story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
سياسة |

صالح حشاد.. الطيار الذي حلق في سماء المجد وانتصر على سجون الظلم

ص ص

رحل عن دنيا الناس مساء السبت 13 شتنبر 2025، النقيب الطيار صالح حشاد، أحد أبرز رواد الطيران الحربي في المغرب وأحد الناجين القلائل من معتقل تزمامارت الرهيب، عن سن ناهز 87 عاماً.

رجل جمع بين المجد العسكري في بدايات الاستقلال، حين كان من أوائل الطيارين الذين أسسوا سلاح الجو المغربي، وبين محنة الأَسر الطويلة التي حوّلته إلى شاهد حي على أكثر فصول التاريخ السياسي المغربي قسوة.

وقد عاش مسيرة متقلبة، انطلقت من التحليق في سماء المجد العسكري، لتسقط فجأة في دهاليز المؤامرات والانقلابات، قبل أن تنتهي بين جدران السجن السري حيث قضى 18 عاماً من عمره.

ميلاد طيار واعد

وُلد صالح حشاد سنة 1938 بمدينة بني ملال، وسط المغرب، في زمن كانت البلاد تتهيأ لانتزاع استقلالها، والتحق سنة 1957 بالمدرسة العسكرية بمراكش، ومنها بدأت رحلته نحو الطيران الحربي، حيث أنهى عام 1959، تدريبه في فرنسا، ليصبح واحداً من أوائل الطيارين المغاربة.

وفي سنة 1960، شارك في قيادة طائرات “الميغ” السوفياتية التي أهداها الاتحاد السوفياتي للملك محمد الخامس، غير أن التحولات السياسية والعسكرية دفعت المغرب إلى الاصطفاف وراء الولايات المتحدة، لتبدأ مرحلة جديدة في مساره.

التتويج الأميركي

ابتُعث حشاد إلى الولايات المتحدة ليتلقى تدريبات على مقاتلات F5 في قاعدة أوكلاهوما، وهناك برز بقدرات استثنائية، متفوقاً حتى على زملائه الأميركيين، وحصل على درع الـ Top Gun، أرفع وسام يمنح للطيارين المقاتلين.

ليعود إلى المغرب محملاً بالخبرة، ويتدرج في المناصب داخل قاعدة القنيطرة، من قائد لسرب، إلى قائد فيلق، ثم رئيس للعمليات، غير أن القدر كان يخبئ له منعطفاً قاتلاً.

الانقلاب الفاشل

في صيف 1972، كان صالح حشاد يقود سرباً يرافق طائرة الملك الحسن الثاني العائدة من فرنسا، وفجأة تحوّل المشهد إلى محاولة انقلابية دامية، حين أطلق بعض الطيارين المرافقين نيرانهم على الطائرة الملكية، ورغم إصابتها، تمكنت من الهبوط ونجا الملك، لكن حشاد ورفاقه وجدوا أنفسهم متهمين ومطاردين.

أُدين حشاد ورفاقه بالسجن عشرين عاما رغم عدم معرفته بالعملية، وظن أن حياته ستستمر خلف القضبان العادية، لكن الوجه الآخر كان أفظع بكثير.

المقبرة السرية للأحياء

بعد صدور الأحكام، تم اختطاف مجموعة الضباط ونقلهم سراً إلى سجن تزمامارت في عمق الأطلس، وهناك، عاش حشاد ورفاقه عزلة مطلقة، حيث البرد القارس شتاءً، والحر اللاهب صيفاً، وانعدام الدواء والغذاء والهواء، حيث أنه من بين 58 ضابطاً، لم يصمد سوى 28، والباقون التهمهم الموت في صمت.

تحدث حشاد لاحقاً وآخرون عن جحيم تزمامارت وأيضا عن تفاصيل يومياتهم من اختراع لغة للتواصل بين الزنازين، وصناعة مرآة بدائية لتسريب الضوء، ورسائل مهربة من زوجته تحمل صور أبنائه بعد خمس سنوات من الوحدة القاتلة.

خارج الأسوار، كانت زوجته عايدة تقود معركة لا تقل قسوة عبر تسريب الأدوية، وطرق أبواب المنظمات، وإيصال صوت المأساة إلى الخارج بعد توصلها برسالة من زوجها عبر أحد السجانين تتحدث عن المعتقل السري.

وساهمت إلى جانب نساء أخريات مثل كريستين السرفاتي والأمريكية زوجة مبارك الطويل، في جعل قضية تزمامارت معروفة دولياً. وكانت رسالة ابنته “هدى” إلى الملك الحسن الثاني عام 1986 إحدى لحظات الانفراج التي كشفت المستور.

وبعد 18 عاماً خلف الأسوار، خرج صالح حشاد عام 1991 إلى النور، إلى جانب الناجين القلائل، وأعيد تأهيلهم في ثكنة أهرمومو العسكرية للعودة إلى الحياة، إلا أن آثار السجن لم تفارقهم.

لكن حشاد لم يستسلم لصمت الموت البطيء، بل كتب مذكراته التي تحولت إلى شهادة دامغة على حقبة حالكة، والتحق بركب من سبقوه مثل أحمد المرزوقي بـ”الزنزانة رقم 10″، ومحمد الرايس بـ”من الصخيرات إلى تازمامارت”، ليحفر اسمه في أدب السجون المغربي والعالمي.

وفي مساء السبت 13 شتنبر 2025، أعلن رفيقه في المحنة أحمد المرزوقي وفاة صالح حشاد في تدوينة على “فايسبوك”.

وبرحيله، يغيب واحد من آخر شهود الجحيم، لكنه يترك وراءه إرثاً مركباً: طياراً بارعاً حمل درع الـ Top Gun، وسجيناً عاش في قبر مظلم 18 عاماً، وناجياً قرر أن يروي، ليحفظ ذاكرة جماعية ويمنع تكرار المأساة.