العربدة الصهيونية.. إلى أين؟

شنّت إسرائيل، الثلاثاء 10 شتنبر 2025، عدوانا عسكريا على العاصمة القطرية الدوحة، استهدفت خلاله تجمعا سكنيا يقيم فيه قادة ومسؤولي حركة المقاومة الإسلامية حماس.
وقد أسفر العدوان عن اغتيال عدد من الشهداء، منهم نجل رئيس الفريق المفاوض في الحركة، ورجل أمن قطري، وإصابة آخرين بجروح متفاوتة. وقد تبنت إسرائيل الهجوم بصلافة منقطعة النظير، مؤكدة أنها استهدفت اغتيال أعضاء الوفد التفاوضي في حركة حماس الذي يترأسه خليل الحية، حين كان يناقش مقترحا جديدا لوقف إطلاق النار في غزة، طرحه الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، وادعى أن الحكومة الإسرائيلية وافقت عليه، و”يجب على حماس الموافقة أيضا”، محذرا “هذا إنذاري الأخير”.
مما لا شك فيه أن محاولات إسرائيل اغتيال قيادات حماس كان متوقعا منذ أن شنت فصائل المقاومة هجمات ضد الاحتلال الإسرائيلي في السابع من أكتوبر 2023، وهو ما فعلته على نحو متواتر طيلة عامين تقريبا، ارتكبت خلالهما جرائم الحرب وإبادة جماعية في غزة، وعدوانا عسكريا متكررا ضد إيران ولبنان واليمن وسوريا.
لكن الهجوم الأخير كان مفاجئا كونه استهدف قطر، كونها حليفا للغرب وللولايات المتحدة ووسيطا في المفاوضات بين إسرائيل وحماس. وصادما أكثر لأنها أعلنت مسؤوليتها عن العملية صراحة، على خلاف ما فعلته حين هاجمت إسماعيل هنية في العاصمة الإيرانية طهران، إذ التزمت الصمت ولم تعلن مسؤوليتها إلا بعد 5 أشهر من اغتياله.
وسواء كان الهدف قطر أو غيرها، فقد انتهكت إسرائيل على نحو منهجي كل القواعد القانونية والأخلاقية، بحيث تتجرأ على مهاجمة دول مستقلة ذات سيادة محمية بقوة القانون الدولي.
وفي حالة قطر، نحن أمام وسيط في المفاوضات لإنهاء حرب الإبادة الجماعية في حق الشعب الفلسطيني بغزة، وحليف لأمريكا يحتضن أكبر قاعدة عسكرية لها في الشرق الأوسط، علاوة على قاعدة عسكرية أخرى للجمهورية التركية، ولم يُعرف عنها معاداتها الصريحة لإسرائيل بل سبق لها التطبيع معها.
ومع كل ذلك، فقد تجاوزت إسرائيل كل تلك المعطيات الموضوعية، وداست بطريقة غادرة على السيادة القطرية وعلى القانون الدولي، بذريعة الرغبة في تصفية قادة حركة حماس. ما يجعل إسرائيل كيانا مارقا، كونه يتصرف بعدوانية سافرة وخارج كل القواعد والقوانين والأعراف الدولية.
لكن بالرغم من الصدمة التي خلّفها الهجوم، الذي أدانته منظمات دولية مثل مجلس التعاون الخليجي، وجامعة الدول العربية، ومجلس الأمن الدولي، والعديد من الدول عبر العالم، بما فيها قوى كبرى؛ إلا أن فشل قوات الاحتلال في تحقيق الهدف من الهجوم، قد تكون له ارتدادات على الكيان في الداخل وعلى الصعيد الإقليمي والدولي، وهو ما أظهرته المواقف الأمريكية التي أنكرت علمها المسبق بالهجوم، دون أن تندد به أو تسمح بإدانة إسرائيل صراحة في مجلس الأمن الدولي.
وعموما يفترض أن يرتد الإخفاق الصهيوني في تحقيق الهدف المعلن من الهجوم على الدوحة، على مسار المفاوضات حول وقف الإبادة في غزة، كما يفترض أن ينعكس على الترتيبات الأمنية والدفاعية لدول المنطقة، وعلى علاقتها بالولايات المتحدة الأمريكية على المديين المتوسط والبعيد.
سياسة الاغتيالات
عقب هجوم حماس في السابع من أكتوبر 2023 على المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة المحتل، أعلنت إسرائيل أنها قررت استهداف جميع قادة حركة حماس “أينما كانوا”.
