story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

“جيل Z”.. كي تكتمل الفرحة!

ص ص

الإنجاز التاريخي الذي حقّقه أشبالنا في كأس العالم لأقل من 20 سنة يحتاج إلى “حماية” وتثمين من عواصف العبث والتضليل. هؤلاء الأبطال حقّقوا لنا ما لا غبار عليه ولا يحتمل أي نقد أو حتى تنسيب للفرحة. هؤلاء شبان حملتهم موهبتهم وحماسهم ووطنيتهم وحسن التأطير والمواكبة والتكوين، ليحوّلوا ما كان يبدو معجزة إلى حقيقة.

نعم هذه فرحة كاملة ومطلقة، لأن الإنجاز رياضي ولا علاقة له بأي إنفاق يتم على حساب التنمية أو اختلال في التوازنات الداخلية. وقبل “زمرة” وهبي كان منتخب الركراكي قد حقّق إنجازا مماثلا في كأس العالم (ولو أنه توقف عند نصف النهائي)، ولم يكن هناك أي قرار لتنظيم كأس العالم أو بناء للملاعب أو البنيات الأساسية الضرورية لاحتضان تظاهرات دولية. وبالتالي لا ينبغي القيام بأية إسقاطات لمطالب تحقيق التوازن الذي دعا إليه الملك في خطاب افتتاح البرلمان بين المشاريع الكبرى والتنمية الاجتماعية… إنها فرحة وطنية مستحقة ولا تشوبها شائبة.

لكن، وفي اللحظة نفسها التي كان المنتخب الوطني لأقلّ من عشرين سنة، العائد بكأس العالم من الشيلي، يحظى باستقبال وليّ العهد الأمير مولاي الحسن داخل القصر الملكي بالرباط مساء أمس الأربعاء 22 أكتوبر 2025، كان قصر آخر في المدينة ذاتها، هو “قصر العدالة”، يعلن أولى الأحكام في حقّ شباب “جيل Z” الذين خرجوا قبل أسابيع قليلة، في شوارع العاصمة، يطالبون بصوت هادئ ومطالبَ واضحة: صحة وكرامة.

هذه المفارقة لا ينبغي أن تُقرأ كمجرد مصادفة بين بروتوكول عابر وعدالة ناجزة؛ بل هو سؤال دولة: كيف نخاطب الجيل نفسه بوجهين متباينين، وجه الاستيعاب الواسع في القصر عبر مجلس وزاري حافل بالوعود، واستقبال أميري كبير؛ ووجه التضييق الزجري باسم العدالة؟

جواب الدولة المُقنع والإيجابي بدأ يلوح سياسيا واقتصاديا واجتماعيا بعد المجلس الوزاري الأخير برئاسة الملك، حيث اختير طريق الاستجابة عبر رفع المجهود العمومي في الصحة والتعليم، وإحداث عشرات الآلاف من المناصب، وتسريع أوراش البنية والتجهيز. تلك الإشارات الثقيلة بالمعنى تقول ببساطة: سمعنا الرسالة.

غير أنّ السياسة الجنائية ما تزال، في عدد من الملفات، تعزف لحنا قديما لا ينسجم مع هذا الإيقاع.

حين يُدان شابّان في الرباط بشهر نافذ بعد اعتقالهما في “باب الأحد” (حيث لم نشهد عنفا ولا تكسيرا)، وحين يدان طالب باحث في الذكاء الاصطناعي بخمس سنوات سجنا بتهمة “التحريض المعلوماتي على التظاهر”، وحين يُتابع ثلاثة شبان بسبب قمصان تحمل شعارات سلمية، ويُدان صحافي بأربعة أشهر في العيون لدعمه الاحتجاج السلمي؛ فإنّنا لا نكون أمام تطبيق صارم للقانون، بقدر ما نكون أمام خلل في التناسب ومفارقة في الرسالة.

القضية هنا ليست في استقلال القضاء، وهو خط أحمر لا ينبغي حتى الاقتراب منه، بل في السياسة الجنائية التي تؤطّر هذا القضاء وتوجّهه في الممارسة اليومية.

فالقضاء، لكي يكون سلطة لا جهازا، يحتاج إلى سياسة جنائية منسجمة مع روح الدستور ومع التحوّل السياسي الذي تعيشه البلاد. دستور 2011 لم يكن مجرّد وثيقة قانونية جديدة، بل تعاقدا جماعيا على أن تُمارس السلطة في المغرب تحت سقف الحقوق والحريات، وأن يُعامل المواطن باعتباره شريكا في الوطن لا موضوعا للمراقبة والعقاب.

