أخنوش وزير الإكراه!

هل يعود أخنوش بعد الانتخابات المقبلة أم يغادر المشهد؟
هذا أكثر سؤال يشغل المغاربة حاليا، لكن الجواب عليه لا يمرّ، كما يفترض، عبر أسئلة مثل “ماذا فعلت حكومة أخنوش في ولايتها؟” ولا حتى “كيف سيتصرّف الناخب المغربي بعد كل هذا الغضب الصامت والتذمّر العلني؟”.
يتردّد السؤال اليوم في الصالونات السياسية والمقاهي الشعبية، وفي مقالات الرأي كما في محادثات الناس العابرة. غير أن معظم الأجوبة التي تتردّد ليست سوى انعكاس لأمنيات أصحابها، أو تمرينات شعبوية تركب موجة السخط العام، بينما تظلّ القراءات الرصينة القادرة على الإقناع نادرة.
الحقيقة أن صعود أخنوش، وبقاءه أو رحيله، لا يمتّ بصلة لمنطق الانتخاب والمزاج الشعبي والتوازنات الحزبية كما عرفها المغرب لعقود. الرجل لم يصل إلى رئاسة الحكومة لأنه قدّم عرضا سياسيا، ولا لكونه أقنع الناخبين، أو حاز شعبية وقبولا عند الناس. بل هو نقيض لكل ما هو سياسي، وتصدّره للمشهد مؤشر دالّ على موت السياسة، أو تجميدها وتعليقها إلى أن تعيد نفسها بنفسها، والله وحده يعلم كيف.
لذلك، فإنّ كل محاولة لقراءة مستقبل أخنوش خارج هذا الإطار محكوم عليها بالخطأ، لأن العامل المحدّد لم يعد ميزان القوى الداخلي ولا حتى ميزان الشعبية، بل منطق الإكراه والضرورة الذي يُخضع الجميع، في ظل ضعف بيّن في جهاز المناعة الجماعي.
وفي مثل هذه اللحظات، تسقط الاعتبارات الانتخابية المعتادة، لتُستبدل باعتبارات أوسع، مرتبطة بموقع البلد في خرائط النفوذ الدولية، وبمدى قدرته على الاستجابة لضغوط اقتصادية وجيوسياسية لا تترك مجالا كبيرا للمناورة.
هنا لا يصبح السؤال هو “من يملك أصوات الناخبين؟”، بل “من يملك القدرة على ترجمة التزامات الدولة، الظاهرة منها والباطنة، إلى واقع عملي؟”.
ومن هذا المنظور، يتحوّل السياسي إلى “أداة” أكثر منه “فاعلا”، ويُعاد ترتيب مكانته بناء على ما يقدّمه من قابلية لخدمة هذه الضرورات، لا بناء على ما يملكه من قاعدة اجتماعية أو شرعية انتخابية.
هكذا يصبح السؤال الأجدر بالطرح: هل ما تزال الدولة قادرة على إنزال أخنوش من مقعد رئاسة الحكومة، بافتراض أنها استيقظت غدا وقررت ذلك، بعدما أقعدته عليه قبل أربع سنوات؟
ألسنا أمام مشهد شبيه بخروج العفريت من قمقمه فلا سبيل لإعادته، أو بالساحر الذي يستحضر الأرواح ثم يعجز عن صرفها؟
لقد سمعت في الأيام الأخيرة تقديرين متناقضين يعكسان بدقة هذا المأزق:
الأول، لشخص يفهم منطق الدولة كما يفهم كواليس الاقتصاد، وهو يعتقد أن “المخزن” إذا قرّر التغيير، فإنه لا يحتاج أكثر من شهرين لطيّ صفحة أخنوش وإعادته إلى حجمه الطبيعي، سياسيا واقتصاديا، مهما كان وزنه المالي وشبكة علاقاته المتشعّبة.
أما التقدير الثاني، فجاء من شخص خبر دهاليز الفعل السياسي ودوائر النفوذ، ويرى أن أخنوش بات أكبر من منصب رئيس الحكومة ذاته، لأنه لم يكتفِ بممارسة روتينية لصلاحيات رئيس الحكومة، بل أعاد هندسة هرم السلطة، عن طريق زرع الأوفياء (الأتباع) في مواقع المسؤولية الحساسة. ووفق هذا التصوّر، فإن نفوذ أخنوش صار متغلغلا في المؤسسات لدرجة تجعل أي خلف محتمل محتاجا لنصف ولاية على الأقل كي يفكّك الشبكة ويستعيد زمام القرار.
أنا أميل، من موقعي ككاتب لا يسعى إلى التمني بل إلى الفهم، إلى اعتبار “ظاهرة أخنوش” شبيهة بظاهرة أخرى طبعت السياسة المغربية في السنوات الأخيرة: التطبيع مع إسرائيل.
هذا التشبيه ليس من باب البحث عن الإساءة أو المجاز البعيد، بل من باب تشابه المنطق الذي أفرز الظاهرتين: منطق الإكراه العابر للإرادات وانعدام أي تفسير منطقي لسلوك دولة لا أعتقد شخصيا أنها تحبّ التطبيع أو تتحمّل ضريبة وجود أخنوش، لكنها تقبلهما مكرهة.
