story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

جيل وليّ العهد

ص ص

عشرةُ أيّام فقط كانت كفيلة بأن تضع المغرب كلَّه أمام مرآته. لقد خرج جيل وليّ العهد، الأمير مولاي الحسن، إلى الشارع، فأخرج معنا، ولحسابنا جميعا، أحسن ما فينا، وكشف لنا أسوأَ ما يمكن أن ينزلق إليه مجتمع حين يُساء تدبير غضبه.

هي لحظة ربيع جديد لا أزعم أنها ستدوم، لكنّها مزهرة بما يكفي لتذكّرنا أن الضحالة ليست قدرا، وأننا قادرون على مواجهة عللنا بلا تكلّف ولا زينة مصطنعة.

لقد رأينا أن الوزراء يمكن أن يخرجوا إلى الشاشات ويتكلّموا، وأن فيهم الجيّد والقبيح؛ ورأينا كذلك أنّ قواتنا الأمنية ليست مطبوعة على القمع، بل قادرة، حين تُدار بالعقل، على أن تكون في موقعها الطبيعي: ضامنة للحقوق والحريات ومؤطّرة للاحتجاج.

حتى حين ارتُكبت عثرات قاسية، كما في مقطع الشرطيَّين اللذين ظهرا وهما يعنّفان مواطنا بقسوة، استطعنا أن نقول إن الاعتراف بالأخطاء ليس هزيمة، بل بداية إصلاح.

لقد منحنا هذا الجيل لمحة عن الغد. وعرّفنا على مغاربة المستقبل الذين يحملون الوطن في القلب ويطلبون له ما يليق بعصرهم.

يطلبون حسا إنسانيا مرتفعا، وتقديرا كبيرا للكرامة.

لكن الخروج ذاته كشف أيضا جزءا من أسوأ ما فينا: عناصرُ يائسة، مُقنَّعة، تحرق وتُدمّر. لقد وضعنا الجيل نفسه أمام العملة بوجهيها: الفرص والمخاطر.

الفرصة في شباب أعاد عقارب الأولويات إلى مواضعها الطبيعية: الصحة، التعليم، الشغل، أي كل ما يجعل عيشنا فوق هذه الرقعة لائقا بإنسانيّتنا وبرسالتنا الحضارية.

والمخاطر في أن نخلط نتصرّف بأنانية واستهتار، ونخلط بين السلمية والتخريب، فنحرق الجسور بدل أن نبنيها.

إن التقاط هذه الإشارة يستوجب أن نتجاوز الحلول السهلة والاختزالات الكسولة. كثيرون دُهشوا لظهور وزير الصحة في القناة الثانية ليلة أمس. بالنسبة إليّ، كنت أرى دائما هذا الرجل “مظلوما” منذ خرج يتفقّد المستشفيات، وهو بالمناسبة ليس المظلوم الوحيد في هذه القصة.

قلتها من قبل وبمسافة تبتعد بما يكفي عن السياق المتوتّر الحالي، حتى اختزال المأزق كلّه في شخص عزيز أخنوش ليس حلا. نعم هو جزء من المشكلة، بل رمز لمرحلة، لكن المطلوب تصحيح اختلالات المرحلة كلّها لا مجرّد تغيير أشخاص بأشخاص.

لا نريد ترميم فساد بفساد أقل فجورا؛ نريدُ ثورة هادئة تأخذنا نحو قيم الصدق والعدالة التي جاء “جيل Z” ليحاسبنا بها.

نريد أن نلتقي فعلا هذا المستقبل الذي زارنا بلا موعد.

أنا لا أؤمن بالمصادفات في السياسة. نعم، للمفاجآت مكانها، ومن يحسب وحده “يشيط ليه”؛ لكن إن كان هناك من اختار توقيتا، واستثمر طاقات كامنة، وحفّز هؤلاء الشباب على الخروج السلمي، فقد أسدى إلينا معروفا كبيرا.

الحقيقة الساطعة اليوم تقول: لا بديل لنا عن السياسة بقواعدها الصحيحة، ولا مهرب لنا من إعادة الروح إلى عمل حزبي حقيقي يحمل الأفكار والأحلام والتطلّعات.

هذا التجريفُ الإعلامي يجب أن يتوقّف هنا. لقد حلّ بنا الخراب بالفعل، لكن الأمل لم يبرح المكان. الإعلام العمومي قادر على أداء وظيفته كاملة؛ لا تنقصه الكفاءات ولا الجرأة ولا “الصَّنعة”. كلّ ما يلزمه فسحة ضوء وجرعة حرية.

أمّا منطق “الشبيحة” الذي أوشك أن يستولي على سيادتنا الإعلامية، فينبغي أن يُطوى مع هذه اللحظة.

لا أحد، في تقديري، ضد استحقاقات كبرى مثل كأس إفريقيا وكأس العالم، ولا أحد يُنكر ما فعله “جيل Z” عبر المنتخب الوطني، حين أوصلنا إلى نصف نهائي المونديال وحرّرنا من عقدة الدونية.

لكن رسالة الشارع اليوم واضحة: مغرب السرعتين لا يبني مستقبلا. نعم، سيظل في القطار درجات، لكن واجب الدولة أن تضمن لكلّ منا مقعدا. لا يجوز أن نترك أحدا في الرصيف. ينبغي أن يركب الجميع: من الجبل والصحراء، ومن الشرق والوسط والجنوب؛ للجميع نصيب في كعكة الغد.

