story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

الحاجة إلى الملك

ص ص

هذا الذي يجري اليوم في شوارع مدن مغربية عديدة ليس “ضجيجا شبابيا عابرا”، بل لحظة سياسية-مجتمعية تكشف اختلالا في العلاقة بين الحقوق المكفولة في الدستور وسلوك بعض السلطات أثناء إنفاذ القانون، وإفلاسا مؤسساتيا تاما على مستوى السلطات الثلاث التي وقفت تتفرّج على مشاهد انهيار كل ما بناه المغاربة على مدى عقود من التضحيات.

إننا في وضعية تنطبق عليها مقولة “ناس الغيون” في إحدى أغانيها: “السلطان طبيب والراعي مضرور والوزير ما يبلغ لخبار”. دولة تتحدّث لغات متنافرة، ومواطنون يطلبون أبسطَ حقوق العيش الكريم، وحكومة خرساء، وحقوق تحوّلت إلى كُرات تتقاذفها الأجنحة في صراع عبثي.

هذا الخرس الحكومي والمؤسساتي ليس حيادا؛ إنه تخلّ عن الواجب، وتحوُّلٌ للمؤسسات إلى صدى بلا صوت، يترك الشارع نهبًا للتأويل والاحتقان.

هنا تبرز الحاجة إلى الضامنُ الدستوري لوحدة الدولة واحترام الحريات، والذي يمكنه أن يعيد ضبط البوصلة على قواعد الدستور، وفتح قنوات المساءلة على التجاوزات، ووقف التعسّف في تقييد التجمّعات السلمية، وإلزام السلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية بأن تقوم بواجبها أو تُفسح المجال لمن يقوم به.

لقد وثّقت تقارير وكالات دولية، جنبا إلى جانب مع عدسات المواطنين، خروج آلاف الشبان في أكثر من مدينة، بطريقة سلمية ومنظمة منذ مساء السبت 27 شتنبر 2025. وقفات لم تشكل أي تهديد للنظام العام أو عرقلة لأي مرفق عمومي، في مقابل عمليات تفريق عنيفة وغير مبررة ولا ضرورية، تسبّبت في تحوّل التظاهر السلمي إلى قطع للطريق وتراشق بالحجارة في بعض الحالات، واعتقالات عشوائية ومفرطة في السريالية وانعدام الأسباب.

إن الإطار الحاكم هنا واضح لا لبس فيه: الفصل 29 من الدستور يضمن حرية الاجتماع والتجمّعات السلمية والتظاهر. وهو وإن كان يجيز تنظيمها بقانون، لكنه لا يجيز تفريغ الحق من مضمونه بقرارات المنع العامة والمزاجية وغير المنضبطة للمساطر القانونية، أو بتأويلات فضفاضة للنظام العام.

ثم إن المطالب التي حملتها تلك الوقفات تتقاطع مع “حقوقٍ إيجابية” التزم بها الدستور نفسه، مثل الولوج إلى العلاج، والتعليم الجيّد، والخدمات الاجتماعية الأساسية (الفصل 31).

معنى ذلك أنّ المحتجّ لا “يستجدي” عطف الدولة، بل يذكّرها بحقوق أوجبتها على نفسها في نصّها الأعلى. بالمقابل يقرّر الفصل 6 علوّ القانون ووجوب تقيده على الحكّام والمحكومين معا؛ وأي إجراء إداري مقيّد لحرية عامة يجب أن يجتاز اختبارات الشرعية والضرورة والتناسب والشفافية.

في قلب هذا المشهد تبرز وظيفة دستورية لا يمكن تجاهلها: الفصل 42 الذي يجعل الملك رئيس الدولة ورمز وحدتها والحَكم بين مؤسساتها، وضامنا لاحترام الدستور، وحسن سير المؤسسات الدستورية، وللاختيار الديمقراطي، وللحقوق وحريات المواطنين والمواطنات والجماعات. وهذا بالضبط ما نحتاجه حاليا.

فحين تتراكم مؤشرات الانزلاق، من منع واسع للاحتجاج السلمي، واستخدام مفرط للقوة، أو إجراءات تمسّ بحرية الصحافة في التغطية، فإن رسالة الفصل 42 ليست رمزية؛ إنها تُنشئ التزاما بالتحكيم والتصحيح، قبل أن تتصدّع الثقة العامة أكثر وينهار سقف الأمة.

وتصحيح المسار هنا لا يحتاج إلى أدوات استثنائية، مثل تلك التي ينص عليها الفصل 59 (إعلان حالة الاستثناء)، بل إلى تفعيل أدوات عادية نصّ عليها الدستور نفسه، ويمنحها الدستور بوضوح للملك، كمثل اختصاصات المجلس الوزاري في الإشراف على الأمور الحيوية والاستراتيجية، وتوجيه السلطات المختصّة لمراجعة قرارات المنع “الشاملة” التي لا تقوم على تقدير فعلي وملموس للخطر.

