جيل زد.. الملك مُخاطَباً

في برنامج “من الرباط”، للزميل يونس مسكين في موقع “صوت المغرب”، جازفَ كاتب هذه السطور بالتصريح أن تقديرَ الدولة إلى الآن أنّ احتجاجات “جيل زد” أزمة حكومة وليست أزمة حكم. ولا أزال على هذا الرأي إلى حدود الخميس 9 أكتوبر.
في 2011، خلال احتجاجات 20 فبراير، التي فرضها سياقٌ إقليمي، تحرّكت الملكية لتقديم جواب سياسي، ولم تنتظر الحكومة ولا الأحزاب. يومها كانت تواجه أزمة حكمٍ والعين على أنظمة تسقط وثورات هادرة.
تصرّف الملك في 2011 بما أملته اللحظة من تحديات، وقدّر أن الجواب سياسيٌ ويجب أن يصدر عن الملكية، عبر خطاب أطلق إصلاحا دستوريا، تلاه تصعيد حزب الإسلاميين إلى الحكومة، وانفتاح في النقاش العمومي، سرعان من تلاشى.
إلى حدود كتابة هذه الأسطر، يصرُّ المحتجون، ومعهم رسالة شخصيات عمومية، على استدعاء تدخّل الملك محمد السادس، ويقدّرون أن حكومة عزيز أخنوش صارت متجاوَزَةً، وأنها مشكل، ما يُصعّب التعامل معها كجزءٍ من الحل. يطلبون رأسها على كل التردي والمشاكل المتراكمة، ويعتبرونه مطلباً معقولا.
في المقابل، يصعبُ تقدير مصلحة الدولة، وتحديد مسار تحرّكها. صمتٌ وقليل من الإشارات. لكن المعطى الواضح أن الملكية تتمتّع، لدى مطلقي الدينامية الاحتجاجية الجديدة، بالثقة والسمو المؤسساتي، يُعبّر عنه بامتناع “GENZ212” عن الخروج إلى الشارع بالتزامن مع خطاب الملك أمام البرلمان الجمعة، وبالتأكيد على أن المؤسسة الملكية ليست هدفاً للاحتجاج، والأهم اعتبارها “حليفا”، عبر الاستشهاد بخطابات الملك، وأيضا مقاطعة مطالبهم مع انتقاداته المتكررة لأداء السلطة التنفيذية في العقد الأخير.
تقدير سياسي ذكيٌ من شباب “GENZ212” وهم يختارون الاصطفاف إلى جنب الملكية، لا الوقوف أمامها. ولعلّ هذا أحد أسباب تخفيف القبضة الأمنية التي تأكّد محدوديتها، وأيضا من دواعي وقف الإرهاصات الأولى للتشكيك والتشنيع بالدينامية الاحتجاجية الجديدة في الإعلام المقرّب من السلطة.
رسالة “المسؤول الأمني الرفيع” الذي تحدث إلى “جون أفريك” وقال إن الحكومة “لا تتحمل مسؤولياتها”، وأنها تركت الأمن وحده “في مواجهة الشارع”، قبل أن يحدّد “الحد الأدنى” المطلوب في “إقالة وزيري الصحة والتعليم”، قد يكون تصريحا نادرا في شكله ومضمونه. هو بحكم “موقف سياسي” من مؤسسة يُفترض أنها “محايدة” سياسياً. لكنه يشير في عمقه إلى إشكال عويصٍ، مفاده أن الأمن وحده يقف في مواجهة الشارع الغاضب، وأن الجواب يجب أن يكون سياسياً وليس أمنياً، بتحمّل الحكومة أولا لمسؤولياتها، وثانيا باتخاذ قرار إعفاء وزراء لتهدئة الوضع. وفي هذا نوعٌ من إعادة صياغة مطلب الشارع على نحو إجرائي.
شباب “جيل زد” إذا يخاطبون الملك يتوقّعون ردّاً، قد يشمل الخطاب، وأيضا الفعل، بممارسة صلاحياته الدستورية لتصويب الوضع الحالي.
قد تتدخل الملكية في أية لحظة، وفق تقديرها للحاجة، وبحسب ما تفرضه الوقائع على الأرض. ومع ذلك، يبدو أن ما سيدفعُ للتفاعل المباشر هو استمرار الاحتجاجات وتوسّعها في ظل حالة “يبقى الوضع على ما هو عليه”، متلازماً مع فشل حكومي في الإقناع، في ظرفية يستعدّ فيها المغرب لتنظيم كأس أفريقيا للأمم (21 دجنبر المقبل إلى 18 يناير)، التي ستكون بحُكْم “البروفة” لتنظيم كأس العالم 2030.