وقد أفصح عن هذا القرار ثلاثة من كبار المسؤولين السياسيين والأمنيين في حكومة الاحتلال الصهيوني، هم رئيس الحكومة بنيامين نتيناهو، ووزير الدفاع يوآف غالانت، ورئيس الشاباك رونين بار. ويٌنسب إلى هذا الأخير قوله علانية: “في كل مكان؛ في غزة، في الضفة الغربية، في لبنان، في إيران، في قطر، في تركيا”.
وبالفعل، استهدفت إسرائيل في غزة كل قادة حماس العسكريين والسياسيين، إذ اغتالت قادة كبار مثل رئيس المكتب السياسي، يحي السنوار، وقادة سياسيين وعسكريين ومدنيين في حركات المقاومة، بالتوازي مع عمليات الإبادة الجماعية والتهجير القسري في حق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.
وفي لبنان، اغتالت إسرائيل يوم 2 يناير 2024، نائب رئيس الحركة الشيخ صالح العاروري، إلى جانب قادة سياسيين وعسكريين كذلك. وفي 31 يوليوز 2024، اغتالت إسماعيل هنية، رئيس الحركة في العاصمة الإيرانية طهران، منتهكة السيادة الإيرانية لكنها لم تعلن مسؤوليتها عن اغتيال هنية سوى بعد خمسة أشهر.
وعلى خلاف حدث اغتيال هنية، تبنّت إسرائيل محاولة اغتيال الوفد المفاوض للحركة في الدوحة بقطر سريعا ودون تردّد.
جاء ذلك على لسان رئيس حكومة الاحتلال نتنياهو في مؤتمر صحفي عقب العدوان على قطر، أكد فيه أن إسرائيل “بادرت، ونفذت، وهي من تتحمل المسؤولية الكاملة”، في محاولة لإبعاد التهمة عن الولايات المتحدة الأمريكية، وعن الرئيس ترامب تحديدا.
في حين قدم بلاغ مشترك لجيش الاحتلال مع جهاز “الشاباك” معلومات تزعم أن “سلاح الجو هاجم قبل قليل بشكل موجه ودقيق قيادة حركة حماس في الدوحة”. بينما قدمت وسائل إعلام صهيونية معلومات إضافية من قبيل أن الهجوم شاركت فيه 15 طائرة مقاتلة، أطلقت 10 قنابل ثقيلة بهدف التدمير الكامل لمقر حماس، وقد أصابت الهدف المحدد بدقة. قبل أن يتبين لاحقا فشل العملية في تحقيق الهدف منها.
والملاحظ أن إسرائيل سلكت نهج الاغتيالات نفسه في ملاحقة قادة باقي حركات المقاومة للاحتلال؛ ففي لبنان، استهدفت قادة حزب الله بالطريقة نفسها، سواء من خلال تفجير أجهزة اتصال لا سلكية (البيجر)، أو باستخدام سلاح الجو لاغتيال الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله وقادة عسكريين وسياسيين في ضواحي العاصمة اللبنانية بيروت.
ورغم التوقيع على اتفاق وقف إطلاق النار بينها وبين الحكومة اللبنانية في نونبر 2024، فقد استمرت في استهداف قيادات عسكرية لحزب الله جنوب نهر الليطاني، ولا تزال.
كما لجأت إسرائيل إلى السلوك العدواني نفسه في الرد على هجمات جماعة الحوثي اليمنية، وآخرها اغتيال حكومة جماعة الحوثي أثناء اجتماع لهم في العاصمة اليمنية صنعاء. ولما شنّت حربها العدوانية على إيران يوم 13 يونيو 2025، بدأت بحملة اغتيال واسعة ضد قادة سياسيين وعسكريين وعلماء نوويين في العاصمة طهران.
لا شك أن الدور الإقليمي لقطر، وخصوصا احتضان المقاومة الفلسطينية، وتعزيز الوعي المقاوم في المنطقة ضد الاحتلال الإسرائيلي، وقيامها بدور الوساطة في تسوية وحل الأزمات، يزعج فاعلين كثر في المنطقة، من بينهم إسرائيل.