الإشارات الدالّة في هذه الأيام أوضح من أن تُهمل. حين احترمت السلطة سلمية الشارع، انتظمت الوقفات وارتفعت الورود بدل الحجارة.

وحين تلعثمت الرسالة السياسية في البدايات، انفتحت ثغرات تسرّبت منها عصابات الليل.

حتى حين تكلّم بعض المسؤولين بصدق، لا تبريرا، بدأت الثقة تُرمّم. وهذا يعني ببساطة أن الفارق بين دولة تصغي ودولة ترهب ليس إلّا قرارا وطريقة في التدبير. والمسافة بين احتجاج سلمي ومشهد فوضى لا تقاس بعدد الخوذات والدروع، بل بذكاء السلطة وصدق نية المجتمع في حماية سلمية مطلبه.

من هنا، يصبح واجب المرحلة أن نحوّل هذه النافذة إلى مسار.

سياسيا، علينا الاعتراف بصراحة بأن تجريف الحياة الحزبية وإضعاف هيئات الوساطة كان خطأ بنيويا جرّد الدولة من واقيات الصدمات، وتركها وجها لوجه مع الشارع.

ومؤسّساتيا لابدّ من إعادة فتح قنوات المشاركة، من خلال تشاور عمومي حقيقي، لا كديكور. آليات إنصات منتظمة في الجهات؛ والتزامات ومؤشرات واضحة تُحاسب عليها الحكومة.

أما حقوقيا فحتاج بشكل عاجل إلى عدالة باردة لا انتقائية فيها، وإلى إطلاق سراح كلِّ من لم يثبت في حقه عنف بيّن وقصد جنائي، وتحقيقات نزيهة في كل إصابة ووفاة، وملاحقة التخريب بالقانون لا بالتخويف.

وإعلاميا، لابدّ من إنهاء زمن المونولوغ، وإعادة الكلمة إلى المهنيّين والجمهور. وهذا الجيل الذي نقل النقاش إلى “البودكاست” يستحق جسرا لا قيودا وحواجز.

هذه ليست لحظة كسر عظام؛ إنها لحظة ترميم عاقل. جيل وليّ العهد قدّم لنا فرصة مراجعة كبرى: أن نرتّب بيتنا من الداخل، ونعيد السياسة إلى مكانها الطبيعي، ونكتب معا تعهدا بسيطا وواضحا: السلمية مقابل الإنصات.

والإنفاق الكبير على الرياضة لا يمر بالضرورة فوق سرير مريض ولا كرسي تلميذ.

نريد القطار السريع نعم، لكن بمقاعد للجميع.

هذا هو الدرس الأوضح من ربيع خاطف يزهر الآن أمامنا: إن أحسنّا التقاطه، صار موسما؛ وإن أسأنا قراءته، عاد شوكا في الطريق.

جيل الغد لم يخرج ليكسر الدولة، بل ليقول لها أصلحي لنصلحك معنا. والمسؤولية تقع علينا جميعا، دولة ومجتمعا وإعلاما ونخبا، بأن نحول هذا النداء إلى قواعد عمل.

إذا فعلنا، أمكن لمغرب أنهكته السرعتان أن ينهض على سكّة الكرامة والإنصاف. وإذا لم نفعل، سنعود إلى دوّامة أصبحنا نعرفها جيّدا واكتوينا بنارها في الأسبوع الماضي، وسنكتشف متأخرين أنّ إشارات الأمل كانت تحوم من حولنا ونحن مشغولون بتبديدها.

الشبان الذين ملأوا الساحات منذ 27 شتنبر 2025 ينتمون إلى الجيل نفسه الذي ينتمي إليه وليّ العهد مولاي الحسن. أي إنهم يتقاسمون الزمن نفسه، والمخاوف نفسها.

وفي أنظمة ملكية عريقة، ولاية العهد ليست مجرّد ترتيبات انتقال سلس للسلطة؛ بل هي مؤسّسة عبور إلى المستقبل، تُربّي الحسَّ العام على الاستمرارية وعلى التفكير بمنطق الأجيال لا بدورات انتخابية قصيرة.

لهذا تصبح مطالب هؤلاء الشبان، صحة، وتعليم، وشغل وكرامة، أكثر من مجرّد احتجاج على الماضي بقدر ما هي عَقد مشاركة مع الجيل الذي سيحمل رمز الدولة غدا.

فإذا كانت الملكية عنوان الاستمرارية، فولاية العهد هي ترجمتها إلى لغة الأمل. أن يرى جيل اليوم صورته في رمز الغد، وأن ترى الدولة في هؤلاء المحتجّين شركاء في تأمين شرعية الزمن المقبل لا خصوما يرهقون شرعية الحاضر.

لقد خرج “جيل وليّ العهد” ليُذكّرنا بأن المستقبل ليس وعدا مؤجّلا، بل ورشة بدأت بالفعل، ويجب أن تدار معهم لا عنهم.

هذا الربيع المزهر ليس وعدا بالخلود؛ لكنه كاف ليُذكّرنا بمن نكون حين نختار أن نكون أفضل… فلنتركه يزهر.