خطاب الملك ومطالب جيل زيد

جاء الخطاب الملكي بمناسبة افتتاح السنة التشريعية الجديدة في لحظة مشحونة بالترقب، انشغل المغاربة خلالها بمضمون ما سيقوله الملك أكثر من أي وقت مضى في مثل هذه المناسبات السنوية. في الشارع احتجاجات شبابية غير مسبوقة، عفوية، لا تقودها أحزاب ولا تنظمها نقابات، بل يحركها شعور عارم بالاختناق الاجتماعي وانسداد الأفق، ظل صداه يتردد، حتى بعد أن قررت حركة Z توقيفها مؤقتا. وفي قبة البرلمان، كان الخطاب الملكي يبدو كأنه رد هادئ على “ضجيج” الخارج، محاولة لاحتواء الغضب لا بالصدام، بل بلغة الإصلاح المتزن والدعوة إلى العمل المشترك.
منذ الجمل الأولى، بدا أن الخطاب يوجه رسائل متعددة في آن واحد. فهو يحيي البرلمانيين على “العمل الذي يقومون به في مجال التشريع والمراقبة وتقييم السياسيات العمومية”، ويشيد بـ “الجهود المبذولة للارتقاء بالدبلوماسية الحزبية والبرلمانية”، لكنه يذكرهم أيضا بأنهم في سنتهم الأخيرة، أي في لحظة الحساب، داعيا إياهم إلى “التحلي باليقظة والالتزام في الدفاع عن قضايا الوطن والمواطنين” و”العمل بروح المسؤولية على استكمال المخططات التشريعية وتنفيذ المشاريع والبرامج المفتوحة”. غير أن المتأمل في نبرة الخطاب يدرك أن الرسالة الأعمق تتجاوز حدود البرلمان لتصل إلى المجتمع: الدولة تسمع، لكنها لا تريد أن تتسرع، تدرك أن هناك خللا في العدالة الاجتماعية، لكنها تصر على أن الحل يمر عبر المؤسسات لا عبر الشارع. هنا بالضبط يكمن التوتر الخفي بين منطق الدولة ومنطق الجيل الجديد.
جيل زد خرج ليقول إن الزمن السياسي بطيء، وأن وعود التنمية الكبرى تحولت في أغلبها إلى شعارات معلقة في الهواء. أما الملك، فقد رد بخطاب يدعو إلى “تعبئة الطاقات” و”ثقافة النتائج” و”تغيير العقليات”، وهي عبارات توحي بأن الدولة واعية بضرورة مراجعة طرق العمل، لكنها ما تزال تفضل لغة التوجيه بدل لغة التغيير الجذري. ففي الوقت الذي يطالب فيه الشباب بمحاسبة المسؤولين ومراجعة السياسات، يختار الخطاب التركيز على النجاعة الإدارية والفعالية الميدانية، وكأن المشكلة تكمن فقط في الأساليب لا في البنى العميقة للسلطة والاقتصاد.
رفع المحتجون شعارات “مابغيناش كأس العالم الصحة أولا” فجاء الرد الملكي بأنه “لا ينبغي أن يكون هناك تناقض أو تنافس بين المشاريع الوطنية الكبرى والبرامج الاجتماعية، ما دام الهدف هو تنمية البلاد وتحسين ظروف عيش المواطنين، أينما كانوا”. هذه العبارة المقتضبة بدت كأنها جواب هادئ على شعار غاضب، لكنها تحمل في عمقها أكثر من مجرد توضيح ظرفي. فالقراءة المتأنية لهذا المقطع تكشف أنه لا يكتفي بنفي التعارض بين التنمية الرمزية والتنمية الاجتماعية، بل يسعى إلى تصحيح ضمني للرؤية الرسمية التي طالما منحت الأولوية للمشاريع الكبرى باعتبارها عنواناً لهيبة الدولة وفاعليتها الاقتصادية. فهي لا تنكر أهمية هذه المشاريع ولا تقلل من قيمتها الاستراتيجية، لكنها تشترط أن تترجم ثمارها إلى تحسن ملموس في حياة المواطنين، وأن ترافقها سياسات اجتماعية فعالة قادرة على تقليص الفوارق وضمان العدالة المجالية. بمعنى آخر، فهي تعيد توجيه الخطاب التنموي المغربي نحو معادلة أكثر توازناً بين الاستثمار في الصورة والاستثمار في الإنسان، بين ما يرى وما يحس، في محاولة لاستعادة الثقة في جدوى التنمية بوصفها مشروعا جماعيا لا مجرد واجهة إنجازات.