لكن أن تصل إسرائيل أو غيرها إلى حد الهجوم العسكري على الأراضي القطرية، فهو ما لم يحدث سوى مرتين:
الأولى من طرف إيران لما هاجمت مقر القيادة العسكرية المركزية الأمريكية يوم 23 يونيو 2025 في قطر، ردّا على الهجوم الأمريكي على منشآت نووية في إيران؛
والمرة الثانية تجلت في الهجوم الإسرائيلي على الدوحة بذريعة اغتيال قيادة حماس.
لكن إذا كان هجوم إسرائيل على قادة المقاومة في إيران أو لبنان أو غزة متوقعا، فإن الهجوم على قطر كان صادما، وسيدفع دول المنطقة إلى إعادة التفكير مليا في علاقاتها الدولية، لأن قطر حليف رئيسي من خارج حلف الناتو منذ 2022، كما أنها تحتضن أكبر قاعدة عسكرية أمريكية في الشرق الأوسط، تعد مقر القيادة المركزية التي ترعى المصالح الأمريكية في المنطقة، وتصنف أمريكيا “حليفا موثوقا به”، كما حظيت بزيارة الرئيس ترامب في جولته الأخيرة إلى السعودية والإمارات في ماي 2025. وبات معلوما أنها استضافت قيادة حماس في قطر منذ سنة 2012 بطلب أمريكي وإسرائيلي.
ورغم مستوى علاقاتها تلك مع أمريكا، إلا أنها تعرضت لهجوم إسرائيلي، لا شك أنه جرى بضوء أخضر من الحليف الأمريكي. كيف ذلك؟
غارة جوية أم عملية سرّية؟
في حادثة الهجوم الإيراني على القوات الأمريكية في قطر، لوحظ وجود تعاون سلس بين القوات الأمريكية والقوات القطرية، بل تنسيق وثيق في اعتراض الصواريخ الإيرانية التي استهدفت القاعدة الأمريكية في العْديد.
والأهم أن عمليات الاعتراض القطرية كشفت عن توفر القوات الجوية القطرية على أنظمة دفاع جوي متقدمة ومتنوعة، استُعملت بنجاح في اعتراض 19 صاروخ باليستي من بين 20 صاروخ أطلقت من إيران. وقد دلّ أيضا على مدى جاهزية القوات المسلحة القطرية وقدرتها على التصدي لأي اعتداء جوي على أراضيها.
لكن المفارقة أنه خلال الهجوم الإسرائيلي يوم 10 شتنبر، بدا كما لو أن أنظمة الدفاع الجوي القطرية تلك كانت خارج الخدمة وقت الهجوم على الدوحة. وهي ملاحظة تنطبق على أنظمة الدفاع الجوي الأمريكي في قاعدة العْديد. ما يطرح التساؤل حول طبيعة الهجوم الإسرائيلي من الناحية العسكرية؟ ولماذا لم تتصد أنظمة الدفاع الجوي القطرية والأمريكية للهجوم الإسرائيلي؟
من منظور التحليل العسكري، يصعب وصف ما حدث بأنه “غارة جوية عادية” من جهتين: الأولى، أن الولايات المتحدة لديها أكبر قاعدة عسكرية في منطقة الشرق الأوسط مقرها في الدوحة، وتستضيف فيها أنظمة رادار متقدمة، وأنظمة إنذار مبكر، وأنظمة للقيادة والسيطرة كذلك.
إمكانات تقتضي أن أي طائرة أو صاروخ أو أي طائرة مسيّرة، تدخل الأجواء القطرية يجب أن يتم رصدها تقريبا، وبشكل فوري. وقد ينطبق القول نفسه على تركيا، التي تملك أكبر قاعدة عسكرية خارج حدودها في قطر منذ 2017، ويفترض أن لديها أنظمة ردار متقدمة كذلك، وأنظمة استشعار مبكر.
ومن جهة ثانية، تملك القوات المسلحة القطرية أنظمة دفاع جوي حديثة ومتطورة، بما في ذلك أنظمة “باتريوت” (بدعم أميركي)، ومنظومة “ناسامز” النرويجية/الأمريكية، وهي أنظمة متقدمة جدا. كما تتوفر القوات الجوية القطري على مقاتلات متطورة، منها طائرات F15 الأمريكية، وطائرات “يورفايتر تايفون” الأوربية، وطائرات الأباتشي الأمريكية. وهي أسلحة نوعية توفر لمن يملكها طبقات مختلفة من الدفاع الجوي، وقد سبق لقطر استخدمها بهذا الشكل لاعتراض الصواريخ الباليستية الإيرانية.
