CNDH: لا وصاية على الصحافة

هذه المرة لا مجال للّف والدوران: مذكرة المجلس الوطني لحقوق الإنسان بشأن مشروع قانون إعادة تنظيم المجلس الوطني للصحافة تُنهي الجدل وتحسم الخلاف.
من اليوم فصاعدا، أي دفاع عن الصيغة الحكومية الحالية لن يكون إلا تنطّعا ومكابرة. نحن أمام مؤسسة دستورية رصينة، مشهود لها بالاختصاص الحقوقي وباستقلالية معيارية، أعادت النقاش إلى سكّته الأصلية: الحرية أولا، والتنظيم الذاتي المستقل معيارا، والحق في تداول المعلومات جوهر المنظومة، لا ذيلا لها… وكل ذلك غائب في المشروع الحالي.
ما ظللنا نقوله لشهور، تأتي هذه الوثيقة لتضع عليه الختم الرسمي: المطلوب ليس تشريعا ل”الصحفيين”، بل تشريعٌ لحرية الإعلام وتداول المعطيات، وإعادة بناء التنظيم الذاتي على أسس تعددية واستقلالية ومساءلة.
المذكرة تسقط، وبشكل قاطع، المنطق الخطير الذي حاول تفصيل المجلس الوطني للصحافة على مقاس هيئة مهنية واحدة تستباح مؤسسات الدولة بآلياتها التشريعية والتنظيمية ل”تعيينها” بشكل مبطّن.
وتقول هذه الوثيقة بوضوح إن الفصل 28 من الدستور يكرّس حرية الصحافة “كحق دستوري قائم الذات”، وإنّ كل أشكال المنع القبلي أو الترخيص المسبق خرقٌ صريح لهذا الفصل، لأنها تمسّ “بجوهر الحق في إنتاج المحتوى وتداوله”، وتنسف مبدأ الاستقلالية المهنية.
هنا تعود بنا الوثيقة إلى أصل سنظلّ نذكّر به: المسؤولية لاحقة لا سابقة، والحماية تُبنى على الحرية والتعددية والمساءلة، لا على التراخيص والوصاية.
هذه ليست لغتي وحدي؛ بل هي لغة الدستور والمعايير الدولية التي تجعل القيود، متى احتيج إليها، محصورة في ما ينصّ عليه القانون صراحة، وبشروط الضرورة والتناسب والشرعية.
بل إن المذكرة تذهب أبعد، وتذكّرنا بالفصل 27 من الدستور، والذي يجعل من الحقّ في الحصول على المعلومات ركنا وظيفيا، لا امتيازا إداريا. السلطات ليست مطالبة بعدم عرقلة الوصول إلى المعلومات فقط، بل هي ملزمة بأن تبذل العناية لتوفيرها “في الوقت وبالشكل المناسبين”.
معنى ذلك أن الصحافي (والإعلامي عموما) صاحب موقعٍ دستوري في قلب المعادلة الديمقراطية، لأنه يمارس وظيفة رقابية لا تكتمل من دون انسياب المعلومة.
على الضفة البنيوية، تضرب المذكرة في الصميم أيّ مسعى لاحتكار التمثيل أو خنق التعددية. وتحذّر، انسجاما مع توصيات مجلس أوروبا المرجعية في هذا المجال، من مخاطر تمركز الملكية الإعلامية وتداخل النفوذ السياسي مع التحكم في وسائل الإعلام، وتدعو إلى تشريعات مضادّة للتركيز، وآليات لرصد للسوق، ودعم للإعلام غير الربحي لتوسيع قوس التعبير.
هذا ليس ترفا نظريا؛ إنه شرط ديمقراطي حتى لا تتحوّل “السلطة الرابعة” إلى ذراع علاقات عامة للسلط الثلاث الكلاسيكية أو من يتحكّم في إحداها.
من حيث الهندسة المؤسسية، تقدّم المذكرة ما افتقده النقاش: وصفات دقيقة قابلة للتنزيل. توازنٌ ثلاثي صريح في تركيبة المجلس بين الناشرين والصحافيين والمستقلين/المجتمع المدني (21 عضوا بصيغة 7–7–7 مع حضورٍ للمستقلين والمؤسسات الدستورية)، مع تمثيل نسبي يقطع مع منطق “الفائز يأخذ كل المقاعد” داخل فئة الناشرين، واعتماد التصويت باللوائح للصحافيين لتعزيز التعددية المهنية والفكرية.
المذكرة حملت توصيةٌ بحذف “فئة الناشرين الحكماء” المُلتبسة، وفصل وظيفي بين هيئة التسيير وهيئة الأخلاقيات والبتّ في الشكايات بتركيبة يغلب عليها المستقلون ونشر مقرراتها معلَّلة. مع وضع آليات تجريحٍ وتنافي مصالح، وآلية استعجالية للتدخل في حالات التجاوزات الجسيمة (التحريض على الكراهية، العنصرية، استغلال الأطفال، التضليل الممنهج…) بمهلة قرار قصيرة. وإلزامٌ بنشر التقرير السنوي بعد المصادقة، لأن الشفافية تبدأ من البيت.