العدالة الاجتماعية ومحاربة الفوارق المجالية كانت محور الخطاب، وهي أيضا في قلب الاحتجاج. الملك تحدث عنها باعتبارها “توجها استراتيجيا ورهانا مصيريا”، في حين يرى الشباب أنها حق مفقود أكثر منها توجها مستقبليا. فحين يشير الخطاب إلى ضرورة “محاربة الممارسات التي تضيع الوقت والجهد والإمكانات”، ففي ذلك اعترافا ضمنيا بأن السنوات الماضية شهدت هدرا لهذه الإمكانات، وأن التنمية الموعودة لم تبلغ الجميع. لكن ذلك الاعتراف لا يذهب إلى حد تسمية المسؤولين عن هذا الهدر، ولا يفتح الباب أمام مساءلة حقيقية، وهو ما يجعل الشباب يشعر بأن التشخيص صحيح، لكن العلاج ما يزال ناقصا.
أما حين يتحدث الخطاب عن “استثمار أمثل للتكنولوجيا الرقمية” و”تغيير ملموس في العقليات وطرق العمل”، فإن المفارقة تزداد وضوحا: فجيل زد نفسه هو نتاج هذا العالم الرقمي، يعيش في فضاء مفتوح، يتواصل بحرية، ويراقب كل صغيرة وكبيرة في أداء الدولة، بينما الخطاب يتعامل مع الرقمنة بوصفها أداة لتسريع التنمية، لا كوسيلة لتوسيع المشاركة والمحاسبة. الشباب يريد “رقمنة السياسة”، لا رقمنة الإدارة فقط. يريد أن يرى الدولة شفافة بقدر ما هي قوية.
في خلفية الخطاب يمكن التقاط نغمة قلق مكتوم، فالدولة تدرك أن ثقة المواطنين في مؤسساتها تتآكل، وأن الأحزاب السياسية والبرلمان فقدت جزءا كبيرا من قدرتها على التأطير والتعبئة. وهي، في هذا الوعي، تستحضر خطابات سابقة كانت أكثر جرأة في التشخيص، مثل خطب “أين الثورة؟” و”الطبقة الوسطى” و”المغرب يسير بسرعتين”، لكنها مع ذلك ترفض خيار القطيعة. لذلك يكرر الملك دعوته إلى البرلمانيين والأحزاب السياسية من أجل استعادة أدوارهم الأصلية، في محاولة لضخ نفس جديد في الوسائط القديمة بدل تجاوزها أو تعويضها بآليات جديدة. إنه خطاب يسعى إلى تحقيق توازن دقيق بين الاستمرارية والتغيير، لكنه يفعل ذلك من موقع الحذر، وكأنه يطمئن الدولة من دون أن يصطدم بالواقع، ويدعو إلى الإصلاح من داخل النظام لا من خارجه.
هكذا يبدو خطاب 10 أكتوبر 2025 كأنه مرآة مزدوجة: في وجهها الأول، تعكس وعيا ملكيا متقدما بحجم الأزمة الاجتماعية، وفي وجهها الآخر، تكشف عن حدود الرؤية الرسمية في التعامل مع التحولات الجيلية الجديدة. فهو خطاب يسمع نبض الشارع، لكنه لا يتقمص أسلوبه كما لا يتكلم لغته. يعد بالإصلاح، لكن ضمن قواعد اللعبة نفسها. لذلك خرج كثيرون من الاستماع إليه بشعور متناقض: اطمئنان لأن الدولة ما زالت تعترف بالمشاكل، وقلق لأن طريق الحل ما يزال طويلا، ولأن الجيل الجديد يريد أن يعيش التغيير لا أن يسمعه فقط.