وثانياً، انطلاق ديناميات إقليمية، من قبيل اندلاع احتجاجات في الجارة الشرقية للمملكة، والتي تبرز فيها ملامح تململ ضد السلطة السياسية. ولربما تتدخل حين تتوفر لدى الدولة دوافع أخرى مرتبطةً بتأكيد انحياز الملكية للمطالب الشعبية، في نوعٍ من التمايز عن الأداء الحكومي حال ظهر قصوره عن “الوفاء بالتزاماته”.
وهذا ليس سلوكاً جديدا، فقد تموقّعت الملكية، على مستوى الخطاب، في هذه الوضعية مرارا بانتقادها لأداء السلطة الحكومية، حتى ما قبل حكومة أخنوش.
طيلة الأيام الماضية، فسحت الدولة المجال أمام الحكومة لمخاطبة المواطنين من خلال الإعلام العمومي، وإلى الآن تواجه استعصاءات ظاهرة. صدى حالة عدم تقبّل استعراضها السياسي استمرارُ الاحتجاج، وتصعيد الخطاب ضد أخنوش وحكومته، التي بدأت تفقد تماسكها، بجنوح طرفين فيها (الاستقلال والأصالة والمعاصرة)، إلى وضع مسافة مع الحزب قائد التجربة الحكومية، التجمع الوطني للأحرار.
لم يبق في عمر الحكومة إلا أقل من عام. إلى ذلك الحين، يتحوّل الملك، مع دينامية “جيل زد”، إلى مُخاطبٍ بدل أن يكون مُخاطِباً، في تعبير عن أزمة عميقة، هي نتاج شبه انهيار لآليات الوساطة، وفقدان ثقة مزمن في الحكومة، وعجزها الملحوظ عن الإقناع بـ”إنجازات” يُشكّك فيها المواطنون، بالنظر إلى ما يرونه في الواقع، لا ما يسمعونه من المسؤولين.
ومع ذلك، استدعاء الملكية يستبطن مخاطر، مثلما يُبرِز حيويةَ وجود الملكية، باعتبارها ضامِناً وملجأً. وعلى هذا الأساس، تكبرُ الآمال في مُمكنات تدخّلها وإيجادها للحلول، مثلما تكبر المشكلات المحيطة بهذا الاستدعاء لتدخل الملك.
الملك محمد السادس، في خطابه خلال افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الأولى من الولاية التشريعية العاشرة، في 14 أكتوبر 2016، اعتبر لجوء المواطنين إلى الملك لحلّ مشاكلهم “يعني أن هناك خللا في مكان ما”.
هذه الوضعية مسؤولية الدولة أولا، التي اقتنعت في لحظة ما أن الجدوى والفعالية في الأداء الحكومي سابقةٌ على السياسة، وأن النقاش العمومي غير مهمّ في زمن حكومة رجال الأعمال وما قبلها.
تجريف الوسطاء يضرّ الدولة حين يحرمها من “المنبّهات” التي تشير إلى مواطن القصور. و”قطع الأصبع” الذي يشير إلى الأعطاب لن يجعلها تختفي، بل سيزيد تعقيد الوضعية، ويعطّل استباقية الدولة.
قصارى القول
بعد كل هذه التقديمات، نأتي إلى باكورة الفكرة. هذا الاستدعاء المكثّف للملكية سيضعها باستمرار في حالة تماسّ عالي التوتّر مع ديناميات المجتمع الاحتجاجية.
قلب النظام السياسي في المغرب يسيّج نفسه بكثير من المصدّات لتفادي وقوع الاصطدام. حتى على المستوى التخاطب، كانت السلطة السياسية تمنح باستمرار المجتمع والطبقة السياسية عنواناً للانتقاد، بدل توجيه الكلام مباشرة للملكية، التي تفهم الإشارات وتردّ بما يناسب.
عنونت صحيفة “الأيام” في عددها للأسبوع الحالي “ترهّل البارشوك”، وهذا يستدعي سؤالا في العمق: ماذا لو لم تنجح الملكية يوماً في تهدئة مخاوف الشارع والتقاطع معه في تقدير الموقف والمصلحة؟.
الملكية في المغرب تنفيذية، وتتحمّل مسؤوليات، مادامت تُسطِّر سياسات واختيارات كليّة. لكنها وفي الوقت نفسه تتمايز عن التجاذب.
مصلحتها ومصلحة المجتمع في النجاعة، وفي الإنجاز، وفي التفاعل السريع والذكي مع النوازل. وأيضا في تحرير المشهد وإطلاق مسار الديمقراطية جدّياً.
الديمقراطية كاختيارٍ استباقي أقصر الطرق للاستقرار، وشرعية الإنجاز تعزّز الثقة، وتوطّن الحكومات المنبثقة عن الانتخابات على تحمّل مسؤوليتها، بدل الاختباء وراء شعارات مؤذية من مثل القول “نحن حكومة صاحب الجلالة”.
فمن سيتحمّل المسؤولية إذا فشلت “حكومة صاحب الجلالة”؟.