فغياب جواب شاف عن سؤال: لماذا يُصرّ المغرب على تحمّل كلفة علاقته بإسرائيل رغم كل الاحتجاجات والخسائر الداخلية من حيث الشرعية؟ يشبه غياب جواب عن سؤال: لماذا يظلّ أخنوش قائما رغم كل موجات الرفض الشعبي والفضائح التي أحاطت بمرحلة حكمه؟
للتدليل على صحة هذا الربط، يكفي استحضار معطى الزمن. فمعالم التطبيع برزت بوضوح منذ 2018 و2019، مع بعض الاتصالات وزيارات كوشنير السرية… وهي اللحظة ذاتها التي بدأ فيها تهيئ الأرضية لصعود أخنوش، بعدما كان منطق التطوّر الطبيعي للأحداث يفترض نهايته عقب حملة المقاطعة الشعبية واتهامات مجلس المنافسة لشركته بالتواطؤ في أسعار المحروقات.
لقد تدخّل منطق الإكراه والضرورة، فتم تجاوز المقاطعة وتفكيك مجلس المنافسة، وصعد الرجل إلى رئاسة الحكومة في انتخابات 8 شتنبر 2021؛ تماما مثلما تدخّل المنطق نفسه ليحضر الملك، بصفته أمير المؤمنين ورئيس لجنة القدس، لحظة توقيع رئيس حكومته الإسلامي، اتفاق عودة العلاقات مع إسرائيل.
الدرس هنا واضح:
نحن لا نتحدّث عن مسار طبيعي للتداول السياسي على السلطة، بل عن passage en force، وفرض الإرادة بقوة الضرورة، بما خلّفه ذلك من كسور وانهيارات في مسار السياسة وانصراف المجتمع عنها ما بين 2016 و2021.
لهذا لا يمكن مقارنة سؤال رحيل أو بقاء أخنوش بسؤال رحيل أو بقاء اليوسفي أو جطو أو الفاسي أو بنكيران أو العثماني.
إدريس جطو نفسه، وإن كان تكنوقراطيا، كان تعبيرا عن إرادة ملكية نُزِّلت فوق توازنات سياسية طبيعية نسبيا. أما أخنوش، فتم التمكين له بقرار فوقي.. فوقي جدا، لا نكاد نرى سقفه، لكنه حتما فوق الدولة نفسها، في سياق توازنات دولية وإقليمية فرضت نفسها، أو جرى الاستسلام لها.
من هنا، أجدني أقول: أخنوش باقٍ ما بقي عامل الإكراه. وإذا لم يُرفع هذا العامل، فإن استبدال أخنوش بغيره لن يحلّ المشكل، بل سيعقّد المشهد أكثر، لأن الشبكة التي بناها ستظلّ حاضرة، ولأن تكلفة إنتاج القرار وإعادة توزيع الغنائم ستتضاعف… بدل الصفقة سندفع كلفة صفقتين، ومقابل الفراقشي سنحتاج إلى إطعام فراقشيين.
المسألة إذن ليست في شخص الرجل ولا في فصول الدستور ولا في التوازنات السياسية الداخلية، بل في البنية التي أُنشئت حول الشخص، وفي منطق الضرورة الذي جاء به.
فشبكة النفوذ التي تكوّنت خلال السنوات الأخيرة لم تعد مجرّد امتداد لإرادة فردية، بل أصبحت بنية متداخلة من مصالح اقتصادية وسياسية وإدارية، متشابكة إلى درجة تجعل الفصل بينها وبين الدولة نفسها أمرا بالغ التعقيد.
هنا يتحوّل النقاش حول مصير أخنوش إلى ما يشبه مرآة أوسع تكشف عن طبيعة النظام السياسي المغربي برمّته، وعن الحدود الفاصلة بين ما هو داخلي صرف وما هو خاضع لإكراهات خارجية وإقليمية لا يمكن تجاهلها.
المسألة لم تعد مرتبطة بشخص يجلس في رئاسة الحكومة، بل أصبحت امتحانا لبنية القرار السياسي وكيفية تشكّله: إلى أي حد يملك النظام استقلالية في صناعة خياراته، وإلى أي حد يجد نفسه مجبَرا على الانخراط في مسارات مفروضة، سواء كانت رهانات اقتصادية أو تحالفات جيوسياسية؟
بهذا المعنى، يصبح الحديث عن أخنوش مناسبة لطرح سؤال أعمق عن السيادة الممكنة في زمن العولمة وضغط المصالح الكبرى، وعن قدرة الدولة على رسم مستقبلها دون الارتهان التام لشبكات النفوذ الدولية التي لا ترى في السياسة سوى أداة لتأمين استقرار السوق وترتيب الاصطفافات الإقليمية.
إن الأمر يتجاوز الحديث عن رجل أعمال قرر دخول السياسة، ليضعنا أمام سؤال جوهري عن الكيفية التي تُدار بها الدولة حين تصبح الخيارات الكبرى رهينة حسابات معقّدة، وحين تتحول الشخصيات إلى رموز لمرحلة تدار فيها السيادة بميزان الضرورات لا بميزان الاختيارات الحرة.
وأخطر ما تكشفه هذه الظاهرة هو أن السياسة في المغرب لم تعد فضاء لتداول البرامج والأفكار، بل أصبحت مجالا لإدارة الضرورات والإكراهات، حيث يُستحضر الفاعلون ويُصرفون بمنطق المصالح، لا بمنطق الاختيار الشعبي أو الديمقراطي.
من هنا، يصبح السؤال عن بقاء أو رحيل أخنوش سؤالا ثانويا أمام سؤال أعمق: هل نملك، كنظام وكمجتمع، القدرة على كسر حلقة الإكراه هذه، أم سنظل ندور في فلكها إلى ما شاءت “الضرورات”.