سلام على شعب الجبّارين

هذا يوم من أيام فلسطين لا يجوز أن يمرّ عابرا. يوم حجّ فيه كبار العالم إلى شرم الشيخ ليشهدوا أن النار التي سُعّرت على غزة لعامين كاملين قد انطفأت على طاولات تفاوض لم تكن لتقوم لولا أن أهل غزة بقوا واقفين.
يوم لم تُغلق فيه الحرب لأنّ دبابة تقدّمت أو طائرة قصفت، بل لأنّ شعبا قرّر ألا يرحل، وألا يفرّ، وألا يسلّم، وأن يجرّ خصومه، بكل ما وراءهم من جيوش وتحالفات غليظة، إلى اللغة الوحيدة التي يجيدها الضعفاء الأقوياء: الصبر الذي يفتّت الحديد.
عامان من الصمود والمقاومة. في النهار حصار وتيه بين الأنقاض وأشلاء الشهداء، وفي الليل هندسة حياة جديدة من لا شيء.
لم يكن المقاتلون وحدهم من صمدوا؛ بل كان الفلسطينيون كلّهم مقاومة واحدة: أم توزّع كسرة الخبز على أطفال جائعين؛ وأب يجرّ عكّازا وذاكرة؛ وأطبّاءُ يعيدون تعريف الشجاعة في غرف عمليات سقفها من ثوب أو عراء؛ ومعلّمات يكتبن على الجدران ما استعصى على الورق؛ وصحافيون حمَلوا الكاميرا كما يُحمل العلم.
إنه شعب أكل الحجر والتراب، ثم ألقى بفتات الخوف من قلبه وأرغم العالم على المجيء إليه وطلب سلامه.
أعرف أن هناك من يسارع إلى وضع الخلاصات: حجم الدمار، عمق الجراح، كلفة الأرواح… وكلّها حقائق لا تُنكر ولا يجوز أن تُزاح إلى الهامش. لكنّ الحقيقة الأخرى التي حاول كثيرون طمسها، أنّ إسرائيل، بكلّ ما استجمعته من آلة قتل ومن غطاء غربي، لم تستعد أسراها بالقوة رغم سنتين من الإحراق.
انتهت القصة في النهاية، إلى ما كان يمكن أن يحدث بعد يوم واحد من السابع من أكتوبر 2023: اتفاق تبادل ووقف نار تفرضه الوقائع لا المنح.
لقد احتاجت تل أبيب إلى العرّاب الأميركي، وإلى الوسطاء في مصر وتركيا وقطر، وإلى توقيع أراده صاحبه نيشانا على صدر سيرة سياسية؛ أمّا من فرض مضمون الاتفاق فهم أولئك الذين بقوا داخل التراب، يقايضون العالم على شروط الكرامة.
انظروا إلى مشهد الأسرى الفلسطينيين ساعة تحرّرهم: بقايا بشر تخرج من دهاليز الظلم والتنكيل إلى نور الحياة. أجساد انتُزعت منها أجزاء، وأعمار مهدورة، ووجوه تعلّمنا من ابتسامتها كيف يكون الثبات.
يعدّون أسماء من فقدوا ومن أصيبوا، ويرفعون أيديهم كما لو أنّها أعلام تلوّح: نحن هنا. ثمّ تأتيك تلك الابتسامة التي كان يحيط بها ياسر عرفات عبارته الشهيرة: “شعب الجبّارين”.
لا أحد يخرج من سجون الاحتلال كما دخلها، لكن فلسطين تُعيد صياغة أصحابها على هيئة الوطن: أخاديد على الجبين، وعيون لا تخطئ الاتجاه.
على الضفّة الأخرى من الصورة، كان الإعلام الغربي يجد صعوبة، أو قل عزوفا متعمّدا، في أن يوسّع عدسته.
تُقاس قيمة الحدث عنده بعدد الأسرى الإسرائيليين الذين أطلقتهم المقاومة، بينما يُزاح ألفا أسير فلسطيني، بين جريح ومبتور ومُنهك، إلى هامش بارد.
هذا الغرب نفسه الذي أعلن الحرب كما لو أنّها دفاع عن “قيم كونية”، عاد اليوم لينهيها بالمنطق ذاته: قيم تُفصّل على مقاس الضحية المفضّلة.
ومع ذلك، نجح الفلسطينيون في ما هو أندر: أعادوا البوصلة الأخلاقية إلى مكانها، وجعلوا كلمة “الحق” تعود من المنابر إلى الشوارع، وصار العالم يرى، وإن على استحياء، أنّ حياة الفلسطيني ليست هامشا في هامش.
