجوة بين النصوص القانونية والمعايير الدولية من جهة، والواقع العملي من جهة أخرى، “تستدعي تدخل الجهات الرسمية لمراقبة الالتزام بالقانون، حماية حقوق العمال، وفرض العقوبات على المخالفين”.
كما “تبرز الحاجة إلى توفير آليات دعم قانوني ولغوي للعاملات المهاجرات لضمان فهمهن الكامل لشروط العمل، وحماية حياتهن وصحتهن”، كما تقول أنا بينتو.
*هذا التحقيق منشور بالعدد 80 من مجلة “لسان المغرب”، للاطلاع على باقي مواد العدد يرجى الضغط على الرابط