ومن غير المرجح، أن تتمكن طائرة إسرائيلية تقليدية أو حتى قاذفة شبحية من دخول أجواء الدوحة وضرب هدف ثم المغادرة من دون أن تُكتشف.
وعليه، فالقول إن ما جرى كان هجوما جوّيا خارجيا، وأنه لا القوات العسكرية الأمريكية في قاعدة العْديد ولا القوات المسلحة القطرية اعترضتاه، يعني احتمالين على الأقل:
الأول، أن إسرائيل قد تكون عثرت على ثغرات تقنية في أنظمة الدفاع الجوي القطرية أو الأمريكية، وهذا احتمال ممكن ويشكل نجاح عملياتي كبير؛
والاحتمال الثاني، أن الولايات المتحدة الأمريكية سمحت لإسرائيل بالهجوم، وعطلت أنظمة الدفاع الجوي مؤقتا، سواء لديها أو لدى قطر. وهو احتمال سيطرح ألف سؤال حول الجدوى من السلاح الأمريكي إذا كان قابلا للتعطيل من المصدر، كلما تعلق الأمر بهجوم إسرائيلي على إحدى دول المنطقة.
لكن هناك فرضية أخرى، وهي أن الهجوم لم يكن جوّيا من الأساس، بل على شاكلة ما حدث في إيران، حيث تمكنت الاستخبارات الإسرائيلية من نقل أسلحة مفككة ثم إعادة تركيبها داخل إيران، وتنفيذ هجمات من داخل طهران على أهداف محددة.
في هذه الحالة، ستكون رواية “الغارة الجوية”، وكل ما روّجته إسرائيل حولها من معطيات (عدد الطائرات، عدد الذخائر…) مجرد تضليل وحرب معلومات، الغرض منه التمويه. ولعل منع قادة الوفد المفاوض من حضور جنازة شهداء العدوان الإسرائيلي في الدوحة، يشير إلى مثل هذا الاحتمال.
إن القول بأن الدفاعات الأمريكية والتركية والقطرية لم ترصد شيئا من الهجوم الإسرائيلي على الدوحة أمر يدعو إلى مزيد من القلق والتساؤل. ليس في قطر، بل في كل دول الخليج، التي اقتنت أنظمة للدفاع الجوي من الولايات المتحدة الأمريكية ومن الدول الأوربية، بأثمان باهضة التكاليف، ثم ثبت أنها تكشف صواريخ إيران لكنها لا تكشف طائرات إسرائيل.
لكن إذا كان الأمر دقيقا، وهو أن تلك الأنظمة كانت مشغلة دون أن تكشف الاختراق الإسرائيلي للأجواء القطرية، فإن فرضية “غارة جوية” تقليدية تصبح متجاوزة، ويجب التأكد مما إذا كانت الدوحة قد تعرض لضربة من خارج المجال الجوي القطري تماما، وهو احتمال ضعيف بالنظر إلى دقة الهجوم في إصابته لهدفه (مكتب قيادة حماس في الدوحة)، أو أن ما حدث كان “عملية سرّية” للموساد الإسرائيلي جرى تقديمها في صورة غارة جوية للتمويه، وهو احتمال ممكن لسببين على الأقل:
الأول، أن إسرائيل قامت بمثله في عدوانها على إيران في يونيو الماضي؛
والسبب الثاني، لتوارد تقارير تتحدث عن “اختراق كامل” لدول الخليج من قبل جهاز الاستخبارات الإسرائيلي، بالتعاون مع أجهزة دول أخرى منها الهند وأمريكا ودول أوربية. ويعني ذلك أننا أمام عربة صهيونية لا مثيل لها في الإقليم.
العربدة الصهيونية… إلى أين؟
في انتظار أن تثبت التطورات حقيقة العدوان الإسرائيلي على الدوحة، وسواء كانت الدوحة قد تعرضت لغارة جوية من قاذفات شبحية متطورة أو عملية سرّية ميدانية للاستخبارات الصهيونية، فإن ما حصل يحمل دلالات عديدة، منها أن إسرائيل صارت دولة مارقة، تتصرف خارج القانون والأعراف والقواعد، وتسعى إلى فرض إرادتها بالقوة على دول المنطقة، بما في ذلك الدول الحليفة للغرب مثل قطر.