هذه الحاجة إلى تفعيل ضمانات تفعيل الدستور تتعلق أيضا بمقتضيات مثل الفصل 27 الخاص بالحق في الحصول على المعلومة، والفصل 31 حول الحقوق الاجتماعية، وهما يقدّمان مدخلا عمليا: مكاشفةٌ معمّقة وموثّقة حول كلفة مشاريع 2030، وتوزيع اعتماداتها، وجداولها الزمنية، وتأثيرها على التعليم والصحة والشغل، مع قنوات تواصل مخصصة لجيل يثق بالشفافية الرقمية أكثر من الخطب العامة.

إن مآلات المقاربة الأمنية وحدها معروفة في الأدبيات الوطنية والمقارنة. فهي تُنتج تعطيلا لسمعة الاختيار الديمقراطي المنصوص عليه في الدستور، واستنزافا لشرعية القانون حين يُستعمل انتقائيا.

هنالك نافذة زمنية قصيرة لاستعادة الثقة عبر تحكيم ملكي يثبّت قاعدتين: لا مساس بحقّ التظاهر السلمي، ولا محاباة في تطبيق القانون على أيّ جهة تُخِلّ بالسلم، بما فيها السلطات القائمة على إنفاذ القانون.

إن هذه الاحتجاجات، كما تابعها القريب والبعيد، لم تُنكر الدولة ولا رموزها؛ بل طالبت بحياة كريمة على مقاس الدستور نفسه. وتدخّلٌ ملكي لن يكون خروجا على الدستور، بل عودة إلى نص قال صراحة إن رأس الدولة ضامن لحقوق وحريات المواطنين والمواطنات. وهذا ما سيحقّق فعليا الفرق بين إدارة أزمة بالعتاد الأمني، وإدارة دولة بالدستور.

وإذا كان ثمّة درس عاجل من هذه الأيام، فهو أن جيلا قرأ الدستور، وخرج يطالب بتنفيذه كما هو.

إننا لا نواجه مجردَ تشدّد موضعيّ في إنفاذ القانون، بل تلاعبا خطيرا بالحقوق والحريات تغذّيه منافسة داخل الدولة نفسها. صراع أجنحة ظل خفيا إلى وقت قريب، فصار يطلّ برأسه في تعارض الإشارات، وتنافر القرارات، وتسريب الرسائل المتناقضة.

وكل من يراقب التفاصيل يلمح “تقلازا من تحت الجلابة”، وممارساتٌ تحت الطاولة تُوظَّف فيها أدوات الدولة لتسجيل نقاط بين أجنحة متنازعة، ويُداس خلالها على الأجساد والحقوق بوصفها مجرّد أضرارا جانبية.

هذا الانزلاق يناقض نصّ وروح الدستور في صميمه. فـالفصل الأول يقرّر نظاما يقوم على فصل السلط وتوازنها وتعاونها وعلى الحكامة الجيدة وربط المسؤولية بالمحاسبة؛ والفصل 154 يلزم المرافق العمومية بالحياد والمساواة والجودة والاستمرارية.

وحين تُستعمل أجهزة الضبط الإداري والأمني في لعبة شدّ الحبل بين دوائر القرار، ينهار مبدأ حياد الإدارة، وتضيع سلسلةُ القيادة الواحدة التي تضمن وحدة الدولة. عندها يغدو تدخّل الملك، بمقتضى الفصل 42 الذي يجعله ضامنا لاحترام الدستور وحسن سير المؤسسات والحقوق والحريات، ضرورة مؤسسية لإعادة توحيد البوصلة ووقف “تسييل” الحقوق في مجاري الصراع.

إن ترك “التقلاز من تحت الجلابة”، يحكم المجال العمومي يُحوِّل الحقوق إلى عملة للصراع، ويشجّع كل طرف على قراءة الدستور بحسب مصلحته الظرفية. والتدخّل الملكي هنا ليس انحيازا لطرف على آخر بالضرورة؛ بل هو عودةٌ إلى العقد الدستوري: دولة محايدة، وقانونٌ واحد، وكرامةٌ مصونة، وحقوقٌ لا يداس عليها لتمرير الرسائل.

حين تُحسَم المنافسة داخل الدولة بقواعد الدستور، تتحرّر حقوق الناس من أن تكون ضحية “الرفس” كلما قرع جرس جولة جديدة.

هذه هي الحماية العليا التي انتدب الفصل 42 رأسَ الدولة لها: أن يضمن أن يبقى الدستور سقفا واحدا فوق الجميع، لا قفازا تُبدّله الأجنحة وفقا للمقام.