من هذا المنظور، يصبح الفصل 29 الذي يضمن حرية التجمهر والتظاهر السلمي مبدأ موجِّها للعدالة، لا فقرة زائدة في نصّ دستوريّ جميل تقيّدها نصوص قانونية صدرت قبل أو يولد الشبان المعتقلون.

إن الواقع يكشف عن فجوة بين النصّ والممارسة. إذ كيف تُدان تعبيرات سلمية لا عنف فيها ولا تحريض على الفوضى، بناء على فصول قانونية وُضعت في زمن لم يعرف الشبكات الاجتماعية ولا ثقافة الاحتجاج الرقمي؟

كيف يمكن أن تُسقط على تغريدة أو قميص أو فيديو قصير فصول من ظهير سنة 1958 صيغت لزمن كانت فيه مكبّرات الصوت على شاحنة تُعتبر قمّة التحريض؟

حين يتوسّع التأويل ليُخترع مفهوم “التحريض غير المباشر” الذي لا وجود له في النصوص، وحين تُهمَل دفوع شكلية وجوهرية تتعلّق بالاختصاص المكاني وببطلان الإجراءات وبشروط فضّ التجمّعات كما يحدّدها القانون نفسه، فإنّنا لا نكون أمام تطبيق صارم للقانون، بل أمام استعمال مرتبك له.

الخطورة هنا ليست فقط في مصير أفراد، بل في أثر ذلك على الثقة العامة. فحين يرى المواطن أن القانون يمكن أن يُلوى ليتّسع لما لم يُكتب فيه، وأنّ الاعتقال الاحتياطي يُستعمل كعقوبة مسبقة بدل أن يكون ضمانة إجرائية، تتسرّب الشكوك إلى صميم العقد الاجتماعي.

والثقة، في دولة تُراهن على الإصلاح والاستثمار والانفتاح، ليست ترفا؛ بل هي رأس المال الحقيقي الذي إن ضاع، لن تُعوّضه أيّة حملة تواصلية أو خطاب مطمئن. لذلك فإنّ استقامة السياسة الجنائية ليست مطلبا حقوقيا فحسب، بل ضرورة دولة تريد أن تبقى قوية وعادلة في آن واحد.

الدولة القوية هي التي تُحسن ضبط قوّتها بالقانون. ما دامت الوقائع لم تُثبت عنفا ولا تخريبا، فإنّ البدائل القانونية متاحة ووجيهة: سراح مؤقّت بضمانات، وغرامات وتدابير بديلة، وحفظ للملفات التي لا تنهض بأركان مادية واضحة. ذلك لا يُضعف هيبة الدولة، بل يعزّزها؛ لأنّ الهيبة تُبنى على التناسب والإنصاف، لا على وفرة الإحالات على الزجر. ومن مصلحة الدولة، قبل غيرها، ألا تُصنع مرارات جديدة في صدور جيل كامل بسبب تكييفات فضفاضة أو إجراءات متعجّلة.

إنّ صورة وليّ العهد وسط أبطال من سنّه ليست لقطة بروتوكولية؛ إنّها وعد من المستقبل. هذا الوعد يفقد نصف معناه حين يجد في الحاضر ما يناقضه. لا يستقيم أن تقول الدولة «نستثمر فيكم» في القصر، ثم تقول في المحكمة «نرتاب منكم».

وحدةُ الرسالة شرط لوحدة المصير، ووحدةُ المصير اليوم تمرّ من بوابة واضحة: إغلاق ملفّ المحاكمات المرتبطة بالتعبير السلمي في بدايات “جيل Z”، وتصحيحُ مسار الملفات الجارية بما ينسجم مع الدستور ومع التجاوب السياسي المعلن.

لسنا أمام دعوة إلى التساهل، بل إلى صيانة القانون من الإفراط في استعماله. فلتُحترم الاستئنافات ولتُلتقط فرصةُ المراجعة الهادئة لإعادة وزن الوقائع بميزان التناسب. ولْتُراجَع توجيهات المتابعة بما يضع خطّا فاصلا بين التعبير السلمي وبين كلّ ما يهدّد النظام العام فعلا لا زعما.

هكذا فقط ننتقل من إدارة الانفعال إلى إدارة الثقة، ومن معالجة الأعراض إلى معالجة الأسباب.