لقد هاجمت إسرائيل منذ أن بدأت حربها على غزة والضفة، نحو ست دول مستقلة ذات سيادة (لبنان، سوريا، العراق، اليمن، إيران، قطر)، بحيث تتصرف كما لو أنها قوة عظمى إقليمية لا نظير ولا رادع لها، وهو طموح صهيوني قائم بالفعل لدى نتنياهو، كما تدل على ذلك تصريحاته حول “إسرائيل الكبرى”.
لكنه طموح مسكون بهواجس الخوف من الفناء، كما تعبّر عن ذلك عبارته حول “إسرائيل الأبدية” التي تكشف عن تحدي الوجود والبقاء، في منطقة لا يبدو أنها ستقبل بالهيمنة الإقليمية لإسرائيل تحت أي ظرف.
ولعل ما يدفع إسرائيل إلى التصرف كأي قوة مارقة، هو فشلها حتى الآن في فرض إرادتها السياسية على فصائل المقاومة في قطاع غزة، والتي تضغط عليها بدعم أمريكي كامل من أجل الاستسلام، بما في ذلك ارتكابها جرائم الحرب والإبادة الجماعية والتهجير القسري.
علما أن إسرائيل تشعر منذ هجمات السابع من أكتوبر أن محاولاتها طيلة عقود مضت لتطبيع وجودها وسط شعوب ودول المنطقة قد تعرضت للتبديد بضربة واحدة، كما تشعر أنها بصدد تهديد وجودي، يجعل بقاءها في المنطقة مسألة وقت فقط.
لذلك، تعتقد كما يبدو من تصريحات مسؤوليها أن تأمين وجودها يتطلب القضاء التام والنهائي على مصادر التهديد وليس التعايش معها من موقع القوة المهيمنة فقط، لذلك فهي تحاول فرض الاستسلام على فصائل المقاومة المسلحة في غزة، وتحاول تصفية القضية الفلسطينية تماما عبر الانقلاب التام والنهائي على مسار أوسلو، في الوقت الذي تحاول أن تقيم غلافا أمنيا في عمق الدول المجاورة لها، في لبنان وسوريا والأردن وسيناء، ويبدو أنها وراء الموقف الأمريكي والأوربي بشأن نزع وتدمير البرنامجين النووي والصاروخي لإيران.
لكن كل تلك الأهداف يصعب تحقيقها بشكل حاسم وتام، فالمقاومة الفلسطينية ترفض الاستسلام ونزع سلاحها حتى الآن، ولا زالت تقاوم في قطاع عزة وتلحق خسائر بقوات الاحتلال، وتمنع إسرائيل من تحقيق أي من أهدافها السياسية المعلنة للحرب، مثل استرجاع الرهائن بالقوة، رغم التدمير الهائل في غزة.
كما أن محاولاتها لتصفية القضية الفلسطينية يعمّق من خيار الصدام بينها وبين بعض دول المنطقة، وأساسا مصر والسعودية وتركيا وقطر، ويهدد بعزلتها مجددا بعد الاختراقات التي حققتها مع “الاتفاقات الابراهيمية”.
ويبدو أن الهجوم الأخير على قطر، ينطوي على رسالة ردع لكل الدول التي ترفض مشروع تصفية القضية الفلسطينية، سواء عبر فرض استسلام المقاومة وإعادة احتلال غزة، أو الشروع في عملية الضم القسري للضفة الغربية والقدس الشرقية.
ويبدو أنه كلما تأخرت إسرائيل في فرض إرادتها على خصومها في غزة والإقليم، كلما لجأت أكثر إلى القوة العارية، سواء بذريعة السابع من أكتوبر كما فعلت مع قادة حماس في قطر وغيرها، أو بذريعة الحاجة إلى غلاف أمني مع مصر والأردن ولبنان وسوريا لحماية ما تعتبره أمنها القومي. وهي ذرائع تجعل الوضع في المنطقة مفتوحا على مزيد من التصعيد والتوتر. ويشكل الهجوم على قطر نقطة تحول في هذا الاتجاه.
ولعل ما يعزز هذا الافتراض، فشل ترامب في تسوية الأزمة بين روسيا وأوكرانيا، وإصرار الصين على استعادة تايوان، وارتفاع حدة التوتر بين أمريكا وفنزويلا، ورفض إيران الخضوع لشروط ترامب والقوى الأوربية حول العودة إلى طاولة التفاوض تحت شرط نزع برنامجيها النووي والصاروخي، ثم رفض حزب الله تسليم سلاحه للجيش اللبناني قبل انسحاب إسرائيل من لبنان.