أما الباب الذي حاول البعض إغلاقه بمفاتيح قديمة، فقد فتحتْه المذكرة عن آخره: من “حرية الصحافة” إلى “حرية الإعلام”. لا إقصاء لمنصات رقمية، ولا تسوير للمهنة ضدّ صانعي المحتوى الجدد متى استوفوا معايير موضوعية (حجم إنتاج، عقود مهنية أو تغطيات اجتماعية، التزام بأخلاقيات النشر).
والنتيجة: إدماج عقلاني لواقع السوق الإعلامي المتحوّل، بدل الإصرار على خرائط ما قبل الطوفان الرقمي.
كما تقف الوثيقة عند علاقة الصحفي بالقانون الجنائي، وتعتبر أن إخضاع الممارسة الصحفية لنصوصٍ زجرية فضفاضة يُنتج ما يعرف بالأثر الزجري أو الردعي (chilling effect) ويُربك الحدّ بين الخطأ المهني والفعل المجرّم.
لذا تطالب الوثيقة بتدقيق مفهوم “النظام العام”، وحصر السحب المحتمل لبطاقة الصحافة في حالات استثنائية مبيَّنة بمرسوم تنفيذي واضح يحدّد الشروط والإجراءات وضمانات الدفاع والطعن، انسجاما مع المادة 19 الدولية الشهيرة.
المذكرة تثول لنا باختصار: جزاء خطأ النشر أخلاقي/مهني أساسا، لا حبسا ووصما.
وأخيرا، لا تغفل المذكرة النموذج الاقتصادي للمقاولات الصحفية، وتذكّرنا أن الاستقلالية تحتاج هوامش بقاء. وألا حرية بلا استدامة. المطلوب سياسات عمومية ذكية، وليس ريعا، تصحّح اختلالات السوق وتبقي غرفة التنفس مفتوحة لمن يقومون بوظيفة المراقبة.
لهذه الأسباب كلّها، أنا أرحّب بهذه المذكرة وأنتصر لمضمونها. إنها تُعيدنا إلى جوهر ما نادينا به مرارا، في الكتابة والمناظر، وتمنح النقاش سندا دستوريا ومؤسساتيا لا يمكن القفز فوقه.
يمكن أن نضع جانبا، الآن، كل ما راكمته الهيئات المدنية والمهنية (مع أهميته) ونحتكم إلى مؤسسة دستورية تُجيد قراءة الدستور والمواثيق وتحوّلها إلى توصيات تشغيلية واضحة.
وعلى الأرجح، لن يبتعد رأي المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، حين سيصدر تقريره المرتقب، عن هذه الروح، لأن المرجعيات الدولية صريحة، ولأن الانحرافات الجوهرية في مشروع القانون الحالي، وخاصة تصفية فكرة التنظيم الذاتي وضبط المجلس على مقاس هيئة واحدة، لا يمكن تبريرها.
الخلاصة العملية للعقلاء في الحكومة والبرلمان: هذه الصيغة الحكومية سقطت أخلاقيا وحقوقيا، والآن سقطت مؤسساتيا. والطريق الوحيد المنتج هو إعادة الصياغة من الجذر، وفق ما رسمته المذكرة: حرية قبل ترخيص، وحرية إعلام قبل بطاقات، وتعددية قبل احتكار، وتنظيم ذاتي قبل وصاية.
ما عدا ذلك، مكابرةٌ تُهدر الوقت وتُعمّق الفجوة بين خطاب “الاختيار الديمقراطي” وواقع تأطير المجال العمومي.
لقد وُضع الميزان على الطاولة؛ ومن الآن، يصبح “التمسّك بالنص كما هو” دفاعا عن نص لم يعد له دفاع.
الفرصة ما زالت متاحة في مجلس المستشارين، ويكفي الإنصات مساء اليوم، الخميس 18 شتنبر 2025، لما قاله الرئيس السابق لهذا المجلس والكاتب العام لإحدى أكبر نقاباته، النعم ميارة، خلال لقاء خاص أجريناه معه بمناسبة الدخول الاجتماعي.
هذا الأخير قدّم مرافعة تدافع عن الحرية والتعدّدية والتمثيل السليم للصحافيين في مؤسسة تنظيمهم الذاتي، أي كل ما يغيب عن المشروع الحالي.
ستنظّم اللجنة المختصة في المجلس يوما دراسا حول هذا المشروع، وستكون أمامنا جميعا فرصة تقديم وقبول التعديلات التي تعيد القطار إلى سكّته، ولو نسبيا، ثم تتيح لمجلس النواب الذي طلب رأي المجلس الوطني لحقوق الانسان، لمراجعة هذا النص في إطار القراءة الثانية.
نستحق جميعا التشريع الذي يجوّد ويحسّن، بدل هذا الذي يهدم ويدمّر.