ليس هذا وقتَ بطولات تصرخ في الفراغ. البطولة الحقيقية هنا ليست في الأوصاف الكبيرة ولا في لقطات تُشبع غرور الخطابات؛ البطولة أنّ غزة لم تُقهر، وإسرائيل لم تنجح في تحقيق هدفَيْها المُعلنين: لم تستعد الأسرى بالقوة ولم تقضِ على حماس. بل اضطُرّت إلى الاعتراف الواقعي بمن تفاوضهم وتُسلمهم وتسلم منهم.
هذا الاعتراف، مهما حاولوا تصغيره، هو انتصار معنى قبل أن يكون انتصار ميدان. حين تُجبر خصمك على التحدّث بلغتك، فقد نقلته من ساحة إرادته إلى ساحة إرادتك.
اليوم تُرفع التواقيع في شرم الشيخ، وتتبادل الوفود الكلمات، وتُصاغ البيانات اللامعة. أمّا في غزة، فتنفرج شِفاه متعبة على أناشيد قديمة، وتعود الأقدام إلى الشمال سيرا على الأمل، وتنتصب الخيام في انتظار الإسمنت والحديد.
هذا السلام، إنْ جاز الوصف، ليس منحة من أحد. هو هدنة انتزعها الجوعى بأظافرهم. سلام لا يستحقّ اسمه إلا إذا حمل في متنه حقّ العودة إلى البيت، وحقّ الإعمار، وحقّ الحياة بلا خيام دائمة، وبلا قوائم قتل مؤجّلة.
سيقول قائل: وأين العدالة لدماء سالت؟ وأين حسابُ من قصف المستشفيات والمدارس والكنائس والمآذن؟
والجواب أنّ ملفّ العدالة لا يسقط بالتواقيع. سيبقى شاهرا وجهه في محكمة التاريخ، وفي الضمائر التي لم تُشتر، وفي تقارير الذين وثّقوا الجريمة دقيقة بدقيقة.
نحن اليوم في مقام شهادة أخرى: شهادة الإقرار بأنّ هذا الشعب، مهما أحاطوه بسلاسل السرديات، لا ينكسر.
لقد أرادوا للمنطقة بأسرها أن تصير رمادا تحت لهيب “الاتفاقات الإبراهيمية” التي بشّروا بأنها طريق وحيد. ثم جاءت غزة، فأسقطت هذه الأسطورة ببداهة صارخة: من لا يملك الحق لا يمنح السلام.
أعرف أنّ الطريق بعد اليوم طويل، وأنّ المعركة ليست لافتات ولا قصائد. هناك معضلة الإعمار، وترتيب البيت الداخلي، وإنهاء الانقسام، وبناء مؤسّسات مقاومة للحصار لا للداخل… كلُّها ملفات تنتظر رجال دولة لا تجّار لحظة.
لكنّي، مثل كثيرين، أسمح لقلبي اليوم أن يأخذ نَفسا طويلا، وأن ينحني إجلالا لأم لم تُبدّل ابنها بالنجاة، ولصحافي ظلّ يرسل الحقيقة حتى كانت آخر لقطة له هي عينه، ولطبيب لملم جراح غيره قبل أن يلتفت إلى جرحه، ولمقاتل قال في ساحة النار ما لم تقله وفود السياسة في قصور الضوء والضوضاء.
غزة لم تنتصر لأنّها أسقطت خصمها، بل لأنّها أسقطت معادلة بكاملها: أن يُفرض عليك السلام على هيئة استسلام. اليوم فهم العالم أنّ السلام الذي يعيش طويلا هو السلام الذي يُنتزع بشروط الكرامة، لا الذي يُهدى مع قنابل ذكية.
وفهم كثيرون أنّ السلطة بلا عدالة ليست سوى هدنة بين حربين، وأنّ الاستقرار الحقيقي يبدأ من بيت يعود إليه أصحابه، ومن مقبرة تُزار بطمأنينة، ومن مدرسة تُفتح أبوابها وتقول للصغار: ما زال لكم مستقبل.
“شعب الجبارين” ليس شعارا نعلّقه ساعة الحماسة ثم نطوي الصفحة. هو تعريف عمليّ لناس عاشوا كلّ ما يُفترض أن يقتل الأمل، ثم خرجوا من بين الركام يبتسمون.
لهذا كلُّ شيء في هذا اليوم المشهود يليق بالتحيّة لمن صمدوا، ولمن فاوضوا، ولمن حموا ما تبقّى من المعنى. وتحيّة أخرى لازمة: سلام على الأسرى المحرّرين، على أكتافهم آثار القيود، وفي أعينهم لمعانُ العودة.
وسلام على غزة، الاسم الذي صار مرادفا لكون أخلاقي بأكمله.
هذا يوم للتأبين وللوعد معا: ألا ننسى، ولا نسمح لسلام بلا عدالة أن يُسمّى سلاما. وأن نحتفظ، في كلّ عتمة مقبلة، بتلك الجمرة التي تركتها لنا غزة في اليد والقلب: الأمل حين يصير شجاعة يومية، والصمود حين يتحوّل إلى سياسة حياة.