ملفات معقدة لم يحقق فيها ترامب أي تقدم حقيقي، رغم مرور سنة تقريبا على ولايته الرئاسية الحالية. وفي منطقة الشرق الأوسط وحدها، يلاحظ أن محاولات السفير الأمريكي في تركيا والمبعوث الأمريكي إلى سوريا، توماس باراك، لإعادة هندسة المنطقة لم تسفر عن أي تقدم جدي، سواء في لبنان أو سوريا أو العراق أو تركيا أو فلسطين.
والدليل على ذلك، استمرار إسرائيل في العبث بأمن تلك الدول، من خلال هجماتها المتكررة ضد لبنان وسوريا، ومحاولتها فرض التجزئة السياسية في سوريا من خلال التحالف مع الأقليات (الدروز، الأكراد…).
ويخدم التصعيد مصلحة نتنياهو على الصعيد الداخلي في إسرائيل، إذ أن مواصلة تفجير الأزمات في المنطقة يعني بقاء الكيان في وضعية حالة الاستثناء التي تمنحه سلطات واسعة تحميه من المحاكمات التي تنتظر بتهم الفساد أو الإخفاق في منع هجوم السابع من أكتوبر.
كما أن تصعيد الأزمات عبر ملاحقة قادة المقاومة في دول المنطقة، يعزز من تحالفه اليميني المتطرف، ومن قاعدته الانتخابية وسط مجتمع بات يمينيا متطرفا، ما يوسع من حظوظه الانتخابية مستقبلا للبقاء في السلطة. كما أن تصعيد الأزمات في ظل تأييد أمريكي مطلق، يسمح له إقليميا بفرض إسرائيل قوة إقليمية مهيمنة، تحقق بالقوة ما عجزت عنه بالسياسة.
لكن إصرار نتنياهو على التصعيد قد يفجر الأوضاع في المنطقة، كما يشير إلى ذلك تصاعد حدة التوتر بين إسرائيل ومصر على خلفية ثلاثة ملفات على الأقل:
الأول، تبادل الاتهامات بالتجويع ومنع دخول المساعدات لغزة من معبر رفح، وهي قضية أزعجت مصر، إذ تسيء إلى صورتها عربيا ودوليا؛
والملف الثاني، رفض إسرائيل لحد الآن مقترحا مصريا لوقف إطلاق النار بعدما وافقت عليه حماس، ما وضع مصر في موقف حرج إزاء شعبها وفي الإقليم؛
ثم الملف الثالث، وهو محاولات التهجير القسري للفلسطينيين خارج غزة، وهي قضية اعتبرتها مصر خطا أحمر، وقد تفجر حربا بينها وبين إسرائيل، يبدو أن كلاهما يستعد لها بالفعل.
في السياق ذاته، يبدو أن إصرار نتنياهو على التصعيد قد يعمق الشرخ مع الأردن كذلك، على خلفية سياسة الضم التي تنتجها إسرائيل في الضفة الغربية والقدس الشرقية، وعلى خلفية الجدل المتصاعد حول تقييد السيادة الأردنية في منطقة غور نهر الأردن، لإقامة غلاف أمني للكيان المحتل.
مفترق الطرق
خلاصة القول أن العدوان على قطر يشير إلى أن العربدة الصهيونية وصلت إلى مفترق طرق، مفتوح على ثلاثة احتمالات:
الأول، استمرار حالة التصعيد كما هي عليه، دون تسوية لفترة أخرى من الزمن، تحتاجها أمريكا لهندسة الوضع الإقليمي ككل، وليس الوضع في غزة فقط. وهو احتمال يخدم مصلحة نتنياهو، الهارب من العدالة بتهم الفساد والفشل في منع السابع من أكتوبر.
والاحتمال الثاني، تحويل الهجوم على قطر إلى فرصة لوقف حال التصعيد والإبادة الجماعية في غزة، وهو احتمال قد يحصل في حال توصلت الدول العربية والإسلامية في قمتي الدوحة إلى قرارات حازمة ضد المصالح الأمريكية تحديدا.
أما الاحتمال الثالث، فهو أن تتجه الأوضاع بعد العدوان على الدوحة إلى مزيد من التدهور، وأن تنفلت نحو مواجهة إقليمية شاملة، وهو احتمال ظل قائما منذ بداية العدوان على غزة، ولا ينبغي استبعاده حتى الآن